مجلة الرسالة/العدد 276/فردريك نيتشه

مجلة الرسالة/العدد 276/فردريك نيتشه

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1938



للأستاذ فليكس فارس

- 1 -

(ما من مفكر أشد إخلاصا من نيتشه، إذ لم يبلغ أحد قبله ما

وصل إليه وهو يسير الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي

بما يعترض سبيله من مصاعب لأنه ما كان ليرتاع من

اصطدامه بالفجائع في قرارتها أو من الانتهاء إلى لا شيء)

(أميل فاكيه)

هذا هو نيتشه كما صوره فاكيه بعد أن درس عديد مؤلفاته واستعرض فلسفته. وقد جاراه بهذا التقدير أنصار نيتشه وخصومه من كل شعوب أوربا؛ فإنك لو استعرضت المؤلفات التي كتبها العباقرة العديدون، ومنهم من يعتقد بتخبطه على غير هدى، ومنهم من يرى وراء كل جملة من أقواله سورة لا تنجلي معانيها إلا للعقل النافذ والحس المرهف، لرأيتهم قد أجمعوا على وصفه بالمفكر الجبار المتجه إلى الحقيقة يطلبها وراء كل شيء حتى وراء المبادئ التي يقول بها

وما أجمع هؤلاء المفكرون إلا على الصواب في هذا الوصف الذي ارتضاه نيتشه لنفسه إذ قال:

(لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده، بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه، لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها ولو كان في ذلك مخالفاً لعقيدته؛ فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها

إياك أن تقف حائلاً بين فكرتك وبين ما ينافيها، فلا يبلغ أول درجة من الحكمة من لا يعمل بهذه الوصية من المفكرين

عليك أن تصلى نفسك كل يوم حرباً، وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تج عليك جهودك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك)

قال نيتشه بهذا المبدأ، وعمل به وبالرغم مما يتجلَّى في تعاليمه من غرور وصَلَف، فإنه كان يسير في أبحاثه ولا هَّم له سوى استكشاف الآفاق فيورد اليوم فكرة يكذِّبها غداً، فكأنه بإنكاره الخير والشر لم يجد بداً من إنكار كل عقيدة ثابتة. فإذا أنت أردت أن تسير وراء هذا الفيلسوف طلباً للعقيدة فلا تتعب نفسك باللحاق به في مراحل يقطعها بخطواته الجبَّارة لأنه هو نفسه قد أَصابه الخبل وبصيرته تائهة في استلهام الحقيقة واستقرائها

مَنْ قال لك:

(إنه لا مكتشفَ لحقيقة ذاته إلاَّ من يهتف: هذا هو خيري وهذا هو شرّي فيُخرس الخلد والقزم القائلين بأن الخيرَ خيرٌ للكل والشرَ شرٌّ للجميع)

من قال لك هذا، لا تتوقع منه أن يأتيك بشِرعةٍ تقوم مقام الشرائع التي يثور عليها

إن نيتشه المفكر الجبار الذي يفتح أمام الفرد آفاقاً وسيمة في مجال القوة والثقة بالنفس وتحرير الحياة من المسكنة والذل، تائقاً إلى إيجاد إنسان يتفوَّق على إنسانيته بالمجاهدة والتغلُّب على العناصر والعادات والتقاليد وما توارثته الأجيال من العقائد الموهنة للعزم، يقف وقفة الحائر المتردد عند ما يحاول إقامة مجتمعٍ لأفراده المتفوِّقين، بل هو يضطر إلى نقض أوليَّاته القائمة على احتقار الرحمة والرُّحَماء حتى ينتهي إلى قوله:

(إن العالم الذي يتفوَّق على الإنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إلى بذل حبه للأَصاغر والمتضعين)

وهكذا ترى زرادشت الداعي إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها والى إنكار الشريعة الأدبية لإقامة شرعة جديدة ما وراء الخير والشر يعود مفتشاً بين أنقاض الألواح التي حطَّمها على كلمات قديمة يجعلها دستوراً لإنسانيته المتفوِّقة

إن نيتشه الذي ذهب إلى أبعد مدى في تفحُص سرائر الإنسان وأهوائه يضيق به المجال عندما يتجه إلى حلِّ المعضلات الاجتماعية، لأنه إذا أمكن للفرد المنعزل أن يختطَّ لنفسه منهجاً يوافق هواها باعتقاده أنه هو المُبدع لذاته والحركة الأولى لها، فإنه ليمتنع عليه أن يكون عضواً حياً في المجموع إذا هو لم يعترف في علاقته مع إخوانه بأنه ليس مصدراً لذاته ولا مآباً لها إن مَنْ يطمح إلى مثل ما طمح إيه نيتشه من تكوين مجتمعٍ منظم يسود فيه المتفوِّقون ولكلٍ منهم شرُّه الخاص وخيره الخاص، وخيره لا يوجِدُ في النهاية إلا مجتمعاً يتفاوت التفوُّق فيه بين أفراده فيقضى الأقوى منهم على الأقل قوةً منه حتى يقف آخرُ الظافرين منتحراً بقوته وعنفه كما انتحر إلهُ نيتشه برحمته

غير أنَّ المبدع لزرادشت لم تفته هذه الحقيقة، فعاد إلى الشريعة الأولى يختلس منها آيتها الكبرى ليوردها وصيةً لدنياه فقال:

(حذارِ من الطُّفْرة في مسلك الفضيلة فعلى كل فردٍ أن يسير في طريقه وإن جنح عن مسلك الآخرين، فلا يطمحنَّ إلى بلوغ الذروة وحدَهُ إذ على كل سائر أن يكون جسراً للمتقدمين وقدوة للمتأخرين)

أين هذه الوصية مما دعا إليه زرادشت في مفكراته نفسها إذ قال:

(على أهل السيادة في الإنسانية المتفوِّقة أن يمهِّدوا سُبُلَ السعادة لمن هم دونهم بتضحية ملذَّاتهم وراحتهم، وعليهم أيضاً أن ينقذوا مَنْ لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال)

بل كيف يتفق القسم الأول من هذه الوصية مع قسمها الثاني؟ ومن له أن يضع مقياساً يقضي به على مَنْ لا يصلحون لها إذا اتبع القاضي شرعة زرادشت القائل بأن على اتباعه أن تتجلى القوة فيهم من الرأس حتى أخمص القدم

ولو أن مذهب نيتشه هذا طُبَّقَ قبل ميلاده لكانت السلطة التي يراها مثلاً أعلى قضت على أبيه وأمه دون إمهال فما كان له هو أن يظهر في الوجود بدماغه الجبار وبسُم الدعاء الذي جال من دمهما الملَّوث في دمه. . .

ثم، أليس هنالك غير هذه الأدواء الطارئة والتي يمكن للعالم أن يكافحها، ما يقضي على الإنسان بالرضوخ له من حالة في جسمه لا قبل له بتبديلها أو تعديلها؟ أفما تحقق الطب أن كل مولود يجيء الحياة إنما يدخلها مستصحباً معه إليها من سلالته الضعف الذي سيقضي عليه؟ أفليس في كل دارج على هذه الغبراء علة أو علل كامنة في تكوين أعضائه ستورثه الردى حين تدنو ساعته؟

أي جسم مهما ظهر لك صحيحاً ليس فيه عضو هو أضعف الحلقات في سلسلة أعضائه وفي فراغ مناعته المحدودة انفصام العرى وبداية انحلال العناصر في الهيكل الفاني؟ أين هو الجسم المنيع الذي يتوق نيتشه إلى إيجاده مربعاً من قمة الرأس إلى أخمص القدم؟

لقد عمل العالم المتمدن على إيجاده الرياضة فأوجد الرقاب الغليظة والعضلات المتضخمة مسبباً منها تضخم القلب وجفاء الطبع وبلادة التفكير وانحطام أجنحة الخيال

يريد نيتشه خلق الإنسان المتفوق جباراً كشمشون وشاعراً كداود وحكيماً كسليمان. فهو يكلف الطبيعة ما لا قبل لها به ويطمح إلى إيجاد جبابرة لا يصلحون لشيء في المجتمع لأن الحيوية لا تنصرف من مختلف نوافذها الجسمية في آن واحد دون أن تقبض على صاحبها لتوقفه من سلم الارتقاء على مرتبة معلقة بين الاعتلاء والانحطاط فيكون منه لا الإنسان المتفوق بل الإنسان (التافه) القصير الحياة والقاصر في كل عمل يباشره

إن المجتمع لا يقوم من الوجهة العلمية على أفراد يحاولون الإحاطة بكل شيء فلا ينالون منها شيئاً

وليس الحال إلا على هذا المنوال من الوجهة الروحية أيضاً، فإن مَنْ تبصر في أحوال الناس وطرائقهم في الحياة، لا بد له أن يسلم أخيراً بأن لكل شخصية حياتها بما كمن في حوافزها، ولكل شخصية ميتتها بما خفي من أدواء جسمها وعلل إرادتها وبما وراءها من مقدمات وحولها من نتائج

إن في الحياة مسالك خطتها الإرادة الكلية وليس للإرادة الجزئية أن تتناولها بتحوير، ومصاعد الرقي للأرواح منتصبة من كل مسلك في عالم الظاهر نحو العالم الخفي، وما خصت العناية أقوياء الجسوم بالارتقاء

ولربَّ صعلوك في نظر نيتشه لا يصلح للحياة ويجب أن يُقضى عليه دون إمهال تتفجر منه قوة لا تراها إلا البصائر النيِّرة

من لنا بسبر الأغوار البعيدة القرار لندرك سرَّ التكامل في الذات والحكمة في حد الأشواط لكل روح لتقوم بقسطها من المقدور؟

ومن لنا بادراك سرَّ الضعف والقوة وقد يكون الضعف في الجسم السليم والقوة في العليل من الأجسام؟

إن لكل مخلوق أن يبلو الحياة بما أُعطى من ظاهر الضعف أو ظاهر القوة، لأن للصحة محنتها كما للمرض محنته، والأنفسُ الطامحة إلى مُثُلها العليا سواء أكانت هذه المُثُلُ في هذه الحياة أم ما وراء الحياة، إنما تتغذَّى من الجسد ناحلاً عليلاً كما تتغذَّى منه مليئاً بالنضارة والصحة والبهاء

إن للحكمة العليا مقياسها في تقدير الجهاد الأكبر على كل نفس، ومن يدري في أية لحظة وبأي مداد من قوة الجسد أو ضعفه تخطُّ الروحُ الأسيرة آخر سطر من كتابها؟. . .

إنَّ محور الدائرة في فلسفة نيتشه إنما هو إيجاد إنسان يتفوّق على الإنسانية. لذلك تراه يهزأ بكل من عدّه التاريخ عظيماً بين الناس قائلاً: إن الجبل الذي يلد العظماء لم يولد بعد، وأن لا رجل في هذا الزمان يمكنه أن يتفوّق على ذاته، وكل ما بوسع الناس أن يفعلوه في سبيل المثل الأعلى هو أن يتشوّقوا إليه ليخرج من سلاتهم في مستقبل الأزمان

وسوف يرى القارئ في الفصول الأخيرة، ما هو تقدير زرادشت للرجال الراقين في هذه الحقبة الشاملة لعصره ولعصرنا فهو يعتبرهم نماذج فاشلة للإنسان الذي يتوقَّع نشوءه، وغير أن زرادشت وهو يتكلم بلهجة الآمر الناهي ويرسم للحياة طرقها بخطوط متفرقة إن لم تجمعها أنت بقيت حروفاً منتثرة لا معنى لها لا يقول لنا بصراحة ما يجب أن نفعله لنصبح جدوداً لأحفاد تصلح بهم الحياة، ولكن من يعود بصيرته على مجاراة نيتشه في الرؤى التي يهيم فيها يستوقفه قوله:

(إن ما فُطرنا عليه هو أن نخلق كائناً يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل)

ثم يستوقفه في موضع آخر قوله:

(إنني لم أجد امرأة تصلح أُماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها)

فإذا ما وقف المفكر عند هذا يعرف ما هي تلك الفطرة التي يراها دافعة للإنسان إلى التفوق على ذاته وأنساله

وما تكون تلك الفطرة إن لم تكن حافز الحب الصحيح وفي أعماقه غريزة الانتخاب تجذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدهما فيه ما وهن في بنية الآخر

ولولا أننا درسنا ملياً مسألة اعتلاء الأمم وانحطاطها ببحث صحة النسل واعتلاله في فصل (منابت الأطفال) من كتابنا (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) لكنا نثبت هنا أن إيجاد الإنسان الكامل في إنسانيته، لا الإنسان المتفوق على نوعه كما يريد نيتشه، إنما يقوم على مجاراة حوافز الاختيار الطبيعي في الزواج باعتبار كل شهوة جامحة وكل طمع يسكت هاتف الاختيار سواء في الرجل أو المرأة جناية على الإنسانية

هذا وإننا لا نجد بداً من نقل بعض فقرات من فصل منابت الأطفال تأييداً لهذه الحقيقة

(إن الإنسان لا يريد الانقياد للانتخاب الطبيعي فهو يطمح إلى تحكيم اختياره في حوافز لا يعلم منشأها، فيعمد الرجل إلى استيلاد المرأة أطفالاً تتجلى فيهم كوامن علله وعلل المرأة التي يرغمها إرغاماً بدلاً من أن ينقاد إلى الانتخاب الطبيعي الذي تتذرع به الطبيعة للغلبة على العاهات والأمراض وللقضاء على حوافز الخبل والإجرام

إن الولد المختل العليل إنما هو الضحية البريئة تصفع الطبيعة به أوجه الرجال الفاحشين والنساء الطامعات المظللات

(ومما لا ريب فيه أيضاً أن الطبيعة في حرصها على طابع الأبوين في الأبناء تطمح دائماً إلى الجمع بين رجل وامرأة يصلح أحدهما ما أفسدت الحياة في الآخر، ولا يقف طموح الطبيعة عند حد إصلاح الأعضاء بل هو يتجه خاصة في الإنسان إلى إصلاح ما تطرق من عيوب إلى صفاته الأدبية العليا، ولعل في هذا بعض التفسير لسيادة الإيقاع بين رجل وامرأة تخالفت أشكالهما وأوضاعُ أعضائهما ومظاهر قواهما الأدبية والعقلية، فقد لا تجد مصارعاً قوي العضلات يعشق مصارعة مثله، ولا فيلسوفاً يتوله بفيلسوفة. ولكم وقف المفكرون مندهشين أمام امرأة فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل متلاعب محتال، أو بارعة في الجمال تندفع إلى الالتصاق برجل قبيح. إن بعض العشق ينشأ من حنان خفي في الطبيعة يشبه عطف الطبيب المداوي على العليل المستجدي الشفاء. . .)

(إن المفكرين يثورون على الشبان الذين يقدمون على الزواج وفي دمائهم سموم، وفي مجاري نطفة الحياة منهم صديد، ومن الأمم من سنت القوانين الصارمة لمنع زواج المبتلى بالعلل الزهرية وبالجنون محافظة على صحة النسل، ولكنني لم أقرأ لمفكر رأياً في الحيلولة دون الزواج الآلي المجرد عن كل عاطفة، ويتراءى لي أن طفلاً يجني أبواه عليه بايراثه دماً أفسدته الأمراض لهو أقل شقاء بنفسه وأقل إضراراً بالمجتمع يرث من أبويه عهر العاطفة وضلال الفطرة.

لقد تشفى العقاقير أبناء العلل ولكن أي دواء يشفي الطفل الذي زرعه توحش الرجل المفترس في أحشاء المرأة المنكسرة الذليلة؟ إن مثل هذا الطفل لن يكون إلا وحشاً كأبيه أو عبداً ذليلاً كأمه)

(يتبع)

فليكس فارس