مجلة الرسالة/العدد 278/الفهم
مجلة الرسالة/العدد 278/الفهم
وصلته بالحكم الأدبي
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
قرأت فيما قرأت للمرحوم الرافعي كلاماً يقول فيه: إن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وإن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وإن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعا!
وهذا الذي قاله الرافعي كلام يتهالك في أوله، بقدر ما يتماسك من آخره. نعم فقد أخطأ الرافعي إذ حسب أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، فإن الفهم شيء والذوق شيء آخر، وإذا كان الذوق يستلزم الفهم كما يقولون، فان الفهم كثيرا ما ينفك عنه فلا يستلزمه ولا يقتضيه. ولقد يتأتى للشخص أن يفهم الأثر الأدبي على خير ما يكون الفهم، ومع ذلك لا يقع من ذوقه أدنى موقع، كما هو حال كثير من علماء النحو ورجال اللغة!! ولكن الرافعي مصيب من غير شك إذ يرى (أن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعا) فأن الناقد إنما تتم له الأداة، ويصح له أن يحكم على الأثر المنقود، إذا ما فهم ألفاظه ومعانيه، ووقف على إشاراته ومراميه، وتلمس له كلَّ وجهٍ يستقيم عليه منطوقاً ومفهوماً، وكل مدلول يقتضيه صريحاً واستلزاما
تلك حقيقة هي من الوضوح إلى حد البداهة، ولكن الدكتور طه حسين نقل كلاما عن الشاعر الفرنسي بول فاليري زعم فيه: أن موت الأثر الفني إنما يأتي من فهم الناس له، فأنت إذا ما قرأت كتاباً وفهمته فقد قتلته وقضيت عليه. فهناك إذن جهاد عنيف بين القارئ والمقروء، فإذا فهم القارئ فقد غلب، وإنما الأثر الفني الخليق بهذا الاسم هو الذي يغلب القارئ ويعجزه، ولكن دون أن يضطره إلى اليأس والقنوط، ومن هنا كان النثر بطبيعة تكوينه أقرب إلى الفهم، وأدنى إلى الهضم! والدكتور طه لا يميز الناقد في هذه الغمرة عن أي قارئ آخر، بل ولا يرضى له أيضا بفهم (الأثر الفني الخليق بهذا الاسم) ليتم لذلك الأثر البقاء كما يقول، ومن ثم طار إلى الأوج بقصيدة (المقبرة البحرية) لصاحبه فاليري، وكل دليله في ذلك أنها استغلقت على النقاد فلم ينفتح لهم فيها باب الفهم، على الرغم مما بذلوا في الفهم ووسعوا في التأويل، وكأني بالدكتور الفاضل قد فاته أن اللغة - في أرقى أوضاعها وفي أحط أوضاعها - ليست إلا سبيل الفهم، والفهم إنما هو أساس المعرفة، والمعرفة إنما هي قوام الحياة، وصلة الإنسان بالعالم. ثم كأني بالدكتور الفاضل قد نسى أنه من قبل ذلك ردَّ كتاب رسائل الأحزان الرافعي، وكانت حجته في ذلك أنه قرأ الكتاب فلم يفهمه وهو لا يستطيع أن يحكم على شيء استغلق عليه فهمه، وتعذر دركه!
ومهما يكن من شيء فإن هذا الذي نقله الدكتور طه على أنه من طريف أوربا له شبيه طريف في تاريخ الأدب العربي، فقد حدَّث ابن سنان الخفاجي قال: جرى بين أصحابنا في بعض الأيام ذكر شيخنا أبي العلاء بن سليمان المعري، فوصفه واصف من الجماعة بالفصاحة، واستدل على ذلك بأن كلامه غير مفهوم لكثير من الأدباء، فعجبنا من دليله وإن كنا لم نخالفه في المذهب وقلت له: إن كانت الفصاحة عندك بالألفاظ التي يتعذر فهمها فقد عدلت عن الأصل في المقصود بالفصاحة التي هي البيان والظهور، ووجب عندك أن يكون الأخرس أفصح من المتكلم، لأن الفهم من إشاراته عسير بعيد، وأنت تقول: كلما كان أغمض وأخفى، كان أبلغ وأفصح. وعارضه أبو العلاء صاعد بن عيسى الكاتب وقال: صدقت. إننا لا نفهم عنه كثيراً مما يقول، إلا أنه على قياس قولك يجب أن يكون ميمون الزنجي الذي نعرفه أفصح من أبي العلاء، لأنه يقول ما لا نفهمه نحن ولا أبو العلاء أيضاً، فأمسك!
وسواء أأمسك الدكتور طه كذلك الرجل أم لم يمسك، فما يعنينا ذلك، وليس من وُكدنا أن نطيل في تفنيد دعوى باطلة لا يمسكها دليل من عقل أو فهم، وما كنا لنعرض لها بذكر لولا أن رأيناها قد جازت عند بعض الناس. وإننا لنمضي فنقرر بأنه إذا كان الحكم فرع التصور كما يقول المناطقة، فان الفهم لا شك دعامة من دعامات الحكم الأدبي، وشرط أساسي لا بد منه في تقدير الكلام والحكم على الأثر المنقود، كما هو شرط في الحكم على أي شيء آخر، وقديما قيل: يكفي من حظ البلاغة ألا يُؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من فهم السامع، ولا جرم أن الناقد إذا لم يفهم، واستباح لنفسه أن يحكم، فهو إما مسيء إلى صاحب الأثر المنقود، فإذا كتب الله له السلامة من الإساءتين فذلك شيء بقضاء وقدر، ولا صلة له بتقدير الفن ومقاييسه، ولا يد فيه ولا عمل لمواهب الناقد وملكاته!
هذا وللجاحظ كلام حلو مستقيم يدخل في هذا الباب، فلا بأس من إيراده وإن كان مرده إلى جهة القائل لا إلى جهة الناقد. قال أبو عثمان: (قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني القائمة في صدور الناس، المتصورة في أذهانهم، المختلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن أفكارهم - مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، وحاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أمور، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره، وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها، وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجليها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهراً، والغائب شاهداً، والبعيد قريباً؛ وهي التي تخلص الملتبس، وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيداً، والمقيد مطلقاً، والمجهول معروفاً، والوحشي مألوفاً، وعل قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون ظهور المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وافصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع في البيان. . . والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمدحه، ويدعو إليه، ويحث عليه. بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم. . . والبيان اسم لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك لك الحجب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصول، كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل، لأن مدار الأمر، والغاية التي إليها يجري القائل والسامع: إنما هو الفهم والإفهام. . . وقال علي بن الحسين رضي الله عنه: لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الإستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج صدورهم ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، وعلى أن درك ذلك كان يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة)
ولعمري لقد أصاب الجاحظ شاكلة الصواب في قوله: إن الغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هي الفهم والإفهام، فالمسألة قسمة بين القائل والناقد، فإذا كان من الواجب على الأول أن يقول ما يفهم، فأن من الواجب على الثاني أن يفهم ما يقال، ومن ثَمَّ كان طلبهم في الشاعر الحاذق بالصناعة أن يكون شعره مفهوماً واضحاً يسبق معناه ولفظه، وكان شرطهم في الناقد إذ كان يدعي علم الشعر ويتحقق بالأدب، أن يكون يفهم معاني الشعر، وله دربة الغامض والظاهر منها. وهذا رأي قويم تقع به مهمة البيان موقعها من جهة، ومن جهة أخرى يستطيع الناقد أن ينهض بمهمته، وأن يخدم الأدب والفن كما يجب، فيميز بين الخبيث والطيب، ويفصل بين الشريف والأصيل، ثم هو يقضي في ذلك ونفسه مطمئنة، ورأيه عن ثقة وتثبت. وقد أجاد الآمدي وأفاد في هذا المعنى إذ يقول في صدر باب من كتابه الموازنة:
أما بعد: فإني أدلك على ما تنتهي إليه البصيرة، والعلم بأمر نفسك في معرفتك بأمر هذه الصناعة - يريد صناعة النقد - والجهل بها، وهو أن تنظر ما أجمع عليه الأئمة في علم الشعر من تفضيل بعض الشعراء على بعض. . . فأن علمت من ذلك ما علموه، ولاح لك الطريق التي بها قدموا من قدموه، وأخروا من أخروه، فثق حينئذ بنفسك، واحكم يستمع حكمك، وإن لم ينته بك التأمل إلى علم ذلك، فأعلم أنك بمفردك عن الصناعة. . . لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبوله، وما في طاقته تعلمه، فينبغي أصلحك الله أن تقف حيث وقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا من صناعتك!!
على أننا إذ نقول الفهم، فما نعني فهما كالذي يقصد إليه عالم كالعكبري مثلا إذ يقول في مقدمة شرحه للمتنبي:
(وأما بعد، فإني لما أتقنت الديوان الذي اشتهر ذكره في سائر البلدان، وقرأته قراءة فهم وضبط. . . ورأيت الناس قد أعربوا فيه بكل فن وأغربوا، فمنهم من قصد المعاني دون الغريب، ومنهم من قصد الأعراب باللفظ القريب، ومنهم من أطال فيه وأسهب غاية التسهيب، ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه إلى غير ما كان قصد إليه، فاستخرت الله تعالى وجمعت كتابي هذا. . . وجعلت غرائب إعرابه أولا، وغرائب لغاته ثانياً، ومعانيه ثالثاً. .) نعم! نحن لا نعني هذا الفن من الفهم وما هو على غراره من الأساليب التي انتهجها القدماء في شرح الآثار الأدبية، لأن فهم الآثار الأدبية ليس هو بتفسير الغريب، وإعراب المشكل من التراكيب، والتنبيه على مذاهب الاستعارات والكنايات وما إلى ذلك من اصطلاحات أهل البيان، فما هذه كلها إلا مجهود ضئيل قد يأتي بشيء ولكنه لا يأتي بكل شيء، وإنما الوضع الصحيح لفهم الآثار الأدبية الذي يولد فينا الذوق الأدبي، ويقوي فينا الشعور بالجمال، ويصل بنا إلى مقصد الشاعر أو الكاتب، هو أن نستنطق الأثر الأدبي في كل ما يلابسه ويحيط به، وأن نتبين ما هناك من ميول وأهواء، ونزوع واتجاه، في كلام المؤلف، وشعر الشاعر، وبيان الخطيب فان من وراء هذا كله أشخاصاً ينطقون ويشعرون، فإذا ما خالطنا هذه الآثار ومازجناها، أحطنا بظواهر أصحابها وبواطنهم، واتصلنا بأسرارهم ودخائلهم، وعرفنا خصائصهم وطبائعهم، واهتدينا إلى أخلاقهم وميولهم، ووقفنا على سلوكهم وأوضاعهم، وفي هذا كله ما فيه من ثقافة للذوق، ومتاع للعقل، ثم فيه ما فيه من إفادة للناقد، وتسهيل عليه في درك الحقيقة التي ينشدها، والصواب الذي يسعى إليه.
وهنا سؤال لا بد منه، وقد يكون القارئ فطن إليه من قول العكبري: (ومنهم من قصد التعصب عليه، ونسبه إلى غير ما كان قد قصد إليه)، فأن القائل قد يقصد في قوله إلى شيء، ولكن الناقد يذهب بفهمه إلى شيء آخر، ما دام اللفظ يتحمله، والتعبير يتسع له، ثم إن الإفهام تختلف، والنقاد يختلفون في استخلاص المعنى من اللفظ، (فمنهم من تكفيه اللمحة الباردة لينتبه إلى النكتة اللطيفة والتلميح البعيد المستظرف في عروض كلام الكاتب فيعدَّ ذلك له من القلائد ويفهمه حسبما أراد به وقصد إليه، ومنهم من يحسبها جملة جرى بها قلم الكاتب عن غير تعمد، إذ أنه يرى فيها شيئاً يشبه وجهاً محجوباً بستر صفيق فلا يدري أحسن هو أم قبيح، ومنهم من يمرَّ بالكلام ولو سألته ماذا أراد به كاتبه لعجب من سؤالك! إذ أنه لم يرَ فيه شيئاً استوقف خواطره، وعلى حسب ذلك الفهم وذلك الشعور ينتقد ويحلل) ويقدَّر ويحكم، وأنت لو نظرت إلى النقاد الذين انتقدوا المتنبي مثلا، لعجبت من مدى خلافهم في تفهم معانيه، والوقوف على أغراضه، وهو نفسه يصوَّر ذلك في أبرز صورة إذ يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
إذن فماذا يكون حظ (الحكم الأدبي) من فهم الناقد، وكيف يقع موقعه من الحق والصواب ما دام للناقد أن يذهب بفهمه على ما يرغب، وما دامت إفهام النقاد تختلف في الدرجة والطاقة على حدّ تعبير العلميين!
والجواب على هذا السؤال سهل قريب، والتعليل له أسهل وأقرب، فان الأمر ليس منوطاً برغبة الناقد يذهب فيه مذهبه ولكن هناك قيود والتزامات، فالفهم المعتبر عندهم في تكوين الحكم الأدبي، والذي يجب أن يتوجه إليه الناقد بكل ما عنده من علم وزكانة، إنما هو الوقوف على غرض القائل وما يرمي إليه، والى غير هذا الهدف لا يباح له أن يصوب النظر، إذ المقصود إنما هو الحكم للقائل أو عليه، والوقوف على حظه من العبقرية الفنية، وليس مما يصح في منطق العقل أن نحكم على رجل بغير مقصوده، وأن نؤاخذه بغير ما يريده!
إن من الواجب على القاضي في عرف القانون أن يحاول جهده الكشف عن نية المتهم فيما ارتكبه ليحكم عليه في غير ما حيف ولا جنف، والناقد لا شك له مكانة القاضي ومهمته، فمن الواجب عليه كذلك أن يفهم كلام القائل (حسبما أراد به وقصد إليه)، والسابقون من النقاد قد عبَّدوا السبل إلى ذلك، فاهتموا بالتغلغل في شخصية الشاعر أو الكاتب، والكشف عما أحاط به من العوامل والمؤثرات ليكون ذلك في هداية الناقد ومعونته على فهم القائل حق الفهم، ولذلك يقول (سانت بوف): إن من أراد أن يكتب عن شاعر أو كاتب فليبحث حياته وسيرته بحثاً دقيقاً ليعرف كيف كان يعيش في منزله وفي الخارج حتى يمكن تصويره في جميع صوره، ومن المأثور عن هذا الناقد الكبير أنه كان يهتم بقراءة رسائل الذين كان يرغب في الكتابة عنهم الخصوصية وكذلك مفكراتهم واعترافاتهم لأنهم يظهرون فيها غالبا بمظاهرهم الحقيقية
ثم هناك ناحية هامة لا نحسبها تخفى على القارئ الفطن، وهي أننا إذا تركنا الناقد يفهم في الكلام كما يشاء، ويحكم على الأثر المنقود حسبما يذهب إليه فهمه وتصوره، فان حكمه - والحال هذه - يكون على مواهبه هو، ومدى إدراكه وفهمه، لا على مواهب القائل ومدى ما عنده من الفن والعبقرية. ولا شك أن هذا تعطيل لمهمة النقد، وخروج بالحكم الأدبي عن وضعه، ومن ثمَّ فقد أخذ الوهم بعقول بعض الناس فزعموا أن النقد لا حقيقة له، لأنه ليس إلا فهم الناقد لا فكرة القائل، بمعنى أننا إذ نكشف عن معنى في تعبير أدبي، فلسنا نكشف في الواقع عن معنى قصد إليه الشاعر أو الكاتب، ولكنا نكشف عن معنى انقدح في ذهننا وتمَّثل لفهمنا! وقد يكون هذا المذهب صحيحاً أو غير صحيح، ولكنا لا شك نرده على أصحابه إذ نطلب من الناقد أن يكون فهمه إنما هو لمقصود القائل وما يرمي إليه، وهذا أمر هين على الناقد المستكمل الأداة المتدرب بالمران
محمد فهمي عبد اللطيف