مجلة الرسالة/العدد 277/الكميت بن زيد

مجلة الرسالة/العدد 277/الكميت بن زيد

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 10 - 1938



شاعر العصر المرواني

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 7 -

منزلة الشعرية

كان الكميت شاعرا عالماً جمع من الثقافة العلمية ما لم يجتمع لشاعر في عصره، حتى قال بعضهم: كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر: كان خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط، وكان نسابة، وكان جدلياً، وهو أول من ناظر في التشيع مجاهراً بذلك، وكان رامياً لم يكن في بني أسد أرمى منه، وكان فارساً، وكان شجاعاً، وكان سخيا دينا

وقال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني عمي، قال حدثني محمد بن سعد الكراني، قال حدثنا أبو عمر العمري عن لقيط، قال: اجتمع الكميت بن زيد وحماد الرواية في مسجد الكوفة، فتذاكرا أشعار العرب وأيامها، فخالفه حماد في شيء ونازعه، فقال له الكميت: أتظن أنك اعلم مني بأيام العرب وأشعارها؟ قال: وما هو إلا الظن، هذا والله هو اليقين، فغضب الكميت ثم قال له: لكم شاعر بصير يقال له عمرو بن فلان تروي؟ ولكم شاعر أعور أم أعمى اسمه فلان بن عمرو تروي؟ فقال حماد قولاً لم يحفظه، فجعل الكميت يذكر رجلاً رجلاً من صنف صنف ويسأل حماداً هل يعرفه؟ فإذا قال لا، أنشده من شعره جزءاً جزءاً حتى ضجرنا، ثم قال له الكميت: فأني سائلك عن شيء من الشعر، فسأله عن قول الشاعر:

طرحوا أصحابهم في ورطة ... قَذْفَكَ المقلةَ شطر المعترك

فلم يعلم حماد تفسيره، فسأله عن قول الآخر:

تدريننا بالقول حتى كأنما ... يدرين ولداناً تصيد الرهادنا

فأفحم حماد، فقال له: قد أجلتك إلى الجمعة الأخرى، فجاء حماد ولم يأت بتفسيرهما، وسأل الكميت أن يفسرهما له، فقال: المقلة حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا، وتوضع في الإناء ويصب عليها الماء حتى يغمرها، فيكون ذلك علامة يقتسمو بها الماء، والشطر النصيب، والمعترك الموضع الذي يختصمون فيه الماء، فيلقونها هناك عند الشرب، وقوله (يدريننا) يعني النساء، أي ختلتنا فرميننا، والرهادن طير بمكة كالعصافير.

وذكر ياقوت أن ابن عبدة النساب قال: ما عرف النُّسَّابُ أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت النزاريات، فأظهر بها علماً كثيراً، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحداً أعلم منه بالعرب وأيامها.

وأخرج ابن عساكر أنه كان يقال: ما جمع أحد من علم العرب ومناقبها ومعرفة أنسابها ما جمع الكميت، فمن صحح الكميت نسبه صح، ومن طعن فيه وهن.

وقال أبو عكرمة الضبي: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان، ولا للبيان لسان.

وقد عنى ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت، ولم يكن يعنى إلا بالشعراء الفحول الذين يعرفون النساب، أو يمتون بعرق إلى الأساليب الجاهلية؛ ولم يعن ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت فحسب، بل كان يذكر به من يغفلون عنه حين يعرضون عليه ما عرفوا من معاني الشعراء.

وأخرج أبو عكرمة الضبي عن أبيه قال: أدركت الناس بالكوفة يقولون: من لم يرو:

(طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ)

فليس بهاشمي، ومن لم يرو:

(ذكر القلبُ إلْفَهُ المهجورَا)

فليس بأموي، ومن لم يرو:

(هلاَّ عرفتَ منازلاً بالأبرقِ)

فليس بمهلبي، ومن لم يرو:

(طَرِبْتَ وهاجَكَ الشوقُ الحْثِيثُ)

فليس بثقفي.

فهذا كله إلى ما نقلناه عن معاذ الهراء يظهر لنا كيف كانت طائفة كبيرة من العلماء والأدباء تتعصب للكميت وشعره إلى هذا الحد من التعصب، وما نظن أن نظرهم في هذا كان يجاوز جانب اللفظ والمعنى في شعر الكميت، فلا ينظرون إلى شيء آخر بعدهما يسمو به الشعر أكثر مما يسمو بهما، ويمتاز به الكميت ابن زيد على شعراء عصره جميعاً.

وكان يوجد إلى جانب هذه الطائفة المتعصبة للكميت طائفة أخرى من الأدباء والشعراء تتعصب عليه وتقدح في شعره، ومن هؤلاء المتعصبين عليه بشار بن برد، وكان يقول: ما كان الكميت شاعراً، فقيل له كيف وهو يقول:

أنصفُ امرئٍ منْ نصف حيٍ يسبني ... لعمري لقد لاقيتُ خطباً من الخطبِ

هنيئاً لكلبٍ أن كلباً تسبني ... وأني لم أرددْ جواباً على كلبِ

لقد بلغتْ كلبٌ بسبيَ حظوةً ... كفتها قديماتِ الفضائح والوصبِ

فقال بشار: لا بَلَّ شانئك، أتري رجلاً لو. . . ثلاثين سنة لم يستملح منه شيء؟

وقد كان مذهب بشار من الشعر إيثار اللفظ السهل على العويص، وكان في هذا قدوة من أتى بعده من الشعراء المولودين، والكميت يخالفه في هذا المذهب مخالفة تامة. قال محمد بن أنس الأسدي، حدثني محمد بن سهل راوية الكميت، قال سمعت الكميت يقول: إذا قلت الشعر فجاءني أمر مستو سهل لم أعبأ به حتى يجئ شيء فيه عويص فأستعمله.

ومن هنا يجئ تحامل بشار على الكميت. وعندي أنه لا يصح أن يقدح في الشعر أن تكون ألفاظه سهلة أو عويصة، فلكل من ذلك مقامة في طباع الشعراء وتمكنهم من اللغة وغريبها، وكذلك ما يحيط بالشاعر من ظروف الزمان والمكان وغيرهما.

وممن كان يتعصب على الكميت أيضاً رؤية بن العجاج، وقد ذكر المبرد عن رؤية أنه قال: قدمت فارس على أبان بن الوليد البجلي منتجعاً له، فأناني رجلان لا اعرفهما فسألاني عن شيء ليس من لغتي فلم أعرفه، فتغامزا بي، فتقبعت عليهما فهمدا. ثم كانا بعد ذلك يختلفان فيسمعان مني الشيء فيكتبانه ويدخلانه في أشعارهما، فعلمت انهما ظريفان، وسألت عنهما فقيل لي: هما الكميت والطرماح

وكان ذو الرمة يرى في الكميت ما يراه فيه رؤية بن العجاج، وقد أتى الكوفة فلقيه الكميت فقال له: إني قد عارضتك بقصيدتك، قال أي القصائد؟ قال: قولك:

ما بالُ عينك منها الماءُ ينسكبُ ... كأنه من كلى مفريةٍ سَربُ

قال: فأي شيء قلت؟ قال قلت:

هل أنتَ عن طلب الأيفاعِ منقلبُ ... أم كيف يحسن من ذي الشَّبية اللَّعِب حتى أتى عليها، فقال له: ما أحسن ما قلت، إلا أنك إذ شبهت الشيء ليس تجئ به جيداً كما ينبغي، ولكنك تقع قريباً، فلا يقدر إنسان أن يقول أخطأت ولا أصبت، تقع بين ذلك ولم تصف كما وصفت أنا ولا كما شبهت. قال: وتدري لم ذاك؟ قال: لا، قال: لأنك تشبه شيئاً قد رأيته بعينك، وأنا أشبه ما وصف لي ولم أره بعيني، قال: صدقت هو ذاك

وليس هذا من رؤية وذي الرمة إلا تعصباً على الكميت من اجل أنه حضرياً، وأنهما كانا بدويين يذهبان في الشعر مذهب أهل البدو. وقد ذكرنا أن الكميت كان يجمع في شعره بين أدب الحاضرة والبادية، فكان من جهة اللفظ والأسلوب كسائر شعراء البادية في الإسلام والجاهلية، وكان من جهة الغرض الذي يرمي إليه في شعره حضرياً يذهب في ذلك مذهباً جديداً يليق بشاعر مثقف بمثل ثقافته، وهو في هذا يخالف شعراء عصره إذ كانوا يذهبون في أغراض الشعر مذهباً بدوياً جاهلياً لا أثر فيه للثقافة الإسلامية، ولا تتفق غايته مع الغاية التي كان يجب أن تكون غاية الشعر في هذا العصر.

والشعر عندنا كما يوزن بألفاظه ومعانيه يوزن بأغراضه ومقاصده، فلا يصح أن يكون الشعر الذي له غاية سامية في الحياة كالشعر الذي لا يراد منه إلا اللهو والعبث، وليس جد الحياة كهزلها، ولا حقها كباطلها، فليكن جد الشعر فوق هزله، وليكن حقه فوق باطله، وليكن الكميت في هاشمياته فوق شعراء عصره جميعاً.

عبد المتعال الصعيدي