مجلة الرسالة/العدد 280/الغازي كمال أتاتورك

مجلة الرسالة/العدد 280/الغازي كمال أتاتورك

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 11 - 1938


ربما كان (كمال أتاتورك) أضعف من (مصطفى كمال) في الدلالة على نشور دولة في قائد، ونبوغ أمة في رجل، وبلوغ حكومة في زعيم، وتاريخ نهضة في حياة فرد! فإن (مصطفى كمال) أسم على كل أولئك نقشته في الآذان والأذهان الأقدار المصرِّفة والعبقرية الخلاقة في مدى عشرين سنة! ولكن (أتاتورك) لّقبٌ أطلقوه على النسر المحلق بعدما قبض مخلبه وطوى جناحه، فلم يطر معه في جو، ولم يقع به على فريسة، ولم يدل إلا دلالة الأبوة على الأسرة الطائعة والألفة الجامعة والرعايا الحنون!

لم يكن مصطفى كمال رحمه الله رجلاً من رجال المصادفة والحظ،

يرفعه إلى البطولة خلو الميدان، ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة؛ وإنما

كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي

يوشك أن يضل، والحيويةَ للشعب الذي يأبى أن يموت. والغالب في

هذا الصنف من الناس أن يكون مستبداً رأيه حاكماً بأمره، لأنه يظهر

والقوم في ضلال أو انحلال فيكون تفرده بالأمر تنبيهاً من الله وتوجيهاً

من الطبيعة؛ ومن ثَمَّ كان المضاء والفداء والإيثار والعدل من أخص

صفاته

جرت الطبيعة في تهيئة مصطفى كمال على منهاجها في تهيئة الأبطال، فولدته في مهد الفقر، وربته في مدارج القرية، وغسلته بأنداء الحقل، وسقته من عرق العمل، ففلح الأرض، ورعى الغنم، وتلقى من الطبيعة الصافية الحرة أخلاق البطل الذي رمى المنجل وأخذ السيف، وأنصرف عن قيادة القطيع إلى قيادة الأمة

تستطيع أن تقول: أن الوراثة المختلطة والنشأة القروية والبيئة المقدونية والأم الصالحة قد فعلت فعلها جميعاً في تكوين مصطفى كمال؛ ولكنك لا تستطيع أن ترد إلى عامل من هذه العوامل ذلك القلق الروحي الذي استولى عليه في جميع أطوار عمره، فتركه ثائراً لا يهدأ، وطامحاً لا يرضى، ودائباً لا يستقر. إنما هو سر الينبوع يذيع، وقبس الإلهام يتقد، وفيض الحيوية يزخر؛ فهو راعاً قلق في المرعى، وطالب ثائر في المدرسة، وقائد متمرد ف الجيش، وزعيم مسيطر في الحكومة

رأى مصطفى طغيان عبد الحميد يخنق الحرية ويزهق النفوس ويرهق الضمائر، فقاومه وهو يافع في جماعة (الوطن)، وهاجموه وهو شاب في جمعية الاتحاد والترقي، وقضى على تراثه كله وهو كهل في المجلس الوطني الكبير. ثم كان في كل عمل تولاه يمضي مضي الأمر المقدور، فلا يتقيد برؤسائه الألمان، ولا بزملائه الترك، إذا رأى الفوز في خطته أو الصواب في رأيه

وعصفت الحرب الكبرى بغليوم وبوحيد الدين، ومزقت معاهدة (سِفر) رقعة الإمبراطورية العثمانية بين الحلفاء، فكان لكل حليف درة من تاج محمد الفاتح، حتى لم يبقى للخلافة إلا موضع العرش. ونزل الخليفة ووزراؤه على حكم القادرين فاعترفوا بالضيم واستكانوا للمذلة. وأعتقد الناس أن (الرجل المريض) قد لفظ نَفْسه فلا حسٌ ولا حركة. ولكن الشعوب الحربية يتنخلها الانتخاب الطبيعي فلا تموت بالصيحة كما تموت الشعوب الوديعة، فبقيت الروح التركية تضطرم وتفور في مصطفى كمال ورفاقه الميامين على شعاف الأناضول، فجمعوا فلول الجيش المحطم وكرّوا به على اليونان فكبكبوهم في البحر، وضعضعوا عزائم الأحلاف فهادنوهم في (مودانيا) مهادنة النصر، وعاهدوهم في (لوزان) معاهدة الاستقلال. وبُعثت تركيا من جديد على صرخة كمال وأنصاره كما يبعث المقبور على نفخة الصور، عارية من دنياها القديمة، منقطعة عن ماضيها الغابر، فاستبدلت الجمهورية بالخلافة، والقبعة بالطربوش، وفصلت بين الدنيا والدين، وكتبت من الشمال إلى اليمين، وأدارت ظهرها للشرق، وساوت بين الرجل والمرأة في الحق، وسجلت نفسها في عصبة الأمم من مواليد هذا القرن!

قالوا: إذا كان محمد من جهة البشرية معنى العرب، فإن مصطفى كمال من هذه الجهة معنى الترك. ووجه الشبه في زعمهم أن أتاتورك أحيا وجاهد واصلح وشرع، وأن مبادئه ستنطبع في العقلية التركية فلا تصدر إلا عنها ولا تسير إلا عليها؛ وقد فاتهم أن نهضة محمد يسددها قرآن ويسندها وحي، وأن نوطتها في القلوب آتية من اقتناع العقل لا من شدة السلطان؛ وقد انتقل العرب على هُدَى قائدهم الأعلى من حال إلى حال لا يقاس ما بينهما من البعد والاختلاف بما بين حالي الترك، ومع ذلك ظلوا في طريقهم الواضح إلى الله ثلاثة عشر قرناً ونصفاً لا ينكصون ولا يضلون. فليت شعري أيظل الترك في طريقهم إلى الغرب بعد أن همد الصوت المُهيب وسقطت العصا المهددة؟ إن الناس ليختلفون في الجواب عن هذا السؤال. ولعل كثرتهم يعتقدون أن التغلب على العقائد المغروسة والتقاليد الموروثة والآثار الماثلة لا يتيسر في مثل هذه المدة. ولكن المختلفين والمتفقين كلهم لسان واحد في أن كمال أتاتورك أعظم من أنجبت تركيا شجاعة قلب وبراعة ذهن وأصالة رأي وطهارة يد وسلامة ضمير

تغمده الله برحمته، وجعل ثوابه كِفاءً لصدق جهاده وحسن نيته

أحمد حسن الزيات