مجلة الرسالة/العدد 281/مقدمة المنهج الجديد

مجلة الرسالة/العدد 281/مقدمة المنهج الجديد

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 11 - 1938



لتدريس الدين في مدارس الشام

للأستاذ الشيخ بهجة البيطار

(في مصر اليوم ميل قوى إلى الاقتراب من سائر البلدان العربية، وتوحيد برامج التعليم فيها جميعاً. كما أن في مصر نهضة إسلامية قوية، امتدت إلى ديار الشام فحفزت وزير معارفها الجليل إلى إجابة طلب الأمة وتلبية نداء مؤتمر العلماء، فزاد ساعات الدروس الدينية في الدارس الابتدائية والثانوية، وأصلح مناهجها، وهذه هي المقدمة التي كتبها عالم الشام (كما كان يسميه الإمام السيد رشيد رضا) الأستاذ الشيخ بهجة البيطار بتكليف من الوزارة لمنهج الدين في المدارس الثانوية، اقترحت عليه نشرها في الرسالة لأن فيها دليلاً على حركة فكرية جديدة في بلاد الشام ومن مبدأ الرسالة تسجيل الحركات الفكرية ولأن فيها عوناً على ما نريد من توجيه برامج التعليم في الأقطار العربية، ولأنها بعد هذا كله فصل علمي قيم)

علي الطنطاوي

الإسلام دين عام لجميع الشعوب والأقوام (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) والقرآن هو الذي هدَىَ من دانوا به من الأمم إلى جميع ما تمتعوا به من صنوف النعم، وهو الذي أظهر على أيديهم تلك المدنية الزاهرة، التي جددت ما اندرس من المدنيات الغابرة، وأوجدت أصول مخترعات الأمم المعاصرة. وبناءً على هذا الأساس، توجه أنظار الأساتذة الكرام وأفكارهم إلى ما يأتي: -

1 - بيان أن القرآن الحكيم هو الذي هدى السلف إلى الجمع بين مصالح الروح والجسد، فهم بعد أن سمت عقولهم بالتوحيد، وزكت نفوسهم بضروب الأخلاق والعبادات، عُنوا أشد العناية بالعلوم والفنون النافعة التي عدَّها الإسلام من الفروض، وأوجبها على الأمة إيجاباً لا هوادة فيه. قال تعالى: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) وهذا النظر علمي عملي ينتج أفضل النتائج والثمار، وقال: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) وهذا التسخير تسخير تمكين وانتفاع، واكتشاف واختراع، وقال: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وهذا خطاب عام لهذه الأمة يدعوهم ويوجه نظرهم إلى ما خلق تعالى ف جوف هذه الأرض من الكنوز والمعادن، ويرشدهم إلى الاستفادة منها، ويثبت أن جميع ما استحدثته أمم الغرب في هذا العصر من القُوى البرية والبحرية والجوية، ومن قوى الكهرباء، وسائر ما ظهر في الوجود من المخترعات والمكتشفات، هو ما أرشد إليه الإسلام، فردُّه ردّ لنصوص القرآن، وتعطيل لأحكامه، وتجريد لهذه الأمة من كل ما يعزز قوتها وينمي ثروتها ويحمي حوزتها ويدفع عوادي الشر عنها. وأي جناية على الإسلام وأهله أشد من هذه الجناية؟

2 - بيان موافقة تعاليم القرآن وهدايته، لمصالح البشر في كل زمان ومكان، وأن مثل هذه الآيات الكريمة السابقة هي التي أرشدت سلفنا الصالح إلى ما في السموات من أسرار ومنافع، وما في الأرض من كنوز وذخائر، فارتقت عقولهم وأفكارهم بالعلوم الآلهية، والفنون الصناعية، ارتقاء سادوا به الأرض، وساسوا به العالم سياسة هي في نظر المطلعين على تاريخ الأمم القديمة والحديثة أفضل مثال للعدل والرحمة، ثم بيان أن شقاء البشر الحاضر العام لأمم الحضارة وما فيها من فوضى الآداب والاجتماع، لا يزول إلا باتباع هداية الدين

3 - تطبيق ما في القرآن الحكيم من المواعظ والعبر، على حال أهل هذا العصر والإتيان بالشواهد والأمثال على ذلك، وبيان الفرق بين ماضي المسلمين وحاضرهم، وحجة القرآن الكريم عليهم

وهذا كله من موضوع علم التفسير: تذكر هذه الآيات الكريمة بمناسباتها وتفسر بالظاهر المتبادر منها، بأسلوب ينطبق على أذواق الطلاب وإفهامهم ويحملهم على العمل بها في أنفسهم وفي أمتهم

4 - مما يجب بيانه في دروس التوحيد قولُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنما تُنقض عُرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية) وهنا يبين أن العرب كانوا في جاهليتهم مؤمنين بوجود الله تعالى، موحدين له في أفعاله من خلق ورزق وإحياء وأمانة، وتصريف لجميع الأمور. وهذا هو المسمي (توحيد الربوبية) ويستشهد لذلك بالآيات الكريمة كقوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولُن الله) وكقوله: (قل من يرزقكم من السماء والأرض. . . الآية) وكقوله: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله. . . الآيات)

وإنما كان شركهم في توحيد الألوهية، أي في توحيد العبادة، وهو أنهم لم يقصروا عباداتهم بأنواعها على مستحقها وهو الله وحده كالدعاء والخوف والرجاء، والاستعانة والاستغاثة، والذبح والنذر ليقربوهم إلى الله على عزمهم، قال تعالى: (ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. . . الآية) وقال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. . . الآية) فردّ الله عليهم هذا الزعم الباطل بهذه الآيات نفسها، وبالآيات السابقة في توحيد الربوبية (ولئن سألتهم) (قل من يرزقكم) وأقام عليهم الحجة بما أقروه من انفراده تعالى بأفعال الربوبية، على ما أنكروه من وجوب إفراده تعالى بالعبادة

ومن صنيعهم أنهم كانوا في الشدائد يخلصون لله في الدعاء كما قصّ علينا من شأنهم بقوله: (فإذا ركبوا في الفلك دَعَوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)

5 - من المهم بيان أن الخوف نوعان: خوف عادة كالخوف من عدوّ أو سبع مثلاً، وهذا خوف طبيعي لا محذور فيه، وخوف عبادة، كالخوف من تصرف غائب أو ميت، بعباد الله، كتصرف الله بمخلوقاته، وهذا فيه كل المحذور لأنه يتضمن اعتقاد أن لبعض المخلوقات قدرة على التصرف بأنفس الأحياء وأموالهم، كقدرة الله تعالى، وهذا يخالف الحس والواقع، ويناقض عقيدة التوحيد بأفعال الله تعالى. وهكذا سائر الصفات منها طبيعي ومنها غير طبيعي؛ فمن الطبيعي مثلاً خوف موسى عليه السلام من عصاه لما انقلبت حيّة (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى) ومن غير الطبيعي حب بعض المخلوقات حب عبادة، كما يحب المؤمن ربه، قال تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله) أو خشيتُه كما يخش المؤمن ربه، ومن شواهده قوله تعالى (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) ومن الأول أيضاً (أي الطبيعي): (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) ومن الثاني (أي دعاء العبادة): (وان المساجد لله، فلا تدعو مع الله أحداً) وهكذا الاستعانة والاستغاثة، منها ما هو عادي طبيعي كاستعانة الناس بعضهم ببعض فيما يقدرون عليه، ومنه قوله تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه)، فهذا داخل في دائرة الأسباب والمسببات، ومنها ما هو فوق قدرة البشر، كشفاء المرضى في الدنيا وإدخال الجنة في الآخرة، فهو خاص بمن هو على كل شيء قدير؛ ومنه قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)؛ فيجب التمييز بين الأمور الكسبية والأمور الغيبية. فالأولى يمكن طلبها بأسبابها ومن القادرين عليها، والثانية عبادة، وهي لا تكون إلا لله وحده، فيُلجأ إليه في طلبها ويُتوكل عليه في تحصيلها. وليُنتبه لهذا الفرق فانه عظيم

6 - بيان أن عرب الجاهلية كانوا أربع فرق: فرقة كانت تدعو الجن، والثانية الملائكة، والثالثة تعبد الرسل والصالحين، والرابعة وهي أحط الفرق الأربع كانت تعبد الأوثان التي نحتتها على مثال الصالحين. وهذا البيان، من افتراق المشركين إلى أربع فرق قد بينه القرآن، وكلّم كل فرقة بحسب ما تعتقد وردّ عليها، وإليك الآيات التي تدل على ذلك:

الأولى: الفرقة التي كانت تدعو الجن (ويوم يحشرهم جميعاً، ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون، فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضرا)؛ وقال تعالى في شأن هذه الفرقة أيضاً: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلفهم وخرقوا له (اخترعوا) بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون)؛ وقال تعالى في شأن دعاة الملائكة والرسل والصالحين وهما الفرقتان الثانية والثالثة: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذوراً) ولا يمكن لعاقل أن يزعم أن الأصنام كانت ترجو رحمة أو تخشى عذاباً

وقال تعالى في شأن الفرقة الرابعة وهم عبدة الأوثان الذين نحتوها على مثال الصالحين: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، ألهم أرجل يمشون بها. . . الآيات) وجميع هذه الفرق كانوا يعتقدون أن الخالق لكل شيء هو الله تعالى، وأن دعاءهم لمن يدعون ليقربوهم إلى الله زلفى، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم جميعاً بقوله: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وقد تقدم ذلك. ومن هنا يتبين خطأ من يظن أن الآيات نزلت فيمن كانوا يعبدون الأصنام وحدهم، وقد علمت أن القرآن لكريم تكلم مع كل الفرق 7 - يراجع تفسير هذه الآيات الكريمة قبل إلقائها على الطلاب في كتب التفاسير المعتمدة، ليعلم سياقها وسباقها، والأسباب التي نزلت فيها وما فسرها به من لا ينطق عن الهوى أو الصحابة أو التابعون لهم بإحسان كتفسيري إمام المفسرين أبن جرير، والحافظ المحدث بن كثير. ثم تفسر بأسلوب سهل خال من المصطلحات، فيكون الأستاذ قد جمع في تفسيرها بين القديم والحديث على أصح الوجوه وأحسنها.

أما الآيات الكونية فيرجع فيها أيضاً إلى ما فسرها به العلماء من محققي هذا العصر.

8 - تشرح في دروس الفقه أركان الإسلام الخمسة التي وردت في حديث (بنى الإسلام على خمس) ويبين معنى كلمة التوحيد التي هي ركن الدين وأساسه الأعظم، وأنها (أي لا إله إلا الله) مسقطة لجميع آلهتهم (أي العرب قبل الإسلام) هادمة لأنواع عبادتهم، ومثبتة لعبادة الله وحده الذي وحدوه بربوبيته (أي بأفعاله) ولم يوحدوه بألوهيته (أي بعبادتهم له كما تقدم) فمعنى (لا إله) هو نفي لكل معبود في الوجود وإبطال لعبادته، وكلمة (إلا الله) إثبات لعبادة المعبود بحق وحده وهو الله تعالى، ولو كان معناها (لا خالق إلا الله) أو ما هو في معنى ذلك من أفعال الربوبية كالرزق والإحياء والأمانة لما استكبروا عن النطق بها، لأن هذه الأفعال لم يدعوها لآلهتهم، وتقدم بيان هذا في توجيهات التوحيد، فيجب على الأساتذة أن يشرحوا هذه الحقيقة لأنها أصل الأصول وحقيقة الحقائق.

9 - بيان المقاصد الدينة والحكم الاجتماعية للصلاة والزكاة والحج والصيام، وتبين أيضاً فوائد العبادات في معترك الحياة العملي والجهاد القومي. (فالصلاة) الروحية البدنية التي هي فرض عام على كل مكلف، تنهي عن الفحشاء؛ وأشد الفواحش والمنكرات فتكاً وهتكاً هي تلك الجيوش المعنوية التي فتحت بلاد الشرق لها عقولها وجسومها وجيوبها كالخمر والميسر والزنا والربا والأنتحار، فكثير ممن أضاع الصلاة واتبع الشهوات وقع في هذا التيار الذي أسلمه إلى الجنون أو المنون، فكان ذلك من أشد المصائب على الوطن. (والصيام) الذي يدعو إلى إمساك المعدة عن الطعام، وسائر الأعضاء عن الآثام، وصرف جميع القوى والمواهب فيما خلقت له، يعلم الثبات على خلق (أي مبدأ) قويم لا محيد عنه. فالصائم الذي يغلب عقله شهوته ولا يخون دينه بالأكل نهاراً - سراً وعلانية - لا يمكن أن يخون وطنه أو يخدع في أمره فيبيعه بثمن بخس من غير أهله. (والزكاة) إعطاء نصيب معلوم من المال للفقراء والمساكين الذين أقعدهم العجز عن العمل، دون الكسالى المتسولين القادرين على الأكل من كسب أيديهم (وبقية الأصناف الثمانية في آية: إنما الصدقات للفقراء والمساكين. . .) فإذا حفظت الزكوات والوصايا لمستحقيها ووزعتها عليهم جمعيات التعاون على البر والتقوى، ذوات الاختصاص بتمييز المستحقين من غيرهم، كانت هذه أفضل طريقة تجمع بها الأموال من المحسنين لإطعامهم وإيوائهم وتعليم أبنائهم. (والحج) أعظم مؤتمر إسلامي حر، وأكبر نقابة في الدنيا تبحث في شؤون المسلمين ومصالحهم، وتوازن بين ماضيهم وحاضرهم، وتدافع عن حقوقهم وحرياتهم، وتؤلف بين شعوبهم وقبائلهم. ثم هو فريضة الإسلام والركن الاجتماعي للعام الذي يربط أفراد الأمة الإسلامية بعضهم ببعض، ويشد أواصر التآخي والتراحم بينهم، وينزع الضغن والحقد من بينهم فيصبحون بنعمة الله إخواناً.

10 - المعلمون ورثة الأنبياء في تعليمهم وأخلاقهم، ومن شأن أساتذة الدين أن يكونوا من أكمل البشر وأفضلهم في آدابهم وأعمالهم ومعاملاتهم، ويجب أن تتجلى فيهم مزايا العبادات المذكورة في هذه المقدمة وفوائدها، وأن يكونوا هم صورة كاملة لها، فهم القدوة الصالحة التي ينشدها الطلاب والمدارس، والمثل العليا تستملي من صفاتهم وأعمالهم، لا من الكتب التي بين أيديهم فحسب. والرجاء في أساتذة الدين أن يصبحوا طلابهم في المصلى والمسجد (لا في المقهى والملهى) ويكونوا أئمة لهم في بعض الصلوات، ومؤتمين بهم في البعض الآخر، ولا يرى الطلاب من عملهم مأخذاً لهم يتمسكون به (كعادة التدخين الضارة مثلاً) بل يجب أن يلاحظ رؤساء المعارف كافة والمعلمون منهم خاصة، وأساتذة الدين على الأخص، أنهم ليسوا أشخاصاً عاديين لأنهم يربون أرواحاً ويصلحون إصلاحاً، فيهم يقتدي، وبهديهم ويهتدي، وليذكروا قول المصلح الأعظم (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.)

محمد بهجة البيطار

عضو المجمع العلمي العربي بدمشق وأحد أعضاء لجنة (تنقيح المنهج)