مجلة الرسالة/العدد 279/من أصداء البحر

مجلة الرسالة/العدد 279/من أصداء البحر

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 11 - 1938



بين عشية وضحاها

للأستاذ إبراهيم العريض

- 1 -

على شاطِئِ البَحرِ - في قريةٍ ... تَلوحُ بعًزلتها الدائِمَهْ

كأنَّ الدُجى لفَّها بالسُّكونِ ... فما بَرحَت دهرَها نائِمِه

تطلُّ عليْها عَروسُ النهارِ ... فَتلبثُ في جوَّها حالمِه

وللبدرِ في أُفقها قُبلةٌ ... تَطولُ. . . ولكِنَّها ناعِمه

بِناءٌ يَذكرُ سُكانَها ... بِشامخِ أبنيةِ العاصِمه

يقيمُ بهَ نائبٌ - أمْرُهُ ... مُطاعٌ - وسطوتُه غاشِمه

فلوْ أيقظَ البحرُ أمواجَهُ ... لمرَّتْ بأعتابهِ لأثِمه

كذلكَ كانَ شُعورُ السوادِ ... من الذُلِّ نحوَ اليدِ الحاكِمه

وأكواخُهمْ وسطَ هذا الإطارِ ... تموجُ بألوانِها القاتِمَه

وتفتحُ نافِذةَ القصْر خَودٌ ... مساءً وتمعنُ إمْعانَها

فَيحلو لها أن ترى الشمسَ تسجُ - دُ سجدةَ شكرٍ لمنْ زانَها

وهَبها توارتْ وراَء الغُيومِ ... فهلْ تُنكرُ الأرضُ إحسانَها

ويعرضُ مِرآته البحرُ حتّى ... تُجِّملَ - سافِرةً - شانَها

وأموجهُ في هُدُوءٍ أمامَ ال ... نَعيمِ تُلمْلمُ أردانَها

فلا هُوَ يتركُها تستقرُّ ... ولا هي تهجرُ شُطآنَها

وتُبصِرُ في قاربٍ فِتيةً ... تُمدُّ إلى الصَيدِ أشطانَها

فيغمُرها فرَحٌ بالحياةِ ... فتُعلنُ للقصرِ عصيانَها

وتخرجُ نشْوى على رمْلِهِ ... تُرَدِّدُ كالطيرِ ألحانَها

وتركبُ في زورقٍ كالهلالِ ... يعومُ بها نجمةً زاهِرهْ

فتأخذُ في جذفهِ باليدينِ ... وفي صدرِها موجةٌ زاخِره ويلثمُ فاها نسيمُ الأصيلِ ... فيندَي بأنفاسِها العاطِره

إلى أن تغيب وراَء السديمِ ... بعيداً بأحلامها الطائِره

ويُدرِكُها أولُ الليلِ عندَ ... فَنارٍ يغضُّ لها ناظِرَه

فتشهدُ مركزَها في الظلامِ ... ومن حَولها الأفقُ كالدائِره

وتلمحُ من بعدٍ قصرَها ... يُدِلُّ بأنوارهِ الباهِره

فتثني أعِنتها للرجوعِ ... . . . ولكنها ترتمي خائِره

ويستيقظُ البحرُ بعدَ الهُجوعِ ... ليُملي إرادتهُ القاهِره

ويشرقُ إحسانُها في الصباحِ ... مَلياً على همساتِ البشَرْ

فتملكُها رعشةٌ للذي ... يمرُّ على ذِهنها من صُوَر

وتذكرُ ما كانَ من حَظَّها ... ومن حَظَّ زورقِها المُنكسِر

وكيفَ تقومُ بها موجةٌ ... وأُخرى على جانِبيها تمُر

فتصرخُ صرخَتَها للحياةِ ... وفي حَلقِها نَفسٌ يُحتضر

فتمتدُّ كفٌ لإنقاذِها ... من الغَيبِ. . . ذلك ما تدَّكر

وتشعرُ بالدفءِ تحتَ اللحافِ ... فتعجَبُ كيفَ احتَوتها السُرُر

وتفتحُ ناظِرهَا بعدَ لأيٍ ... على شبحٍ قائمٍ ينْتظِر

يُناشِدُها وعلى ثغرِهِ ... بنانٌ تُشيرُ بِأنْ تْستقِر

وتستغرِقُ الخوْدُ في نَومِها ... وتأخذُ حظاً من العافِيهْ

ويفترُّ في شَفتيها دمٌ ... كطَلٍ على وردةٍ زاكيه

وتحتَ يدَيها يزِلُّ النصيفُ ... عن بُرْعمي صدرِها ناحِيه

ومِلؤُهما عِزةٌ بالجمالِ ... جمالِ أنوثتها الغافِيه

فَيحنو عليها الفَتى في خُشوعٍ ... ويسترُ أطرافَها العارِيه

ويعزفُ لحناً على عُودهِ ... يُذَكرُ عهدَ الهوى ناسِيه

وينبعثُ النغمُ العذبُ من ... تململِ أوتارهِ القاسِيه

إلى أن تُفيقَ فتاةُ القُصور ... وتَطرِفَ أهدَابُها ثانِيه

فتبسطُ راحتَها كالغريقِ ... وفي ثغْرِها قُبلةٌ طافِيه ويَسألُها عن عهود الصِبا ... وأترابِها في القُرى. . مَنْ هُمُ

فتُغضي حياءً. . . وفي رقةٍ ... تبوحُ لهُ بالذي تكتمُ

(يداكَ تجودانِ لي بالحياةِ ... فشكراً على الجُودِ يا مُنعِم!

وهبتُكَ قلبي. فخُذني إليكَ ... ومُرْني أُطعكَ بما تحكُم)

وتلبَثُ في صمتها برهةً ... ليفهمَ منها الذي يفهم

ولكنهُ لا يُحيرُ الجوابَ ... كمنْ رَابهُ أمرها المُبهمُ

فتنطقُ باسمِ أبيها لهُ ... وتبسم. . . يا حُسنَ ما تبسم

فينفرُ منها نُفُورَ الظليمِ ... وقد ثارَ في مُقلتَيهِ الدم

(أأنتِ ابنةُ النائبِ المستبدِّ ... وأهاوكِ. . إني إذنْ مجِرمُ)

فترجعُ للقصرِ عند الأصيلِ ... طريدةَ آمالِها الخائِبهْ

قضَتْ يومَها حافِلاً بالشعُورِ ... كأحفلِ أيامِها الذاهِبهْ

فتشعُرُ مثلَ شعورِ الغريبِ ... وإن لم يطُلْ عهدُهَا غائِبه

فترْنو إلى البحرِ. . . حتَّى تراهُ ... يسيرُ في موجهِ قاربَه

فتنشِدُهُ حُبَّها لو يُصيخُ ... وتُذرى له دمْعَها عاتِبه

أيا حاسراً زندهُ للبحارِ ... تذوبُ له حسرة كاعِبه

أسأتَ بيَ الظنَّ حتى خَجِلتُ ... ولم تَكُ في نيتي شائِبه

ضربتَ بحبيَ عُرْضَ الجِدارِ ... وأنكرتَ من سؤددِي جانبه

وغاظكَ أنَّ أبي ظالِمٌ ... ألستَ بظلمكَ لي صاحِبَه

وتَخنقُها عبرةٌ في النعِي ... مِ تُلهبُ منْ لوْنَها شاحِبهْ

ويَمضي لطيتهِ ضاحكاً ... يُؤدِّي - على بُؤسِهِ - واجِبَه

- 2 -

تَوالتْ على القَصْرِ عشرُونَ عاماً ... أسابيْعُها مِثلُ أَعيادِهَا

تُوافي الفتاةَ عَروساً، فزَوْجاً، ... فأُمّاً، تَحنُّ لأولادِهَا

وأعقلُهُمْ بحَشَاها ابنْةٌ ... فدَتها الأهَالي بأكْبَادِهَا

تغنِّي. . فتُصْغي إلينا الطُيورُ ... وتَطرَبُ مِنْ حُسنِ إِنشادِهَا وتَلمحُ صُورتَها في المياهِ ... فتضْحَكُ من قَولِ حُسادِهَا

ولو أَنها نَزَلتْ في الجِنانِ ... لأزرَتْ بأجْمَلِ أورَادِهَا

يخفُّ إليها نسيمُ الربيعِ ... يُذَكرُها يومَ مِيلادِها

ووالدُهَا غائِبٌ في البلادِ ... يقومُ بتنظيم أجْنادِها

فيكتبُ مُسْتملحاً لو تَسيرُ ... إليهِ فَيَحظى بإِسعادِها

وتصحبها أمها للسلامِ ... على زوجها. . وهي لا تبتسمْ

فقد علّمْتها صُروفُ الزمانِ ... بأنَّ الطلاقةَ شيءٌ يُذَم

يذمُ. ولابْنتها نظْرةٌ ... تَبشُّ إلى كلّ وجْهٍ - وفَم

وتجري بها الفُلكُ وسْطَ البِحَارِ ... وأمواجُها دائِماً تلتَطِم

فتُلقي بها تارة كالدلاءِ ... وترفَعُها تارة كالعَلَم

إلى أنْ يَلوحَ لها - حيثُ لاحَ ... قديماً - فنارٌ يُنيرُ الظُلَم

فتَذهَلُ واجِمة. . . كالذي ... يَرى شَبحاً في ثناياهُ دَمْ

وتذكُرُ حُباً خلا في الوُجود ... لشخصٍ طَوى صفحَتيهَ العَدم

فتَبسم. . لكنَّ في نَفْسِها ... مَرَارةَ ذِكرَى تُثيرُ الألمَ

على أن ذاكَ الفَتى لم يَمتْ ... فقَدْ صارَ نابِغة في الفُنُون

تلقَّى من الكَونِ إلهامَهُ ... ومثَّلَ آياتِهِ في اللحونْ

فما هيَ إلا الضُحى في امتِدادٍ ... وما هيَ إلا الدُجى في سُكون

كأنَّ على يدِهِ العُودَ طِفلٌ ... يبُثُّ الوَرَى شجْوَهُ بالأَنين

يرِنُّ. . فتَقْطُرُ منهُ القُلوبُ ... وتأخذُ موضِعَها في العُيون

ويصُغي إليهِ المحبُّ الغَيورُ ... ويُدْركُ في الحُبِّ سرَّ الجُنون

وتنْعطِفُ الأمُّ نَحوَ الرَضيعِ ... وفي صدْرِها جدْوَل من حَنين

ويحْلمُ بالمجْدِ طرفُ الجَبانِ ... وإن ذاقَ في المجدِ كأْسَ المنون

لأنَّ المعانيَ من كلِّ لَوْنٍ ... تَفوزُ بجلوَتِها في الرَنينْ

ويُبْصرُها وهْوُ في مَحْفِل ... يُوقَّعُ أنغامَهُ في الغَزَلْ

وقدْ حوَّلُ الصمْتُ تلك العُيونَ ... شِفاهاً تدُلُّ على ما تَدُل فيذكرُ زوْرَقَها في الظلامِ ... ومَشْهَدَها تحتَ نابِ الأجَل

فيشعرُ بالوخزِ - وخْزِ الضمير ... - على قطِعِه حبْلهَا المتَّصِل

فينُشْدُ. . . والعُودُ بينَ يدَيْهِ ... يُرجَّعُ كالطِفْلِ ما يرتجِلُ:

(أمَا كُنتَ حاضِرَنا يا هلالُ ... عِشَّيةَ ضاقتْ عليْها السُبلُ

فألقَيتُ نفْسيَ وَسطَ الغِمارِ ... وأدركتُ فيها بقايا الأمَل

كأَنِّي - وقد حضَنتها يدايَ ... - أودُّ لها في ضُلوعي مَحَل

ولو نزلتْ في صَميمِ الفُؤادِ ... لعَزَّ على غُلَّتي أن تُبلْ)

وتطرَبُ مِنْ لحنهِ البِنتُ حتَّى ... تُنَاشِدهُ أن يُعيدَ الغَزَل

وتسألُ عن شأنِه مَنْ يكونُ ... فتَجذِبُها أمُّها بالعجَل

وتهمسُ في أُذْنِها دُونَ أَنْ ... يَرَى الحَفْلُ ما مسَّها من خَجَل:

(بُنيّةَ! هذا فتىً مِنْ قُرَاكِ ... تَعرفَ بي في الصِبا المُرْتحل

وخُيِّلَ لي أَنهُ مَيتٌ ... ولكنَّ لله شأْناً أجَل

أغرَّكِ مِنهُ النسيبُ الجَميلُ ... على ثَغرِهِ يُشتَهى كالقُبَل

دَعْيهِ. فعَهدِي بقلبٍ طَواهُ ... - على فَنِّهِ - مُقْفِراً كالطَلَلْ)

(البحرين)

إبراهيم العريض