مجلة الرسالة/العدد 276/كما يرانا غيرنا

مجلة الرسالة/العدد 276/كما يرانا غيرنا

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1938



رجولة باكرة

للأستاذ عبد اللطيف النشار

كان السائح الأمريكي (بايارد تيلور) شاعراً كاتباً ذا ولع

بالأسفار وقد ولد في (بسيلفيانيا) عام 1825. وألف كتبا كثيرة

في وصف رحلاته منها كتاب يصف فيه رحلة إلى السودان

ومصر ومنه نقتطف هذه القطعة

وقد عين سفيراً للولايات المتحدة في برلين وعاش مدة طويلة هناك وتوفي عام 1878 وهو يشغل هذا المنصب الرفيع

قال:

من بين الموظفين المصريين الذين عرفتهم في الخرطوم سيد كان قد نفاه إليها والي مصر. وهذا السيد المنفي هو رفاعة رافع الطهطاوي، وهو من ذوي الثقافة العالية والذكاء المتوقد، وقد أحزنه كل الحزن إبعاده عن وطنه وعن أهله إلى هذا البلد السيئ الجو الذي عانى فيه ألما شديداً بسبب الحمى المنتشرة فيه

وكان لا يعرف إلى أي مدى تطول مدة نفيه. وقد قضى إلى الوقت الذي لقيته فيه عامين في المنفى خاضعاً لرقابة شديدة تَفْرض عليه ألاَّ يتسلم خطاباً إلا عن طريق الحكومة التي تفض رسائله لتعرف ما بها. وقد امتنعتْ عليه بهذه الوسيلة صلته بأصدقائه في مصر ممن يخشون عواقب تلك الرقابة. ولم يكن في وسعي أن أعرف السبب الذي نفي من أجله، وقد يكون هو نفسه غير عالم بسبب هذا النفي

وليس في البلاد الشرقية انتخابات عامة ولا للشعوب الشرقية رأي في اختيار حكامها، فكل من بها من الحكام يعينهم الولاة وفق أهوائهم ولا يستطيعون الاحتفاظ بمناصبهم إلا كما يريد الولاة. وقد يدفع التنافس أو الحسد واحداً من الباشوات إلى إهلاك خصم له بريء غافل عن سبب الكيد. وربما كان سبب الكيد لا يعدو أن يكون أحدهم طامعاً في منصب الآخر فيوغر عليه صدر الوالي حتى ينفيه

وقد اكتسب هذا السيد محبتي وعطفي العميقين في الليالي التي كان يقضي فيها السهرة معي ومع القنصل الأمريكي. وكان يطمئن إلى مجلسنا فيشكو لنا ما يعانيه من الظلم. أما حين نلتقي به في منزل أي موظف مصري فقد كان يحرص على عدم الخوض في هذا الموضوع خشية أن تُنقل عنه أحاديثه إلى الحكومة

ولما كنت أجنبياً غريباً فإنه لم يخطر ببالي قط أن في وسعي أداء أية خدمة لرفاعه باشا. وكنت مزمعاً العودة إلى بلادي عن طريق مصر. ولكن معرفتي بالغة العربية محدودة وإلمامي قليل بعاداتها ونظمها. وفضلا عن ذلك فقد كنت أرجو ألاً أطيل بها المكث إلا ريثما أعبر إلى الشاطئ

على أنني كنت أسير وإياه في الطريق في ليلة من لياليَّ الأخيرة في السودان فقال لي همساً إن لديه حديثاً يريد أن يسره إليَّ

ومع أن الليلة كانت مقمرة فقد كان معنا خادم وطني يحمل المشعال، فأمره الباشا بأن ينصرف، فاختفى عن ناظرنا بعد قليل في منعطف ضيق من منعطفات الطريق، وكان الصمت مخيماً لولا أصوات الرياح إذ تتخلل أطراف النخيل البارزة رؤوسها فوق أسوار الحدائق

وقال الباشا وهو يمسك بيدي: (لنا أن نتحدث الآن بضع دقائق دون أن يسمع أحد حديثنا ولي رجاء لديك)

قلت: (على الرحب إن كان في وسعي)

فقال: (إنك لن تتكلف مشقة ما، ولكنك ستؤدي لي مع ذلك خدمة جليلة. أرجو أن تحمل عني خطابين إلى مصر، أحدهما إلى نجلي في طهطا، والآخر إلى المستر موري القنصل الإنكليزي في القاهرة، ولا أستطيع ائتمان التجار المصريين على هاتين الرسالتين، فلو فضتا وقرأتا لطال أمد نفي في هذه البلاد سنين عدة. أما إذا تفضلت بإيصالهما فإن أصدقائي بمصر سيعرفون السبيل إلى معاونتي وربما تمكنوا من إعادتي إلى وطني

فوعدته بأن أسلم الخطابين إلى صاحبيهما يداً بيد. فبدا الانشراح على وجه الباشا وودعني عند باب القنصل الأمريكي وبعد أيام قليلة استأنفت رحلتي، وكان من أيسر الأمور أن أتصل برفاعة باشا وأن يسلمني الخطابين دون أن يتنبه أحد إلى ذلك، ووضعتهما في حافظتي مع سائر أوراقي ولم أتحدث في هذا الشأن مع أي إنسان في الخرطوم

وكانت رحلتي إلى مصر طويلة شاقة يستغرق مني وصفها أياماً لو حاولت ذلك، فقد قضيت في السفر شهرين قبل أن أتمكن من تسليم رسالة الباشا إلى أبنه المقيم في طهطا بصعيد مصر على بعد بضعة أميال من مجرى النيل. ويحيط بها سهل جميل يغمره ماء النيل مرة في كل عام

وبعد تحريات قليلة وصلت إلى منزل رفاعة باشا ولكن لم يؤذن لي بالدخول لأن السيدات المصريات لا يسمح لهن باستقبال الأجانب. وكان بالمنزل قاعة واسعة مفتوح بابها على الطريق، فأجلست فيها ريثما تذهب جارية سوداء لتأتي بابن الباشا من المكتب؛ وجلس معي في تلك القاعة خادمي الأمين. وقد تسامع أهل البلد أثناء وجودي في الانتظار أني آت من الخرطوم وأني أعرف الباشا فأتوا من كل حدب ليسألوني عنه، وكانوا جميعاً في نهاية الأدب والود، واغتبطوا لما طمأنتهم عليه كما لو كانوا جميعاً من أفراد أسرته

وبعد ربع ساعة عادت الجارية يتبعها ابن الباشا ومعلمه في المكتب، وكان هذا المعلم قد صرف جميع الطلبة وأغلق المكتب وجاء ليسمع أخبار الباشا.

كان عمر هذا الصبي أحد عشر عاماً ولكنه أطول قامة ممن هم في مثل عمره. وقد ابتسم حين رآني ابتسامة عذبة، ولولا إلمامي بعض الإلمام بعادات هذا الشعب لمددت إليه يدي وأجلسته على ركبتي وطوقت خصره بذراعي وتحدثت إليه بغير تكلف، ولكني رأيت أن أصبر حتى أرى كيف يكون مسلكه نحوي.

حياني في وقار وجلال كما لو كان رجلا له سمت وأبهة؛ ثم تناول يدي فأدناها من قلبه ثم من شفتيه ثم من جبينه؛ ثم اتخذ مجلسه فوق ديوان عال بجانبي.

وأعاد تحيتي وهو في مجلسه وصفق ثلاثاً، فجاءت جارية أمرها بأن تعد لي القهوة ثم قال: (كيف صحتك يا صاحب السعادة؟) فأجبته: (بخير والحمد لله)

قال: (هل لديكم أوامر لي؟ مروا تطاعوا!)

فقلت: (أشكر لطفك، وليس لي إلا تحيات أحملها إليك من أبيك الباشا، وخطاب منه وعدته بأن أسلمه إليك يداً بيد)

ثم دفعت إليه بالكتاب فوضعه على قلبه ثم قبله وفض غلافه. وبعد قرأته التفت إليَّ وقد توردت وجنتاه وسطعت عيناه وقال: (أتأذنون لي يا صاحب السعادة بأن أسألكم هل معكم كتاب آخر؟)

قلت: (نعم ولكن سأسلمه لصاحبه كذلك يداً بيد)

قال: (أصبت. ومتى تصلون إلى القاهرة؟) فقلت: (الأمر يتوقف على حالة الرياح ولكني أظن أن المدة لا تتجاوز سبعة أيام)

وأسر الصبي بكلمات إلى معلمه، وبدا على وجهيهما الاغتباط. . ولم يعد كلانا إلى التحدث في هذا الموضوع.

وجيء بشراب لا شيء فيه سوى عصير الليمون المحلى وماء الورد. ثم جيء بالرمان وسألني الصبي أن أشرفه بالبقاء لديه سائر اليوم

ولولا أنني كنت أرى وجهه وهو يحادثني لظننت أني أحادث رجلا، فقد كان هذا الصغير من الجلال وقوة الأسر كعظماء الرجال

وكان الناس حولنا كأنهم معتادون مشاهدة هذا النضوج السابق لأوانه في الأطفال. وكنت مضطراً إلى أن أتخذ حياله من الاحتشام والكلفة كما لو كان هو حاكم المدينة. على أن ذلك لم ينقص من محبتي؛ إياه وودت لو عرفت موضوع حديثه مع معلمه. ولست أشك في أنهما كانا يحاولان تدبيراً لإعادة الباشا من منفاه

وبعد ساعتين أو ثلاث ساعات عدت إلى السفينة التي جرت بي في بطء إلى الشمال.

نهض الصبي عند نهوضي ومشى بجانبي إلى آخر حدود المدينة والناس على أثرنا في نظام وعند وصولي إلى السفينة حياني مودعاً مثل تحيته إياي مسلماً وقال: (اسأل الله أن يجعل رحلتكم سعيدة يا صاحب السعادة)

وقد بدا لي أن منظر استقباله ووداعه والوقت الذي قضيته وإياه - لقد بدا لي أن كل ذلك كان قطعة من ألف ليلة، فإني إن نسيت شيئاً فلا أنسى تلك الذكرى الجميلة البارزة. أما بالنسبة لهذا الشعب فما من شك أن هذه الحالة هي حالتهم العادية التي تتكرر كل يوم

عبد اللطيف النشار