مجلة الرسالة/العدد 28/صفي الدين الحلي

مجلة الرسالة/العدد 28/صفي الدين الحلي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1934



- 2 -

هذه هي الناحية اللفظية، وأما خصائص معانيه فإنها تتمثل في شدة اتصالها بعلوم البيان من كثرة التشبيه واستعمال المجاز والكنايات، وقد ساعده على الإجادة في ذلك ما وهبه من قوة الخيال ودقة المشاهدة كما سنعرف ذلك حين التحدث عن وصفه. وتتمثل أيضاً في طغيان الإشارات والمصطلحات العلمية عليها إذ تراه يستغل معارفه في علوم الفقه والحديث والفلسفة والتصوف في استعارة معانيه لأي موضوع شاء، وكثيراً ما يضرب الأمثال بحوادث التاريخ أو يستشهد بالقصص العامة الشائعة كأنه يدرك قاعدة التربية الحديثة في إظهار المعقول بثوب المحسوس.

وتعد معانيه فوق ذلك من النوع الممتلئ الدسم، فهي تتدفق قوية في طريقها إلى الغاية من غير تفكك أو فضول أو تدنس بالمعاني العامية المبتذلة، ويحس قارؤها بروح الصدق سارية بين أجزائها في أغلب الأغراض لأنالشعر كان قطعة من نفس صفي الدين لا علماً يحرك به لسانه، أما في غير الغالب فقد كان يقحم نفسه في أغراض متكلفة لا صلة بينه وبينها غير حب المحاكاة والصنعة كما أنه انحدر إلى أعماق الابتذال حين خاض في المجون. .

وقد قال صفي الدين بهذه المعاني في جميع الميادين التي عرفها الشعر العربي إلى وقته، حائزاً قصب السبق في كثير منها فتناول الفخر والمدح والوصف والغزل، وهي أركان شعره الكبرى ثم الحكم والخمر والزهد والألغاز والمجون، وهي العمد الثانوية، ونحب قبل أن نستعرض هذه الميادين أن نسجل هنا شهادة أحد المعاصرين له وهو صاب (الفوات) المتقدم ذكره إذ قال: تعجبك ألفاظه المصقولة ومعانيه المعسولة ومقاصده التي كأنها سهام راشقة وسيوف مسلولة)! وما أثمنها شهادة من معاصر كان أجدر به الجحود والنكران

لم يكن صفي الدين شاعراً قوالاً فحسب، وإنما كان بطلاً مغواراً يعرف كيف يكتب بالسيف على الرقاب كما يخط بالقلم على الطرس، وذلك لأنه نشأ من أسرة نبيلة قوية كانت هي صاحبة الولاية على (الحلة) وبعض بلاد العراق المحيطة بها، وكان بجانبها أعداء وحساد كثيرون يحاولون أن ينزلوها من المكانة السامية بكل الوسائل من غدر دنيء أو قت صريح، حتى أن أحد أخوال هذا الشاعر قد قتل وهو بين يدي ربه في المسجد العام فكان هذا الموقف الخطر داعياً إلى تنشئة أبناء الأسرة نشأة حربية باسلة ليستطيعوا أن يأخذوا من أعدائهم بالثأر ويردوا في نحورهم كيدهم ولهذا كان أول الدواعي التي حدت بشاعرنا إلى الشدو والغناء ذلك الشعور اقوي الذي كان يجيش في خلايا قلبه شعور العزة القومية والمجد والكرامة، وقد غرس فيه هذا الشعور طموحاُ وثاباً إلى مشارف العلا فظل يضرب على وتر الفخر والحماة بأروع الأغاني الشجية التي تبرئ صدر الجبان وتلهب عزيمة الشجاع المقدام، فشعره في ذلك مثل من أمثلة الأدب الحي القوي الذي ننشده اليوم في عصر انحلال الزائم وخمود الشهامة! وإذا شئت فترنم معه وهو يشيد بذكر قومه:

قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة ... يوماً وإن حكموا كانو موازينا

تدرعوا العقل جلباباً فإن حميت ... نار الوغى خلتهم فيها مجانينا

إذا ادعوا جاءت الدنيا مصدقة ... وإن دعوا قالت الأيام آمينا

إذا جرينا إلى سبق العلا طلقا ... إن لم نكن سبقاً كنا مصلينا

تدافع القدر المحتوم همنتا ... عنا ونخصم صرف الدهر لو شينا

عزائم كالنجوم الشهب ثاقبة ... مازال يحرق منهن الشياطينا

ولم يقصر الشاعر همه على مجرد الفخر بهذه الإرادة التي تدافع القدر المحتوم وتخصم الدهر؛ بل كان بين قومه في منزلة الشاعر الجاهلي في قبيلته يشترك عملاً في تدبير سياستهم ويحرضهم قولاً على الحرب إذا ثلمت كرامتهم وينعى عليهم لو أحجموا يوماً عن أداء الواجب، وكأنما كان شعره جريدة (الحلة) القومية تشير عليهم كل آن بسديد الرأي وماضي العزم وفي نار هذه المواقع المشبوبة تلقى الشاعر دروساً من الحكمة جديرة أن توضع بين عيني كل من يحلم بالمجد أو يطمح إلى العلياء، فهو رجل عملي لا يؤمن بالحظ والخيال الكاذب، ولكنه يرى طريق النجاح مرصوفاً بالكد والعناء لا تذلله إلا الإرادة الجبارة والنفس التي لا تلين. وهو رجل نستنكف أن جري ماء الحياة بين جنبيه ثم لا يسعى ويقدم ويصعد حتى يدرك قمة الشرف والسمو، وكم يسخر ويثور على هؤلاء القوالين الذين يقتنعون بالألفاظ الرنانة والأصوات الجوفاء، ألا تراه يقول

لست ممن يدل مع عدم الجد ... بفضل الآباء والأجداد ما بنيت العلياء إلا يجدي ... وركوبي أخطارها واجتهادي

وبلفظي إذا نطقت وفضلي ... وجدالي عن منصبي وجلادي

غير أني وإن أتيت من النظ ... م بلفظ يذيب قلب الجماد

لست كالبحتري أفخر بالشع ... ر، وأثني عطفي في الإيراد

وإذا ما بنيت بيتاً بختر ... ت كأني بنيت ذات العماد

إنما مفخري بنفسي وقومي ... وقناتي وصارمي وجوادي

ومن منا لا يحفظ قوله السائر:

لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ... ولا ينال العلا من قدم الحذرا

ومن أراد العلا عفواً بلا تعب ... قضى ولم يقض من إدراكها وطرا

وله غير ذلك الشعر الجيد المصقول يصور فيه همته وتفضيله الموت على الذل والنفور من اليأس حتى في ساعة الفشل والاستهزاء بالعدا والأخطار، ويالها من مبادئ يبتسم لها المجد

ولكنه ما كاد القرن الثامن يذر في الأفق حتى أحاطت بالعراق خطوب وفته بانشقاق أهله على أنفسهم وبإيغال المغول في أنحائه فاتحين متجبرين، فاضطرت الولايات الصغيرة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها إلى الاجتماع بما حولها من الدول الحصينة القوية. وهكذا اعتمدت أسرة الحلي على الدولة الارتقية المقيمة بماردين وعلى رأسها الملك المنصور نجم الدين غازي وقد كانت تتمتع باستقلال داخلي وراثي، ولكنها تعترف بسيادة مصر، وفي عاصمتها هذه يقول (ياقوت في معجمه: (إنه ليس في الأرض أحسن من قلعتها ولا أحصن ولا أحكم)، فدخل الشاعر إلى بلاط هذا الملك يحرصه بادئ الأمر على مساعدة قومه والانتصار لهم على أعدائهم، ثم ما لبثت أن صار شاعراً رسمياً له، يهتف بمناقبه وينث ذكراه. وعند ذلك ابتدأ ظهور النوع الثاني من شعره وهو المدح.

حدث صفي الدين الحلي عن نشوء هذا الانقلاب في شعره فقال: (كنت عاهدت نفسي ألا أمدح كريماً وإن جل، ولا أهجو لئيماً وإن ذل، ولكن الحوادث ألجأتني إلى هجر عريني. . فحططت رحلي بفناء فخر الأواخر والأوائل ملوك ديار بكر بن وائل فمذ ثبتوا بالإحسان قدمي، وصانوا عن بني الزمان وجهي ودمي، حمدت لقصدهم مطايا الآمال، وقلت لا خيل عندك ولا مال، فليسعد النطق إن لم تسعد الحال) فمن ذلك الحديث نرى أن مدحه لم يكن نفاقاً أو رياءً يتخذه وسيلة للاستجداء والسؤال، وإنما كان نتيجة عاطفة محمودة هي عاطفة الشكر وعرفان الجميل. ويدل كذلك على أنه كان يفهم غاية الشعر حق الفهم ويؤمن بقدسيته الفنية، فكان يربأ به أن يكون عبد الغرض ورسول الحاجة ولا غرو فقد عرفنا صفي الدين شاعراً مطبوعاً لا مصنوعاً.

وإذا أحصينا المدائح التي نظمها وهي كثيرة مستفيضة ألفيناها تكاد تنحصر في أربعة مسالك: مدح الرسول وآله، ومدح الأسرة الارتقية المذكورة، وبني قلاوون، وبيت المؤيد، وكلها تسير على نمط متحد في عدم الوصول إلى المدح إلا بعد مقدمات طويلة في موضوع آخر يسترسل فيها ثم يبذل جهده في اختراع وسائل التخلص إلى غرضه. غير أنه كان يتصرف في أنواع هذه المقدمات بألوان شتى، فتارة تكون غزلاً وأخرى وصفاً لرحلة فتارة تكون فخراً أو خمراً، وقد تكون رسماً لمنظر طبيعي جميل، فكأن كل قصيدة منقسمة إلى شقين لكل منهما غايته وصورته ولا يلتقيان إلا بذلك الرابط الواهن الذي يسمونه (حسن التخلص)

وأوضح ما نراه في معاني المدح النبوي ظاهرتان تشير إحداهما إلى مذهبه والأخرى إلى خلقه: فقد عهدناه محباً مخلصاً لآل البيت والسلالة العلوية يذكرهم كلما ذكر النبي تقرباً إليه بأهله، ويناضل تحت لوائهم كل من عرض لهم بمذمة أو نقيصة، مردداً أنهم أجدر الناس بالخلافة، مسجلاً على بني العباس طغيانهم واغتصابهم لذلك الحق الثابت. وقد سأله نقيب الأشراف بالعراق أن يجيب عبد الله بن المعتز عن قصيدته التي غض فيها من قدر العلويين، فأجابه بقصيدة دامغة الحجة كأنها جدال علمي لولا ما فيها من صور العاطفة الثائرة. وهذه العاطفة الشيعية تدل على حقيقة تاريخية كبيرة، هي أن العلويين كانوا لا يزالون يثيرونه دعاتهم في العراق أملاً في أن يخلفوا العباسيين بعد زوال دولتهم.

أما الظاهرة الثانية فهي اعترافاته الخطيرة أمام النبي (ص) بما جنى في حياته من عبث وجور على الشريعة يصفها بأنها جرائم تندك منها الجبال، ولا نحسبها مبالغة منه لأنا نعرفها حقيقة ثابتة في خلقه، إذ كان حي لشيطان واهي الزمام في بيداء هواه يعطي لنفسه ما تشتهي ثم يعود إلى ربه معتقداً دائماً أن الله غفور رحيم، ولذا نظن أنه لم يفكر في هذا الندم إلا بعد أن وخطه المشيب وآذنت شمس حياته بالمغيب.

وأما مدائحه في بني أرتق فبحسبنا أن نقول عنها إنها جمعت كل ما انبتت القرائح في الأدب العربي من أوصاف الخلق الحميد، ففيها كرم حاتم ووفاء السموءل وحكمة لقمان وشجاعة خالد وهكذا حتى تطوف على ذرى الفضائل الإنسانية، فهي مليئة حقاً بالمبالغة والإغراق إلى أبعد مدى. ويظهر أن الشعراء كانوا لا يعدون بلاغة المدح في تصوير الحقيقة الواقعة وإنما يقبسونها بعظم المثل الأعلى الذي يتخيله الشاعر ثم يرسمه في شعره. وهذه القصائد قسمان: قسم متفرق مرتبط بالمناسبات العارضة، وقسم آخر مجتمع الأجزاء كديوان مستقل يحتوي على تسع وعشرين قصيدة كل منها تسعة وعشرون بيتاً وقد أسماه (درر النحور في مدح الملك المنصور)

(له تكملة)

ضياء الريس