مجلة الرسالة/العدد 274/عود على بدء

مجلة الرسالة/العدد 274/عود على بدء

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 10 - 1938



بين الغرب والشرق

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

(بقية المقال الرابع)

8 - يسخر المناظر من قولنا أن هناك صلة اليوم بين الثقافة والعلم على اعتبار أن الثقافة تنبثق من العلم، نظراً لأن الحياة اليوم ينظمها العلم بقواعده المادية - ويقول: أي صلة المبادئ الأدبية التي يقوم المجتمع عليها وبين علم طبقات الأرض. ونحن نقول إن هناك صلة، ومرد هذه الصلة أن العلم بكشفياته يقيم حياة مصبوبة على نمط معين، ويتأثر هذا بهذا النمط الإنسان في شعوره واتجاهاته ومنحاه، بيان ذلك أن علم طبقات الأرض - وهي التي ضرب بها مثل المناظر - بما تنتهي إليه من اكتشافات لها أثر في الحياة الأدبية، ذلك أنه من المعروف الآن أن الكشفيات الأخيرة في الصعيد من جهة أسوان كشفت عن مناجم للحديد يمكن استغلالها لمتوسط نصف مليون طن سنوياً لألفي عام. فهذا الاكتشاف الذي مرده البحوث العلمية في طبقات الأرض لو استغل استغلالاً صناعياً في مصر لأقام صناعة في مصر يشتغل فيها على أقل تقدير ثلاثة ملايين عامل، ومثل هذه الحياة الصناعية تحدث تغيراً في الحياة الأدبية والتصورات الأخلاقية، إذ يحدث تطور من صور حياة أدبية لشعب زراعي إلى حياة تكافئ جماعة أخذت بالصناعة، وعلى هذا الوجه يستبين مفهوم كلامنا ولقد ضربنا مثلاً بمصر وبطبقات الأرض التي شاء مناظرنا أن يسخر اعتماداً عليها من قولنا بانبثاق الثقافة من العلم في مدينتنا الراهنة لتظهر حقيقة غائبة عن العقول في مصر الحديثة في منحى الأخذ بها نحو الحياة الأوربية الصحيحة بإقامة مجتمع صناعي فيها

أما محاولة المناظر التلاعب بكلامنا بإظهاره في صورة يخترمها تناقض، فهذا ما نأخذه ونحاسبه عليه، فلقد قلنا أن الثقافة تنبثق من العلم ومعنى هذا أن الثقافة شيء والعلم وشيء، وأخذنا على اليابان أنها أخذت بنتائج العلم الأوربي ولم تأخذ بالعلم الأوربي نفسه فكان نتيجة ذلك أنها عاشت عالة على أوربا في علمها وحضارتها؛ وأنها احتفظت بثقافتها التقليدية مع الأخذ بنتائج العلم الأوربي، بمعنى أنها لم تأخذ بعلم أوربا وتقيم لنفسها ثقافة تقليدية جديدة تتكافأ مع العلم الأوربي ومنطقه وتنبثق من أسسه. فأين التناقض في قولنا هذا؟

لا يا صديقي، لا يكون الكلام بإسقاط بعض القول. قلنا أن اليابان أخذت بنتائج العلم الوضعي، فجعلتها يا صديقي أنها أخذت بالعلم الوضعي، وشتان بين الاثنين!

لسنا جوادي رهان نتسابق. ولسنا في مجال نريد أن ننتصر لرأينا حقاً أو باطلاً. إن في أعناقنا مصير قضية ملايين من حيث تعلق مصيرها بقضية الغرب والشرق فيجب أن تكون وجهتنا الحقيقية وعدم تزييف الكلام. . .

9 - يشكرنا المناظر على قولنا بأن المنطق شيء مشاع بين الأمم، ظاناً أننا كنا أنكرنا مشاعيته من قبل، وهذا ظن عريق في الوهم. فنحن لم نغير من موقفنا شيئاً. . . (المنطق مشاع ولكن يجب أن تمرن الأمم عليه قبل أن تصبح متغلفة في تفكيرها، إذ ليس المنطق أسلوباً في التفكير يتبع وأقيسة يجري عليها، إنما هي قبل كل شيء ميل عقلي واتجاه ذهني يمكن أن يكتسب!

هذا ما قلناه في مقالنا الأول، فنحن عند رأينا بأن للمحيط أثره في المنطق والتفكير المنطقي. للمحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي أو بتعبير أدق لنتوج الصلات والفواعل المتخالطة من المحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي أثر في المنطق من حيث هو ميل عقلي واتجاه ذهني، وفي هذا سر قعود الشرقيين عن مجاراة الغربيين، لأن منطقهم حينما يتكافأ ومجتمعهم ذا الطابع الغبي، وحين يتغلب الطابع اليقيني على هذا الشرق فهذا المنطق الغبي سيقف عقبة كؤودا في طريق رقي العالم الشرقي.

سيأتي ذلك اليوم قريباً وذلك الزمان وشيكاً، وستقوم العقلية اليقينية في الشرق والمنطق الاثباتي في العالم العربي نتيجة لتغلب الاتجاه الغربي على هذا الشرق بحكم كون الغرب مركز الجذب الاجتماعي في عصرنا. إذا فلسنا نحن في حاجة إلى الانتقال إلى الغرب لاكتساب عقلية يقينية كما يقول المناظر، إنما كل ما نحن في حاجة إليه أن يتقوى الاتجاه نحو الغرب فتقوم العقلية اليقينية بين ظهرانينا. ومع هذا فالدلائل قائمة على أن العقلية اليقينية أخذت طريقها إلى هذا الشرق، وهي أوضح ما تكون في المفكر المصر البحاثة إسماعيل مظهر وفي جماعة يحتذون حذوه اليوم.

أما ما يثيره من اعتراض لتعبيري بالفلسفة الإسلامية عن فلسفة أبن سينا والفارابي وأبن رشد بأن فلسفة المفكرين في الإسلام لم تكن تمت إلى الدين بصلة، وليست إسلامية ولا مسيحية فمرد ذلك التباس في فهم مفهوم عبارتي، فاصطلاح الفلسفة الإسلامية يعني فلسفة الفلاسفة الذين ظهروا في الإسلام، أو بتعبير أدق يعني الجانب الفلسفي من المدنية الإسلامية. وإذاً يكون كل ما يبغيه على اعتراض ساقط بسقوط الاعتراض نفسه

10 - يتعجب المناظر الفاضل من تحليلنا الفلسفة الإسلامية إلا أنها تقيد إرادة الله بنظام هذا الكون وسننه. واعتبارنا أنها نتيجة للأثر الإغريقي التي توارثته عن مدارس النساطرة والاسكندريين، والواقع أني حائر صدد هذا التعجب الذي لا أفهم له معنى. ولولا حسن ظني بثقافة مناظري وعلمه لقلت إن مرّده عدم الوقوف كلياً على فلسفة فلاسفة الإسلام خاصة والفلسفة عامة، وإلا فما معنى التعجب من تقييد إرادة الله بنظام هذا الكون وسننه؟

ولولا خشية الإطالة لكنت سمحت لنفسي أن أنقل نتفاً من كتب الفلاسفة أشرح لمناظري الفاضل هذه المسألة، وأظن أن في إمكانه أن يغنيني مشقة هذا النقل بأن يراجع كتب الفلسفة وخصوصاً المطولات منها فيما يتعلق بإرادة الله والخلق والإبداع. .

وهناك أشياء لو ذهبت أعلق عليها وأبين زيفها في ردّ المناظر علينا، لانتهت إلى مقالين آخرين، غير أني اكتفي بما اجتزأته في هذا المقال والمقال الذي سبق ففيه الكفاية لإظهار زيف ما ذهب إليه مناظرنا الفاضل، وإني لأرجو مناظري إن شاء أن يعاود الرد ألا يترك لشاعريته المجال فيصول ويجول ويتدفق على غير أساس علمي أو منهج بيّن، وإلاّ لتعذر النقاش. فها هو لم يخرج في كل رده بما يؤيد وجهة نظره أو يرد على وجهة نظري من الاجتماع والتاريخ

لقد كان المناظر كالشلال الهدّار المتدفق في رده، ولكن كان مردّ هذا طبيعته النفسية، ولهذا كانت تتكسر أمواجه على حقائق الاجتماع والتاريخ فما يفيق من الاصطدام بالواقع الملموس وما تقيمه من حواجز أمامه حتى يعود فيرتد ليتدفق من جديد في اندفاع مردّه كما قلنا طبيعته القوية، ولكن ليصطدم بحقائق الواقع فيرتد لينسبط ويتعرج لآفاق وأودية جديدة، وهكذا. . . ولكن إلى متى أيها الصديق؟ إني أعوذ الصديق من وضعه منطقه الخطابي وأسلوبه الفياض في نصرة قضية زائفة إلى الحد التي لا تجد لنفسها ما يسندها وتقوم. . . وإني وإن كنت قد شددت القول على صديقي المناظر فما بي الحاجة أن أقول له إن مردّ هذا ما يمليه الموقف علي، وصديقي يعرف ماله من الاعتبار عندي، فلعل فيما قدمت ما يعتذر عني عند الصديق الكريم وحسبي في كل ما كتبته الحقيقة، والحقيقة ضالة الإنسان في هذه الحياة، لا يرتاح إلا بأن ينتهي إلى وجه منها.

(أبو قير)

إسماعيل أحمد أدهم