مجلة الرسالة/العدد 276/الصقر نحن به أولى

مجلة الرسالة/العدد 276/الصقر نحن به أولى

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1938


للأستاذ عباس محمود العقاد

كتبنا في (الرسالة) قبل عام كامل على التقريب مقالاً عن الحكيم الحاكم (مازاريك) رئيس الجمهورية في بلاد التشك والسلواق ختمناه بما يأتي:

(سيرة الرجل عبرة لا تنقضي ودروس لا تنفذ. أولها: أن الفيلسوف لن يسلم من لوثة الحكم والسياسة ولو أضمر الخير وأسلف الجهاد الطويل في قضايا المظالم والشكايا. وثانيهما: أن الديمقراطية لا تسلم في وطن تختلف أجناسه ولغاته وأديانه وطبقات الحضارة فيه إلا على أساس الولايات المتحدة التي يستقل فيها كل فريق بالحكم والتشريع. وثالثها: أن أوربا الوسطى لا تزال كما كانت قبل الحرب العظمى غيلا تصطرع فيه ضواري الأحقاد ويوشك أن يندفع بالعالم مرة أخرى إلى حرب لا تؤمن لها عاقبة. وإننا على ما انتاب الديمقراطية من خيبة، وما تعاورها من نقص وتقويض لا تزال على إيمان وثيق بأنها هي كهف السلام ومعقل بني الإنسان، ومآل الحكم في المستقبل البعيد إن لم يعجل لها النصر في مستقبل قريب

(فالدول الديمقراطية لا تبغي الحرب كما تبغيها الدول الدكتاتورية؛ وبريطانيا العظمى، وفرنسا، والولايات المتحدة، لا يخشى منها على سلام العالم كما يخشى من إيطاليا، وألمانيا، واليابان والجمهوريات الروسية)

كتبنا هذا المقال على أثر وفاة مازاريك، ودار العام والحوادث تثبت لنا أن كثيراً من المسائل الأوربية خليق أن ننظر إليه كأنها مسائل (محلية) نكترث لها في أوانها وقبل أوانها لنصبح على أهبة دائمة للقائها، ثم نثبت لنا الحوادث أن الجمهورية التشكية لو بادرت إلى تعميم نظام الولايات المتحدة بين شعوبها الصغيرة لكان ذلك خيراً لها، وإن كنا لا نظن أن أسباب الأزمة الدولية الأخيرة تنحصر في هذه الوجهة، لتعدد وجهات المسائل الدولية عامة

ولا أدري لم نشعر بالعطف على بلاد الفيلسوف مازاريك ونود لها الحياة والسلامة؟ فلعل السبب الأول أنها هي بلاد الفيلسوف مازاريك وأنها (تشخصت) في مثال إنساني رفيع محمود العمل والأثر معروف في عالم الأدب والحكمة معرفة الناس به في عالم السياسة والإدارة والكفاح

ولعل أسباباً أخرى ترفد ذلك السبب الوجيه الراجح، ونعني بها الأسباب التي توجب العطف على كل شعب صغير مجاهد صبور يحمل من الأعباء فوق ما يطيق، ولكنه لا يرزح بتلك الأعباء ولا يعالجها بالحول والحيلة حتى يروضها ويمشي بها إلى غايته القصوى وهي أشرف الغايات، لأنها غاية الحرية والثقافة والجمال

شعب مازاريك مثل جميل من أمثلة الجهاد الحسن في سبيل الحرية والقوة والجمال، سلبته الدولة النمساوية سلطانه فلم يستسلم ولم يركن إلى الخنوع والمهانة، وصنع ما هو أنبل وأكرم من ذلك لأنه جاهد في رفع الضيم فلم يقصر جهاده على المؤامرات والمشاغبات وحوادث الغيلة والانتقام، بل عمد إلى التعليم فأشاعه بين أبنائه حتى محا الأمية محوا قبل أن تفلح الشعوب القوية في محوها من بلادها. ثم لم يكفه ذلك حتى أدرك أن الكتابة والقراءة لا تكفلان وحدهما الغلبة والحرية للشعوب الضعيفة، فأضاف إلى سعيه في نشر التعليم سعياً آخر في نشر الفتوة بمعناها الأصيل، ومعناها الأصيل في عرفنا أن يكون الإنسان شهم النفس شهم الجسم شهم الذوق سريعاً إلى ما يجمل ويحسن بأدب الإنسان وذوقه واستجابته لدواعي الحياة

تلك هي حركة (الصقر) التي شاعت في أوربا باسم (الصكل) وقلنا في عنوان هذا المقال إننا نحن أولى بها من غيرنا، لأننا نرجح أن أصل الكلمة عربي أخذته أمم السلاف من جيرتها الأسيوية إذ تعلموا الصيد والفروسية قديما من سادات العرب يوم غلبة سلطانهم على أواسط آسيا وتخوم بلاد المغول، فأصبح اسم الصقر مصحفا عندهم باسم (الصكل) وهو عنوان الحركة الرياضية الكبرى في أمتي التشك والسلواق

رأس هذه الحركة المباركة هو (تيرش) العظيم أوحاها إليه أنه زار بلاد الإغريق في أواسط القرن الماضي فراعته المثل العليا التي أقامها الإغريق الغابرون لجمال الفتوة وصحة التكوين، وعلم أن نهضة الكتابة والقراءة لا تغني أمته عن نهضة النفس من طريق رياضة البدن وثقافة الذوق ونشاط الشعور، فأجمع النية الصادقة على إنهاض قومه في هذا الطريق، وأعد عدته لتنظيم الفرق الصغيرة فالفرق الكبيرة لتدريب الرجال والنساء من سن الطفولة إلى سن السبعين وما بعد السبعين، وما يعني بذلك التدريب إلا أن يجعل الجسم على أصح وأصلح مثال يستطاع، فلا يترك لعضو من الأعضاء بقية من كمال يستطيع بلوغها إلا استوفاها على نمط جامع بين الصحة والقوة والنسق والجمال. وأوجز ما نلخص به فلسفته الرياضية أنها رياضة جسدية موسيقية، لا تقصر على سهولة الحركة الجثمانية بل تقرن بها الرشاقة والوزن والتنغيم

وكان (غاريبالدي) الإيطالي يومئذ قدوة المجاهدين في سبيل الأوطان، فلما عبر (تيرش) بالبلاد الإيطالية راقه أن يستعير (القميص الأحمر) للفرق الجديدة وجعل لها قبعة عليها ريشة صقر فمن هنا اسم أو الصكل الذي عرفت به هذه الحركة الرياضية الكبرى، وهو لفظ (الصقر) بلغة التشك والسلواق

قال روبرت يونج في كتابه (شاب ينظر إلى الديار الأوربية) رواية عن رجل في الستين يصف الحركة وهو يشاهدها في ميدانها ببراغ:

(معظم الأعضاء يتصرفون لمعاشهم نهارا ويتلقون تدريبهم الرياضي أثناء الليل. . . ولا حاجة بنا إلى الرياضيين المحترفين لأننا نؤمن بأن الديمقراطية ينبغي أن يكون لهم من العقيدة الديمقراطية أن يبذلوا اختيارا وطواعية جزءا من وقتهم لتجميل أحوالهم الجسدية)

واستطرد الكاتب إلى بيان موارد الإنفاق على الحركة فإذا هي قائمة على جيوب أعضائها والقسط اليسير الذي يؤديه كل منتم إليها، أما معونة الحكومة فهي شيء طارئ وهي مع ذلك تنقص عاما بعد عام تبعا لتفاقم الأزمة المالية واشتدادها على كاهل الحكومة والأمة

وقال ويكهام ستيد الكاتب المشهور يصف عرض (الصكل) في شهر يوليه الماضي، خلاصته: (أي جندي لا يأخذه منظر ثمانية وعشرين ألفاً من الشبان الأصحاء الأشداء يمشون في ميدان مازاريك الذي تبلغ مساحته خمسة وأربعين فداناً فيتفرقون إلى أماكنهم جميعاً لابتداء التدريب الإيقاعي في خلال ربع ساعة، ثم ينتهي التدريب فينصرفون كرة أخرى ثمانين صفاً كل ستين في صف واحد خلال اثنتي عشرة دقيقة. وإنني لأشك في استطاعة جيش منظم أن يعبر خمسة وأربعين فداناً جيئة وذهوباً وتدريباً في سبع وعشرين دقيقة دون أن يقع فيه شيء من الارتباك والعجلة. أما النساء وقد أدين تدريبهن قبل الرجال وبلغن ستة عشر ألفاً عداً فقد ضارعن الرجال في النشاط والنظام)

حركة الصقر هذه نحن أولى بها وأحوج إليها، وقد رأينا نموذجاً منها في (إصلاحية الأحداث) التي تشرف عليها مصلحة السجون، فرأينا كيف يراض المئات من الأطفال والصبية على الحركة الإيقاعية في وقت واحد بغير قيادة معلم أثناء الأداء، وعلمنا أن تعميم هذه الحركة مستطاع كل الاستطاعة لن يبذل الجهد الذي بذلته مصلحة السجون في تدريب أطفال نسميهم مجرمين

وما حاجتنا إلى حركة الصقر؟ إنها دفاع جنود يحمون الأوطان، بل هي كذلك وهي فوق ذلك عدة حياة لدفاع آفات كثيرة هي أشد خطراً من غارات الأعداء

عباس محمود العقاد