مجلة الرسالة/العدد 273/بين اللغة والأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 273/بين اللغة والأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1938



الفالوذج

للأستاذ محمد شوقي أمين

- 3 -

صنفه السوقي، هل وضع له أسم عربي، قول الثعالبي، نقل

السيوطي، رأي السكندري، فصيح الألفاظ في معناه

- 4 -

ولما تألق الفالوذج في دنيا المطاعم، وازَّينت به موائد الأثرياء، تسامع به العامة، فتحلبت له شفاههم، وتشوفت إليه شهواتهم، فراح السوقيون من صناع الأطعمة وباعتها يلهوجونه على ما يعرفون من صفته، فيخرجونه مسيخاً مليخاً لا تأنق في طهيه، ولا استجادة لمادته، حتى يتسنى لهم أن يبيعوه بالثمن القليل الذي لا تعجز عنه طاقة العامة من رقاق الحال وذوي العسرة. ولم يكن هذا الصنف المبتذل من الفالوذج إلا بهرجة صبغ، وتضوُّء بريق فافتضح على الأيام زيفه، وثأرت لأذواقها الألسنة بذمة، فقيل في كل من حسنت جهيرته، ولم تطب سريرته: فالوذج السوق وصارت الكلمة مثلاً سائراً يتناقله الأدباء والشعراء، ومن أمثلة استعماله قول ابن حجاج، وهو الشاعر المزاح السليط الذي ترجم له الثعالبي فأوفى:

أعززْ عليَّ بأخلاق وُسِمتَ بها ... عند البرية يا فالوذج السوق!

وقد أثبت الميداني هذا المثل في أمثال المولدين، وأضاف إليه توأماً له، ذلك هو: فالوذج الجسر. ولا بد أن يكون باعة هذا الصنف الملَهْوَج كانوا يجولون به، فيعرضونه للعامة في الطرق الصادرة والواردة. وبَديه أن من أحفلها بالناس: المعْبَر. فهو ملتقى السابلة من الطبقات العاملة، يغدون على الحاجات؛ ويروحون بالسلَع. فيبلون لهواتهم بالفالوذج المسموع به، الشهي مذاقه، الرائع منظره، ومن ثم شاع اسم فالوذج الجسر، إلى جانب فالوذج السوق، وكانا مثلين لذي المظهر بغير مخبر! - 5 -

أسلفنا القول في صفة الفالوذج، على ما استنبطناه مما أنهته إلينا نقول الأدب والطرائف، وأدرنا الحديث قبل ذلك في لفظه والوجه في تعريبه كما تعرفناه في نصوص المعجمات وما في حكمها. فبان لنا أن اللغويين مجمعون على أنه معرب، فهو في عديد الألفاظ التي اغتنمت العروبة، وارتضى تجنيسها القُوَّام على الفصاحة.

وبقي أن نعرف: هل وضع العرب لهذه الحلواء اسماً فصيحاً غير اسمها الأعجمي، أو اكتفوا باستعمالهم لهذا الاسم بعد تعريبه وإلحاقه ببنات الضاد؟!

ساق الثعالبي جملة أسماء تفردت بها الفرس دون العرب؛ وقال: إن العرب اضطرت إلى تعريبها أو تركها كما هي، وجعل يعد من هذه الأسماء، فإذا من بينها الفالوذج. وقد نقل السيوطي فصل الثعالبي برمته، ما تعقبه بنقد، ولا استدراك عليه من شيء. فهل يريدنا ذلك على أن نعتقد أن العرب اكتفوا بالاسم الأعجمي، ووقفوا عنده، فلم يضعوا لهذه الحلواء لفظاً تقر به عين الزارين على التعريب مهما تمس إليه الحاجة، الضانين بالجنسية العربية على الدخيل، وإن ملك الألسن، وتراوحت عليه الأحقاب؟!

إن قول الثعالبي ونقل السيوطي خليقان أن يهيئا للباحث هذه العقيدة، ويغرياه بها. ولعل ذلك هو الذي مَهَدَ لعلامة الفقه اللغوي الشيخ أحمد الإسكندري - رضوان الله عليه - أن يقول فيما يستعمل من الألفاظ وما لا يستعمل: (وإذا سبق أن استعمل لفظ أعجمي زمن العرب كالفالوذج الذي عرف من أيام الرشيد، فمثل هذا في الواقع لم يكن من تعريب العرب، بل أطلقه طباخ أعجمي، وسمعه العرب واستعملوه؛ فمثل هذا وفُقِّنا إلى لفظ عربي سهل له، استغنينا عنه، لأن الواضع له في الحقيقة أعجمي لا عربي. . .)

فأما قول العلامة الإسكندري إن الفالوذج ليس من تعريب العرب، فهو قول ينفرد به، ولم أجد من سبقه إليه، بل لقد أصفن اللغويون على أنه معرب، وقد جاء في حديث للنبي صلوات الله عليه، أضف إلى ذلك أن العلماء القدامى ناقشوا في تصريفه، وجادلوا في تعيين حروفه. ولا يأخذ لغوي نفسه بهذا الصنيع، إلا إذا كان اللفظ معرباً أُفسح له في البقاء، فوجب توضيح زيه وشارته التي سيبقى بها في وطنه الجديد. وإن لزاماً علينا أن نشير إلى أن قول الإسكندري إنما جاء في عرض حديث شفوي شأنه الإعجال والإرتجال، وهو منقول عنه، ومنسوب إليه، لا مكتوب بقلمه، ومثل هذا لا يؤخذ به صاحبه كما يؤخذ الكاتب راجع ما كتب وحققه على نص ما يريد. والرجاء أن نكون بذلك قد أنصفنا ذكرى رجل نعرف له الفضل والبَصارة، وتطوي له النفس على التجلّة والإكبار.

وأما رغبته في البحث عن لفظ عربي، يوضع للفالوذج اليوم جديداً من الوضع، فقد أداه إليها ما علمه وقدمنا بيانه من قول فقهاء اللغة: إن العرب تركوا الفالوذج على ما هو عليه، فأفهم قولهم هذا أنه لم يوضع له في سالف الزمن لفظ فصيح؛ ومن ثم وجب عنده أن نعمد إلى البحث والتفتيش حتى نوفق إلى لفظ عربي سهل، نستغني به عن الاسم الأعجمي، كما توضع اليوم المصطلحات الجديدة للأشياء المستحدثة بالطرق المعروفة من نحو المجاز والنقل والاشتقاق.

- 6 -

ولقد رصدت عيني منذ عهد ممدود لهذا الشأن فيما أرتصدها له من مباحث الفصحى؛ فتتبعت مواقع الفالوذج في أشتات الكتب، وفتشت عن ألفاظه في أجلاد الألفاظ، واستقريت منها ما راج لي أن أستقري، فتحصل لي من صحاح العربية: اثنا عشر لفظاً، وضعها العرب ليقوم كل منها مقام الفالوذج الأعجمي. ولم أر من المتحققين باللغة من أستوعى هذه الألفاظ، فلاءم بينها بعد الشتات والفرقة، وسوى بها فصلاً من فصول الفقه اللغوي، على نحو ما يصنع الأئمة في المعنى يؤدى بغير لفظ فذ، فقد ظلت هذه الألفاظ في المعجمات اللغوية أباديد، فجعلتها في هذا المعرض فصل من نتاج الاستقراء والتلقط جديد، لم يسبق إليه أحد، فيمن أجد، ولا مسه قلم فيما أعلم.

(للبحث صلة)

محمد شوقي أمين