مجلة الرسالة/العدد 272/الدين والأخلاق

مجلة الرسالة/العدد 272/الدين والأخلاق

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 09 - 1938



بين الجديد والقديم

لأحد أساطين الأدب الحديث

- 5 -

جاء في كتاب الأغاني أن الأخطل الشاعر قال لرجل من شيبان: (إن الرجل العالم بالشعر لا يبالي وحق الصليب إذا مر به البيت العائر السائر الجيد أمسلم قاله أم نصراني) وكل نقاد العرب قديماً وحديثاً يقولون مثل هذا القول سواء أكان الناقد من أدباء المذهب الجديد أم أدباء المذهب القديم. ولو أن محدث الأخطل سأله عن اليهود والبوذيين لأضافهم إلى النصراني في قوله. وأنت ترى أن الأخطل أراد أن يؤكد قوله فحلف بحق الصليب. وكان كثير من المسلمين يفضلون الأخطل على غيره من شعراء عصره بالرغم من النعرة الدينية في قوله. وكان يحدث هذا في صدر الإسلام ولم يكن الدين في صدر الإسلام أقل أثراً في نفوس المسلمين منه اليوم، وإنما كان الأدباء وسامعو الشعر أعرف بتذوق الشعر وأكثر حظاً من نشوته وأريحيته من قراء اليوم. ولم يكن بين الأدباء في صدر الإسلام من يحس خوفاً على منزلته بين الأدباء والشعراء فيدفعه إلى أن يقول إن النصرانية أسقطت شعر الأخطل. نعم إن جريراً يعير الأخطل بخضوعه لرجال دينه. ولم يبحث النقاد عن عقيدة أبي تمام كي يحكموا بها على شعره. ولم يقل أحد من أمراء الشعر والنثر في عصور الأدب العربي إن الأُخُوَّة في الشعر أُخُوَّةَ في الله، أو أن الأُخُوَّةَ في الله أُخُوةٌ في الشعر. فهل كان أمراء البيان في الشعر والنثر في تلك العصور الطويلة على ضلال لا يفهمون الشعر ولا يجيدونه ولا يتبينون أصوله وشروطه وسننه ولا يعرفون كيف يتذوقونه؟ أم أنهم أصابوا عندما قصروا الأخوة في الدين على شعر حواشي ومتون كتب الفقه الديني؟ أليس ادعاء بعض أدباء العصر إحلال عامة الشعر منزلة شعر حواشي الفقه الديني دليلاً على فساد الذوق الشعري في هذا العصر؟ ثم أليس في اتخاذهم وسائل الدول السياسية بنشر الدعوة ضد منافسيهم واتهامهم أنهم أنصار إبليس والرذيلة، ما يدل على جانب من الضعف، وعلى أنهم إنما يريدون استغلال تعصب العامة وأشباه العامة في عصر لا يدرك فيه الرأي العام الشعر كما كان يدركه الرأي العام في عصر الأخطل؟

وليت أن هذه الوسائل كانت تعين على عز وجاه في بلد للشعر فيه كل العز والجاه والمال، ولكنها وسائل لا تغني فتيلا ولا تقرب من عز أو جاه أو مال، لأن هذه أمور لا تنال بالشعر إلا التافه الحقير منها وما أكثر طلابه.

أما الأستاذ الغمراوي فليست له مطامع دنيوية، وإنما هي العقيدة التي تقدمت به وبهذا المبدأ الذي يريد أن يسنه للشعراء؛ ولكنه لو كشف له عن سريرة الأدباء جميعاً حتى أشدهم تعصباً للقديم لوجد في سريرتهم أنهم يقولون كما قال الأخطل وأنهم يعرفون من أدب اللغة العربية ما يقصر أُخوة الدين على شعر الحواشي والمتون.

قال الأستاذ الغمراوي إن أدباء المذهب الجديد يأخذون عن الأوربيين ما يخالف التقاليد الإسلامية، وأنهم إذاً يريدون (تغلب دين على دين) أي دين الأوربيين على دين العرب المسلمين، وإنهم يبيحون الشهوات، وإنهم أنصار الرذيلة. وقد ناقض الأستاذ نفسه في هذا القول لأنهم لو كانوا يريدون تغليب المسيحية حقاً ما أباحوا الشهوات ولا كانوا من أنصار الرذيلة. وإن إباحة الشهوات ليست مذهباً في الشعر أو النثر جديداً، ففي الأدب العربي في كل عصر من هذه الإباحة ما ليس له مثيل في هذا العصر. وكان الأدباء المبيحون للشهوات أمثال بشار وغيره لا يدينون بدين. وإن أدباء المذهب القديم في عصرنا لا ينكرون أن بشاراً وأبا نواس وغيرهما من مذهبهم الذين يدافعون عنه، أي المذهب القديم، وإن الفضائل إذاً ليست عامة فيهم والرذائل ليست عامة في خصومهم ولا التدين أيضاً، وإنما هم يعرفون أن سليقة الشعر فسدت في أكثر القراء والرأي العام عموماً في عصر عظمت فيه قوة الرأي العام ونفوذه، فهم يريدون استغلال تعصب الرأي العام الذي فسدت فيه سليقة الشعر ولم يبق له أو لطائفة كبيرة منه غير النعرة الدينية التي يريدون أن تستبيح كل شيء حتى المجون ابتغاء مرضاة الله. فقد بلغ القراء خبر الحفلة التي أقيمت لإحياء ذكرى حافظ بك إبراهيم، وقد نشرت الصحف القصائد التي قيلت فيها، وكان بها من المجون ما لو قاله أحد الأدباء الشبان من أنصار المذهب الجديد لقال أدباء المذهب القديم للناس: انظروا إلى خصائص المذهب الجديد كيف يستبيح المجون في حضرة كبار رجال الدولة والذين ينوبون عن المقام السامي! أما والذين نظموه لم يكونوا من أدباء المذهب الجديد فهو إذاً ورع وتقوى وغيرة سامية على الفضائل في القول والعمل. هكذا ألف بعض الأدباء مجون الشعر العربي القديم حتى صار يُعَدُّ من الأخلاق السامية. وما على الأديب في هذا العصر إلا أن يعلن على رءوس الشهود أنه من أنصار المذهب القديم فيباح له كل شيء من أجل عدائه للجديد. ويكون مثله مثل الرجل الذي إذا عده العامة من أولياء الله الصالحين رفعوا عنه (الكلفة) وأباحوا له ما لا يبيحون لغيره من عباد الله. فإذا أرتكب أحد (أولياء) العامة أمراً (ينتقد) وحاول أحد النظارة أن يعيبه به تجمهر الناس حوله وكل يقول له: أتركه يا شيخ ولا تعبه، لأنه من أولياء الله وعباده الصالحين وقد رفعت عنه (الكلفة) فهو غير مسؤول عما يفعل. ومن الغريب أن بعض الأدباء أراد أن يفهم الحاضرين أن حافظ بك مات شهيد الحرب التي شنها عليه أدباء المذهب الجديد، ولم تكن هناك حرب وإنما انتقده الأستاذ المازني نقداً بريئاً خالياً من الفحش والمجون. أما الحرب فقد كانت سجالاً بين أنصار حافظ وأنصار شوقي وكان الفريقان من أنصار المذهب القديم وكانا يستبيحان كل سلاح مهما كان، وتشهد بذلك نسخ الجرائد الأسبوعية التي طبعت في ذلك العهد. وكان أشد الناس حرباً على حافظ بك أنصاره من المرتزقة وكانوا يصنعون صنع الجنود المرتزقة فيخذلونه في أثناء المعركة من أجل رشوة وأجر مُطمع من خصمه

فإذا كان حافظ بك قد هزم في بعض معاركه فالذنب ذنب الجنود المرتزقة الذين خانوه والمعركة قائمة ولم يقدر خيانتهم. ولم يكن للمذهب الجديد وقتئذ أنصار عديدون، ولو قامت بينه وبينهم معركة ما استطاعوا لكثرة أنصاره أن ينالوا منه، ولم يكن لهم حول حتى يدبروا له الدسائس. فكل ما قيل من هذا القبيل في الحفلة من قبيل السمر بالقصص الخيالية، وله منفعة أخرى جلب العداء لأنصار المذهب الجديد بالطريقة التي بها يجلب لهم العداء إذا قيل إنهم أنصار إبليس اللعين. ولو أن حافظ بك إبراهيم كان اليوم حياً لضحك ضحكاً كثيراً إذا سمع ما يقوله أدباء المذهب القديم من أن أدباء المذهب الجديد نالوا منه ودسوا له. نعم إن الرجل كان محاطاً بالوشايات والسعايات من الأدباء، ولا نعني أهل السياسة فهذه مسألة أخرى، وهذه الوشايات كان يتقدم بها الأدباء إما نكاية من بعضهم لبعض واستعانة بحافظ بك في تلك النكاية، وإما نكاية لشوقي منافسة كما كان جلساء شوقي يسعون عنده بحافظ نكاية له ولو أنا رجعنا إلى ما أُلف من المقالات والكتب منذ ثلاثين سنة ما وجدنا أثراً لهذا الاصطلاح: أعني اصطلاح تقسيم الأدب إلى جديد وقديم، وإنما كان الشعراء الذين يسمون الآن أدباء المذهب الجديد يدعون إلى نبذ شعر الغزل المتكلف الذي كان مقدمة لقصائد المدح والهجاء والسياسة، ونظم الشعر فيما تحسه النفس من حب أو غير حب على طريقة شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. وكانوا أيضاً يدعون إلى نبذ المغالاة في المحسنات اللفظية التي أولع بها شعراء الدولة العباسية والرجوع إلى طريقة شعراء الجاهلية وصدر الإسلام في تفضيل صنعة العاطفة أو ذكرى العاطفة (وذكرى العاطفة عاطفة). وكانوا أيضاً يدعون إلى نبذ التضييق في أبواب الشعر ونبذ المغالاة في تقييد حرية القول والرجوع إلى شيء من حرية القول التي كانت في كثير من عصور الشعر العربي القديم من غير دعوة خاصة إلى إباحة حرية القول من أجل الإباحية في الخلق

هذه كانت مبادئهم؛ فهم إذاً كانوا أخلق بأن يدعوا رجعيين، فهم كانوا رجعيين في طلب احتذاء شعراء الجاهلية وصدر الإسلام في وصف أحاسيس النفس وخواطرها رجوعاً عن الغزل الصناعي وأبواب القول الصناعي التي أولع بها المتأخرون. وكانوا رجعيين في طلب احتذاء سهولة العبارة وأقربها دلالة على الإحساس والمعنى كما كان يفعل شعراء الجاهلية وصدر الإسلام رجوعاً عن المبالغة في الصناعة التي أولع بها العباسيون. وكانوا رجعيين في طلبهم ألا يقصر الشعر على معان متفق عليها كما كان المتأخرون يفعلون والرجوع إلى طريقة المتقدمين في إظهار كل شاعر خصائص نفسه وفكره وأن يباح له القول إذاً أكثر مما كان يباح للمتأخرين

فالنزعة إلى التجديد كانت في أول الأمر نزعة رجعية كما ترى؛ واتفق أن أنصارها قرءوا الشعر الأوربي فرأوا أن مبادئ رجعيتهم هي مبادئ الأدب الأوربي الصحيح السليم، وأن الأدب الأوربي يعينهم على تحقيق تلك الرجعية، وأنه إذا تقدم بهم الأدب الأوربي فيكون تقدماً كما كان يتقدم أدب الجاهلية وصدر الإسلام لو أنه لم تعترضه عوارض الجمود والقيود المصطنعة التي تغلبت على الأدب العربي بعد ذلك

فإذا كانت هذه النزعة قد دخلتها المغالاة فهي أمر طبيعي يعترض الأمور في أول الأمر حتى تستقر؛ وإذا كانت قد تفرعت منها فروع بعيدة فهذه سنة طبيعية، فالقرامطة والحشاشون والباطنية فروع بعيدة تفرعت من الشيعة كما تفرعت الشيعة من الإسلام. وربما كان من تلك الطوائف البعيدة ما ينكره الشيعة. كذلك تفرعت من نهضة التجديد الرجعية فروع بعيدة ولا تزال تتفرع، ومن يحاسب نهضة التجديد عليها كمن يحاسب المسلمين عموماً على عقائد بعض الطوائف التي تفرعت من الإسلام

تفرعت من شيعة التجديد طائفة لم تراع أنه إذا أريد الإقلال من صناعة العباسيين فلا بد من الإكثار من سلامة أسلوب كأسلوب شعراء صدر الإسلام مع تجنب حوشي الكلام، فدعت هذه الطائفة إلى أن يكون أسلوب الشعر أقرب الأساليب إلى لغة الكلام؛ وهذا لا عيب فيه إذا روعيت سلامة اللغة والعبارة. وتفرعت طائفة لم تراع أن وصف أحاسيس النفس وخواطرها ينبغي ألا يبلغ حد الإباحية في الخلق إذا أريد أن يحل شرح الأحاسيس والخواطر وبحثها محل الغزل وأبواب القول المصطنعة التي أولع بها المتأخرون. ولا ننكر أن أشد الشعراء حيطة في وصف النفس الإنسانية وخواطرها على هذه الطريقة قد يشتط في بعض قوله، ولكنه شطط محدود ولا يهدم فضيلة المذهب، كما أن الغصة أو التخمة لا تقضي على فضيلة الأكل والطعام. وتفرعت طائفة لم تراع أن تجديد المعاني والأخيلة ينبغي ألا يتعدى المعاني والأخيلة التي يقرها ويفهمها العقل البشري سواء أكان مصرياً أو إنجليزياً أو صينياً. أما الأخيلة البعيدة وأوجه الشبه القصية والضئيلة والتي لا قيمة لها ليست من أوجه التشبيه في الشعر الراقي الذي يعد من الطراز الأول في أي مكان. وتفرعت طائفة ترى أن انقطاع الصلة بين الرموز والأمور التي يرمز إليها بالرموز، وتدخل صور الرموز بعضها في بعض، مما يروق بعض القراء لأنه يروع نفوسهم، ونسوا أن طمس معالم الصور إذا راق فترة لجماعة ليس من وسائل الشعر الخالد الذي يروق العقل البشري العالمي في كل زمان ومكان. وتفرعت طائفة تريد أن تحكم الوعي الباطني (أو العقل الباطن) بدل تحكيم ملكات العقل الظاهر المألوف، ورأوا أن هذه وسيلة للغوص إلى أعماق النفس ونسوا أن الغوص في أعماق النفس يقتضي يقظة الوعيين والعقلين الظاهر والباطن واتفاقهما وإلا كان ما يقوله القائل بالوعي الباطن وحده لا قيمة له

إن أدباء المذهب القديم عندما يحدثون عن نهضة التجديد يغفلون أسبابها والضرورة الاجتماعية التي دعت إليها، وأنها في أولها كانت نزعة رجعية أو شبه رجعية، وأن الأدب الأوربي درس ليشد أزر الرجعية المقبولة، وأن الطوائف المتطرفة التي تفرعت من النهضة لا تمثل النهضة كلها، وأن النهضة لا يحكم عليها إلا بأحسن مظاهرها، وأن أدباء المذهب القديم هم أيضاً قد تأثروا هذه المبادئ الرجعية الحميدة التي تحث عليها نهضة التجديد

(قارئ)