مجلة الرسالة/العدد 276/على ذكر مؤتمر القاهرة
مجلة الرسالة/العدد 276/على ذكر مؤتمر القاهرة
فلسطين العربية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
إن أبرز ما يتسم به الإسلام هو التسامح إزاء من يعيشون معه أو في كنفه، وتلك جِبِلّة في العربيّ أنّى كان؛ غير أن خصومه لك يقدروا فيه ذلك التسامح حق قدره، ولم يحملوا للعرب هذه المكرمة التي يظهرونها في كل حين مهما اشتدت بهم الأمور، وحاقت بهم الخطوب
واليهود في ادعائهم فلسطين وطناً قومياً لهم إنما يتنكّبون السبيل السويّ والصراط المستقيم، فما كان لهم في عصر من العصور وطن قومي حتى يجوز لهم اليوم التشبَّث به. وخير لهم أن ينضووا تحت ظلال الشعوب التي هم بينها. وأنى لهم أن يعرفوا (الوطن القومي) وهم لا يعرفون الشعور القومي، ولكنهم قوم غرقوا في العصبية الجنسية تقليداً فحسب، فلا جرم إذا هم سعوا وراء مصالحهم قبل أن يفكروا في مُعَاونة من هم بينهم، ولا غرابة - حين يبدو هذا منهم - أن تقف منهم جميع الدول الغربية موقف المضطهد المستنكر لأعمالهم، ذلك لأنها أحست بوطأتهم وضررهم، ورأت أنهم يتعصَّبون لجنسهم لا لقومية فيهم، فاليهودية اسم للدين لا للوطن، على حين أننا إذا قلنا (العروبة) شخصت الأبصار والأذهان إلى الجزيرة العربية وأطراف العراق وبلاد الشام موطن الغساسنة
لقد كتب الله على اليهود التشتت والتفرقة (ضربت عليهم الذْلة والمسكنة وباؤا بغضبٍ من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) وكيف يريدون أن تكون فلسطين وطناً لهم وفي بلاد العروبة أنفس أبيَّات لا ترضى الذّل وتأبى الصبر على الهوان؟ وكيف يريدون فلسطين وطناً لهم وهي مهبط المسيحية الغراء، والأرض التي درج عليها عيسى عليه السلام، وفيها مناسك النصرانية؛ وهي الأرض المقدسة بعد الحجاز عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ قل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله). ولو رجعنا إلى التاريخ نستوحيه الخبر عنهم، لرأيناهم لا يستقيم لهم أمر إذا التأموا، فلقد كانوا حرباً عوناً على المسيح وأنصاره، مؤيدين للظلم ولو عرفوا الحق
أما في الإسلام فقد حاربوه وناجزوه العداء وهو دين الوحدانية، ولم يتورّعوا عن اتخاذ أية وسيلة لمحاربته، وكانوا كثيرين في الجزيرة، ولكن نصر الله نبيّه وأيَّده بروحه، وأمدّه بكل ما حقق به الإسلام والعروبة الفوز المبين والنصر الباهر
نشب النضال بين اليهود والمسلمين منذ رحل النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنوّرة، واتخذها مركزاً لبث دعوته، ورأوا في محمد (صلوات الله عليه) وفي دينه منافساً جديداً يوشك أن يقضي على نفوذ كل دينٍ غيره، فأبوا إلاَّ محاربته، مع أنهم كانوا يستنصرون به على العرب في الجاهلية ويقولون (اللهم انصرنا بنبيّ آخر الزمان) فإذا سألهم العرب قالوا (أن نبينا قد قرب زمانه، وسيكون لمن اتّبعه العز والنصر إلى يوم القيامة) ويتوعدون العرب باتباعه والاستنصار به عليهم، ولكن ما كاد محمد عليه السلام يذيع رسالته حتى ناصبوه العداء، بعد أن كانوا يستفتحون به عليهم
وكان اليهود يكرهون محمدا والعرب والمسلمين، وينظرون إليهم والى دعوته بعين الخوف والفزع من أول يوم طلع عليهم في أفق يثرب، ثم زاد خوفهم منه وظهر حسدهم له عندما رأوا الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فأخذوا يكيدون للإسلام والمسلمين بالدّس والإرجاف، ثم بالمراء والجدل فيما يعلمون ومالا يعلمون؛ وإذا سئلوا عن شيء مما في كتبهم حرَّفوا الكلم عن مواضعه وألبسوا الحق بالباطل، ليكسِبوا ولاء المشركين.
وقد نعى الله عليهم ذلك فقال (بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزلَ الله بغياً أن ينزّل الله من فضله على من يشاء من عباده) وكانوا يسعون في دين الله معاجزين لكي يفتنوا المسلمين عن دينهم، ويوهنوا عقائدهم بالشّبه والأباطيل، فقال تعالى (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق)، كل هذا والنبيّ يصابرهم ويصبر عليهم، ويسوّي بينهم وبين المسلمين في المصالح ويحترم شعائرهم. ولو تركنا ما قاساه النبي والمسلمون من كيد اليهود لهم بكافّة الطرق، بل وانتهازهم الفرص لقتل الرسول وتأليب العرب عليه وتحزيب الأحزاب ضده، ونقضهم عهود المسلمين في أحرج الأوقات، لو تركن ذلك كله، ورجعنا إلى عهد إبراهيم عليه السلام لوجدنا أنه لم تكن فلسطين وطنه الأصلي، ومن هنا تنهار إحدى الدعائم التي يستمسك بها اليهود في أحقيتهم لها؛ فقد ولد عليه السلام بالعراق، ثم أمره الله تعالى بالدعوة إلى التوحيد، ثم سار إبراهيم وزوجته سارة وغيرها ممن آمن بدعوته إلى حران، ثم أتى مصر حيث لحق بهم حنق فرعون الذي أطلقه هو وزوجته بعد أن ظهرت على يد إبراهيم آيات النبوة، ووهب سارة هاجر جارية لها، وسار ثلاثتهم إلى الشام، ثم شخص إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى بلاد الحجاز، فأية دعوة لليهود بملكية فلسطين؟ ولو أجيبوا إلى دعوتهم لحق لأهل بريتاني الفرنسية المطالبة بملكية إنجلترا دون الإنجليز، لأنهم غزوا إنجلترا وسكنوها، حتى نسبت البلاد إليهم كما غزاها الرومان إلى سنة 54ق. م والإنجليز والسكسون والدنيمركيون، وغزاها كذلك وليم الفاتح النرميدي (من مقاطعة نرمنديا بفرنسا) وانتصر سنة 1066م في موقعة هستنجس، فهل يحق لفرنسا وإيطاليا والدانمرك أن يطالبوا بإنجلترا اليوم لأنهم غزوها واستولوا عليها بحد السيف في يوم من الأيام؟ هذا على الرغم من أن اليهود لم يغزوا فلسطين ولم يفتحوها عنوة أو بحد السيف وإنما لجئوا إليها كما لجئوا إلى غيرها من بلاد العالم.
ولقد غلا اليهود في زمن موسى عليه السلام واشتطوا، ورأى فرعون مصر ذلك منهم فطردهم من بلاده، فلاذوا بفلسطين وظلوا بها حتى أخرجهم الإمبراطور الروماني تراجان سنة 105م وكانوا شرذمة عديمة النفع، كبيرة الضر، عاكفة على الشر، مؤيدة للباطل. وإن التاريخ ليأبى إلا أن يعيد نفسه، فقد نكل بهم الروم في مصر فخلصهم العرب المسلمون من نيرهم، واستعملوا سياسة التسامح التي عرف بها الإسلام، كما نكل بهم القوط في الأندلس، وكانت نجاتهم على يد العرب، فظهر منهم الأطباء والفلاسفة ورجال الأعمال وأسندت إليهم مناصب الدولة.
وبعد سبعة عشر قرنا نرى هتلر وموسليني يمثلان معهم نفس هذا الدور الذي مثله معهم من قبل فرعون مصر والروم والقوط وغيرهم. وكأن الصهيونيين لم يشعروا بضرورة وطن قومي لهم إلا بعد عشرات القرون، ولكنهم قابلوا جميل العرب بالخيانة والعدوان عليهم، لقد صدق الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله (اتق شر من أحسنت إليه) فأية جريرة ارتكبها العرب والإسلام حتى يكيد لهم اليهود وينتقموا منهم في عرب فلسطين وهم السواد الأعظم من الآهلين؟
إن فلسطين عربية منذ الجاهلية السحيقة، سكنها الغساسنة وهم عرب، حتى إذا كان الإسلام فتحها المسلمون بحد السيف، فقد أنفذ أبو بكر الجيوش العربية نحو الشمال، وعقد لأبي عبيده (ووجهته حمص) وعمرو بن العاص (ووجهته فلسطين)، ويزيد بن أبي سفيان (ووجهته دمشق) وشرحبيل بن حسنة (ووجهته وادي الأردن).
ثم فتحت هذه البلاد في عهد عمر بن الخطاب، وأبى البطريق سفرونيوس تسليم بيت المقدس إلاّ لعمر نفسه، فأتى الخليفة، وتسلم منه مفاتيحها وأعطى لأهلها الأمان المعروف. وصفوة القول أن العرب فتحوا فلسطين، وأن القتال قام بينهم وبين الروم المسيحيين أصحاب هذه البلاد دون اليهود الذين لم يكن لهم أي أثر في هذه الفتوح.
وفي عهد آخر نرى في فلسطين تلك الحروب الطاحنة، وهي الحروب الصليبية التي قامت بين المسلمين والمسيحيين، وأريقت فيها دماء كثيرة، وأبلى فيها البلاء الحسن أمثال صلاح الدين والظاهر بيبرس والأشرف خليل، فأين كان اليهود في ذلك الزمن المفعم بالخطوب والويلات؟ لعلهم كانوا في غفلة، أو لعلهم لم يكونوا في هذه البلاد، أو لعلهم لم يكونوا قد تعلموا بعد أساليب القومية والوطنية. ولو فكر الصهيونيون لرأوا أن من الخير لهم أن يعقدوا أواصر المودة وحسن التفاهم مع العرب، وفلسطين اليوم تعتبر بحق حلقة من حلقات الاتصال في الثقافة بين الشعوب العربية، هذا إلى أن استقلال الصهيونيين بجزء من فلسطين يهدد مصر نفسها، والعرب رأوا أن لا سبيل لتأمين الشام وفلسطين جنوباً إلا بفتح مصر، كما اتبع هذه السياسة قبلهم الكلدانيون والآشوريون والفرس والروم، كذلك سيهددون مصر إذا هاجر إلى فلسطين يهود ألمانيا وبولندة وغيرهما. ومن ثم نرى أن الواجب يقضي على مصر حكومة وشعباً أن تنظر إلى مغبة الحركة الصهيونية بعين الحذر، وأن تقف منها موقف الصراحة في القول، وأن يعمل الجميع متكاتفين متساندين مع إخوانهم عرب فلسطين وسائر أهالي البلاد العربية. ولا مشاحة في أن وقوف مصر هذا الموقف الحازم سيكون له أثره في موقف العرب إزاء الحركة الصهيونية، وسيعزز مركز مصر عند سائر البلاد العربية خاصة والشرقية عامة.
حسن إبراهيم حسن