مجلة الرسالة/العدد 282/الحقائق العليا في الحياة
مجلة الرسالة/العدد 282/الحقائق العليا في الحياة
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
(ألفاظ إذا نطقتها تتحرك لها في نفسي دنيا كاملة!)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
3 - الإيمان
الإيمان والفلسفة:
قالت عقلية القرن التاسع عشر المزهوة بالكشوف العلمية والناقمة على قضايا بعض الأديان وقيودها وخرافاتها التي تراكمت عليها بتوالي العصور: إن العلم والإيمان لا يجتمعان. وقد سارت في تفسير كل شيء خارج عن حدود المادة والمخابير والمعامل، بتأويل مادي وآلي، وطغت الفلسفة المادية على الفلسفات التجريدية، وأفرغت الطبيعة من (الإرادة، والعقل) وجعلتها رهينة بالصدفة وأعطت للزمن حكم التصفية والتوجيه، وأعطت القوى العمياء قوة الاختيار حتى قالت (إن الوظيفة تخلق العضو!)
وكفرت بحقيقة (السببية) والارتباط بينها وبين (المسببية). . . إلى آخر ما زخرت به كتب هذه الفلسفات مما يصل في بعض الأحيان إلى درجة الهذيان.
وقد كان يجوز أن نقبل هذه الفلسفات التي تسند إلى القوى العمياء بعض (الفاعلية) لو أنها جعلت وراء هذه القوى إرادة واحدة منظمة مختارة موجهة. ولكنا لا نقبل بحال أن تكون هذه القوى فاعلة بذاتها مستقلة عن ذلك النظام العام الموضوع بتدبير محكم، وإلا رجعنا بعقولنا إلى درجة أشبه بطور الوثنيات القديمة التي كانت تعبد بعض القوى قصوراً من عقولها عن إدراك قوة كلية عامة تدبرها جميعها)
وإن أول سؤال يرد على عقل متوسط هو: ما هو العامل الموفق بين فاعليات هذه القوى المتضادة العمياء هذا التوفيق الدائم المطرد البديع لو أن الأمر كان كما يزعمون من تسلط تلك القوى العمياء على الكون؟
والغلط الفاحش المغرور الذي لا يقبله العقل العام المتزن، أن تتخذ حياة الأرض، وهي ما هي من الصغر والضآلة، مقياساً للحكم على العالم كله فرشه وحشوه وعرشه! وقد وصل هذيان هذه البلبلة إلى حد فظيع من الرجم بالغيب باتخاذ الفروق التي تساق في الأصل لملء بعض الفجوات التي بين حقائق العلوم كأساس مسلم للحكم عليه، مثلما اتخذوا الأثير، وليس هو أكثر من فرض فرضه بعض العلماء ليحل به بعض مشاكل الطبيعة، ولا يزال هذا الفرض بين رفض وإثبات إلى اليوم.
ويتعجب العقل البسيط السائر مع أبجديات الطبيعة من أن يصل تفكير بعض الناس - بله كبار الفلاسفة - إلى مثل ما وصل إليه من هدم الحقائق بالفروض!
ليس المقصود من الحياة الفكرة ألا يرضي العقل بالأوليات الظاهرة المسلمة وأن يمعن في الغوص والتعقيد ليخرج بفروض غريبة شخصية ليحل بها ما لا يفهمه من قضايا الكون كما هو الطابع الغالب على الفلسفات، وإنما المقصود من الحياة الفكرية أن يكون التأمل فيها ممهداً للإثبات والعلم اليقيني. فلا يفلت الخيال في حالة الصحو كما يفلت في حالة النوم أو التخدير. . . وما من شك في أن عصور الفلسفة كلها لم تفد الإنسانية بمقدار ما أفادتها الطريقة التجريبية التي دعا إليها فرنسيس بيكون فإنها الطريقة التي قفزت بالإنسانية إلى أسباب رقيها السريع في القرنين الأخيرين، لأنها تركت عالم الأحلام والبدوات والفروض الشخصية التي قد لا تفهم إلا في رءوس القائلين به وقد لا تكون ناضجة الفهم في رءوسهم أيضاً. . . واتخذت البديهيات البسيطة والمركبة أساساً بنت عليه صرح العلم الحديث
ولقد كان جزاء هؤلاء الذين يسرفون في اتباع الظنون والفروض ويتركون البسائط المعقولة بالبديهية إلى الأوهام، أن يعيشوا منكدين أشقياء متشائمين مرضى مضروبين بالشك والألم والبلبلة والشذوذ منفيين من الحياة! وهاهم أولاء أبو العلاء وشوبنهاور ونيتشه أمثلة تضرب في ذلك. . .
إن شوبنهاور قد كذب كذبة بلقاء، وخرف خرفاً عبقرياً! حين زعم أن العالم معدوم لا وجود له إلا في تصورات الإنسان. . وحين أسند العمى والهوج إلى (روح الوجود) وحين زعم أنها لم تدرك نفسها إلا في عقل الإنسان وشعوره، ولذلك أراد أن يغيظها بتمرده عليها وترك ملذاته التي هي ملذاتها في واقع فلسفته. . وكان الأولى بشجاعته هذه أن يقضي على جسمه جملة واحدة حتى يغلق باب المتاع الذي فيه أمام روح الوجود المتعطشة إلى إدراك نفسها فيه وتمتعها بذلك الإدراك. . .
إن أقل ما يجب عقلياً (لروح الوجود) وخالق هذا الكون العجيب أن يتصف بصفات الإنسان العادي المتوسط المحترم بين الناس - بله السوبرمان - فكيف يسلبون المشيئة الغالبة على الكون الصفات الضرورية لبعض ما أوجدته؟! كيف يعطى الخالق ما لا يملك هو من صفات التدبير؟
مهما فلسف الإنسان فلن يستطيع أن يهدم الإيمان العام بحقيقة (السببية) البديهة المستقرة في كل نفس إنسانية أو حيوانية استقرار وجود تلك النفس.
ومنذ عهد (طاليس) إلى الآن ما استطاع فيلسوف أن يغزو فطرة الإنسانية في إيمانها بهذه الحقيقة وينتزعها من إلهامها؟ ولئن كان بعض الشذوذ والانحراف يحمل بعض المتأملين على الاعتقاد بأنه هدمها في نفسه هو، فلن يحكم العقل العام عليه إلا بالجنون!
إن الطفل حين يلتقم ثدي أمه لأول مرة بعد ولادته ليحس الشبع لأعظم مفحم لأكبر فيلسوف يهدم تلك الحقيقة. . . بل إن إدراك البذرة للإنبات في الظلام والثرى المبلل لأدعى إلى اعتبار تلك الحقيقة من الإلهامات الفطرية في كل الكائنات الحية.
والذي يزعم نفسه عاقلاً قادراً على أن يحكم على (روح الوجود) بما يريد ثم في الوقت نفسه يسلبه - عز وتعالى عمال يصفون! - قوة الحكم والتدبير والإدراك فجزاؤه. . . ما جزاؤه؟ إن اللغة تضيق عن نعت له يرضي غيظ السموات والأرض من دعواه! جزاؤه أنه قال ما قال وذلك حسبه لعنة. . .
(ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)
(من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ)
فما بالك بمن ينكره بتاتاً أو يرميه بالطيش والهوج!
وما يجب أن يلتفت إليه أن أجرأ الناس على الشك في الخالق أو الإلحاد في ذاته وصفاته كان مبعث جرائتهم السكر والتخدير. . والسكر نوعان كما بينا في مقالنا (حنظل وتفاح): سكر باللذة وسكر بالألم. وجرأة السكارى باللذة جرأة سطحية، جرأة طيش وسخرية واندفاع كجرأة الخيام والنواسي. ولكن جرأة السكارى بالألم جرأة غيظ وحقد وعناد وتمرد وقنوط وتحد. وهؤلاء هم أثقل شراً وأكبر لعنة
فالمعري وشوبنهاور ونيتشه غضبوا على الحياة ونظامها وأدمنوا الآلام، وصاروا يناقشون الخالق مناقشة الند للند. . . فلا الخير خيره ولا الشر شره كما رسمهما هو في الطبيعة والشريعة وإنما الخير والشر شر ما يرسمون هم وإضرابهم
وقد أطفأ الأولان شعلة الحياة في جسديهما، ودعوا إلى إطفائها في أجساد الناس جميعاً، حتى تخرب الأرض وتفنى إنسانيتها
وماذا كانت تكون النتيجة لو أن الناس كلهم كانوا رهبان تمرد وعصيان كالمعري وشوبنهاور؟ وكاني بالإنسانية وقفت موقفهما قائلة للخالق: هاك الحياة التي أحييتنا مردودة عليك منطفئة الشعلة! دونك الأرض بحيوانها وشجرها ومرافقها لا نريد. لا نريد! وهانحن أولا رهبان شر أيها الآله إلى أن تموت!
ولكن الإنسانية التي فطرتها وإلهامها الإيمان والطاعة والعبادة لا تنفك تطرد من حياتها هذه الدعايات الشاذة السامة كما يطرد أفرداها عن أجسادهم البثور والقروح والدمامل، ولا تزال سامعة مصغية واعية لذلك الصوت الذي يدوي بهذه الكلمة: (يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا!). ولا تزال سائرة مأخوذة إلى غايتها في سلاسل من الضروات والرغائب. بل لا تزال جنّانُ الحياة وأناسيّثها تنشد قائلة وهي سائرة على الطريق:
(وأن ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً)
(وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به؛ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً)
(ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا)
ما هي حدود الإيمان فلسفياً؟ إنها في رأيي هذه:
أنا إنسان صحا من غيبوبة عدم لا يعرف مبتداها، فأدرك نفسه وفتح حواسه على ذلك البيت الهائل البديع: الدنيا، فتساءل بما فيه من إبهام السببية البديهية: من خلفني هكذا بديعاً كامل الأدوات لحياتي في هذا البيت؟
ثم تساءل: ومن خلق هذا البيت العجيب الهائل بأرضه وسمائه وهوائه ومائه وإنسانه وحيوانه وقواه وقوانينه الدائمة الصيانة له؟ ثم تساءل: ومن أدخلني في هذا البيت من غير أن يستشيرني؟
ثم تساءل: ومن سيخرجني من هذا البلد من غير إرادة مني كذلك؟
تلك الأسئلة الأربعة هي أبواب الإيمان بخالق. ومن بين الأجوبة عرف الإنسان صفات هذا الخالق من وحدة وعلم وحكمة وقدرة وقهر وقدم وبقاء وإرادة وغيرها من الصفات، ثم أحس الإعجاب بذلك الخالق المبدع، ثم أحس الحب كل الحب له، لأنه أكرمه ونعمه حين أخرجه من العدم وأسبغ عليه الحياة مع أدوات الإطلاع عليها، ثم أدام الفكر فيه. ومن الحب والفكر نشأت العبادة. . .
أما كنه ذات الخالق وزمانه ومكانه وشئونه وغاياته وأسرار صنعته، فأولئك أمور يستطيع الإنسان أن يدركها حين تستطيع النملة الصغيرة أن تدرك المحيط الهادي! ولله المثل الأعلى. .
تلك هي حدود الإيمان بخالق، في تفكير بسيط متزن لا لجوء فيه إلى غيبيات وسمعيات، وإنما إلى مقدمات عقلية هي (قدر مشترك) في عقل الفيلسوف وعقل الفلاح، والمتمدن والمتوحش وهي ما يمكن سلوكه من الطرق إلى تبيين جذور الإيمان، بالتفكير. ولا داعي بعد ذلك إلى ما لا يفهمه العقل العام المشترك بين زنوج أفريقية وأقزام الإسكيمو وفلاسفة الشرق والغرب. ولكن ما هو مصير الإنسان؟
ذاك سؤال يكاد يكون له قيمة الأسئلة الأولى عند كثير من الناس غير أن هناك فارقاً كبيراً بين قيمة الجواب عليه وقيم الأجوبة على الأسئلة الأربعة. ذلك لأن الجواب عليه متفرع من الأجوبة السابقة ولا يصح إلا إذا صحت هي. بل قد يكفي بعض العقول ويريحها من حيرتها أن تؤمن بالخالق وبالحياة الدنيا فقط ولم يكن هناك مصير آخر يحيا فيه الإنسان. لأننا لا نستطيع أن نبحث في غايات الخالق لعجزنا عن ذلك البحث (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)
وتكفي الحياة والأنعام بها على من خرج إليها وأحسها، سواء كان على نعمى أو بؤسي، وازعاً للإيمان وحبه والتقرب إليه. أما الحساب على الخير والشر، فالخير جزاؤه فيه والشر جزاؤه فيه.
وهذه نزعة صوفية متطرفة تشذ عن العقل العام، والقدر المشترك ولا تتحاكم إلى سنن الخالق وقوانينه في الفطرة ولا تطلب منه أن ينفذ ما كتبه على نفسه وقد كتب ربكم على نفسه الرحمة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)
ذلك استطراد لجأنا فيه إلى الاستشهاد بالقرآن مخالفين ما اتبعناه في بحثنا تسليم وخير مطلق عن تلك النفوس التي ترى أن تفنى في إرادة الخالق (إيما إلى جنة إيما إلى نار)
ونعبده من غير شيء من الهوى ... ولا للنجا من ناره وعذابه
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه)
ونعود فنقول: إن كل ما في الأرض من قرائن يدل على أن الإنسان هو المقصود بالخلقة فيها، وما عداه فمخلوق له لينتفع به. وله من حياته الفكرية والنفسية ما يشعره بها القصد. فأنها حياة سامية غاية السمو معقدة غاية التعقيد فيها جانب عظيم غير خاضع للحياة الحسية الأرضية، ويكفي في سموها أنها حياة متيقظة لنفسها ومتيقظة للدنيا كلها باحثة عن أسرارها المخبوءة فيها وراء الأجرام والكثافات، حالمة بصورة علوية لكمالها هي وكمال الدنيا، تزعم أنها قادرة على تنقيح الطبيعة، وإعادة الخلقة كلها على وجه آخر أكمل! وقد وصلت بالفعل إلى بعض مفاتيح الطبيعة عن طريق العلم وهي تفكر الآن بجد للوصول إلى المفاتيح الأخرى، وستصل
والقرآن يقول: (سنريهم آياتنا في الآفاق. في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقد ابتدأت الآيات في عالم الآفاق وعالم الأنفس بأعاجيب، فما بالك بما تنتهي إليه؟ ويقول: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها صيداً) وتأمل في قوله (وظن أهلها أنهم قادرون عليها) فإذا عرفت أن (الظن) هو الأفق الذي تحت العلم والجزم مباشرة تبين لك مقدار ما ستصل إليه قدرة الإنسان في الآباد الآتية حتى يتوهم أنه قادر على الأرض. فهل من المعقول بعد تلك القيمة العظيمة للإنسانية أن تمضي من الحياة كما تمضي الحشرات والبذور من غير مصير علوي يتحقق فيه القصد من حياتها الأرضية التي خلق فيها كل ما في الأرض؟ إن سنة التطور والترقي التي يقول بها العالم الحالي تأبى التسليم بهذه الخاتمة الأليمة لتلك الحياة الإنسانية الرفيعة. . .
تقول بعض الفلسفات: إن الحل لهذه المشكلة هو في القول بالرجعة المستمرة إلى الأرض بالحياة في الأفراد الآتين من النوع. فالكمال الذي ينشده الأفراد ويحملون به سيتحقق في النوع. وكان الإنسانية في خيال هؤلاء هي المعنى الواحد في الأفراد. أما أجسام الأفراد فهي أثواب تنضوها الإنسانية في الأجيال المتعاقبة وتلقيها جثثاً ميتة على طريقها إلى غايتها. . .
ولكن في هذه الفلسفة إهداراً تاماً للفرد وارتداداً بالإنسانية إلى أفق واطئ جداً هو أفق النيات والبذور، دع عنك أفق الحيوان. ونظرة واحدة إلى إخراج الأفراد من الأرحام بصور متعددة الوجوه وشكول مختلفة في العقول والنفوس - وهذا في الإنسان فقط - تحملك على الجزم والاعتقاد بأن القصد في الطبيعة متوجه إلى خلق الفرد بالذات وإحساسه على انفراد بالحياة التي فيه هو، وأنه مخاطب وحده من (إرادة الحياة)
وإن هذه الفلسفة لتبعث القنوط في الفرد لأنه يشعر معها كأنه مسمار في نعل الإنسانية! وإنها لتبعث فيه الشرود والجموح في الحياة لأنه لا غاية فردية له من حياته، ولا هو يدري الغاية من وجه الإنسانية كلها. . .
وإذا كانت الشيوعية لم ترضها الإنسانية في الغايات الاقتصادية فتنفي فيها جهود الأفراد للمجموع فناء مطلقاً فكيف ترضاها في غايات الحياة؟
وفي قنوط الأفراد وفي جموعهم دواع إلى خسة النفس ودناءتها وثورتها على الحياة بحيث لا يرجى للإنسانية بعدها ترق ولإصلاح للحياة الجمعية.
الحق أن الفرد مقصود بالخلق، مخاطب من واهب الحياة رأساً بما فيه من الإدراك مراعي فيه تمييزه بصورته ونفسيته ليشعر بفرديته وغايته الأنانية أولاً. والقدر المشترك الذي بينه وبين الإنسانية لا يحمله مطلقاً على الاعتقاد بأنه فيها كبذرة في نوع من الشجر، ولا كمسمار في نعل، ولا هو يشبه أخاه كما يشبه الغراب الغراب، والنملة النملة. . . فالفروق بين أفراد الأنواع الأخرى فروق ضئيلة لا تكاد تميز في الصورة ولا في الإدراك بخلاف الإنسان فان تنوع صوره الظاهرة والباطنة أمر محير!
(وبعد) فإني لأتساءل دائماً: ما الذي أوجد في نفوس الإنسانية ذلك الشعور الثابت بأنها لا تفني ولا تنتهي حياتها بدخولها المقبرة؟ ولماذا لم تحملها إرادة الحياة، على غير هذا الشعور لو أن الأمر كان غير ذلك؟
ثم لماذا نجد في خيالنا صورة لحياة كاملة لا قيود فيها للجسم ولا للروح؟ من أين لنا هذه الصورة؟ إن كل شيء قد حظي بكماله في دنياه بغير نزوع منه إلى حياة أكمل. مما يدل على أنه قد خلق للحياة هنا فقط، بخلاف الإنسان فأنه يشعر كأنه طير مقصوص الجناحين لا يزال يحلم بالجو الذي خلق ليعيش فيه.
وكيف يؤمن مثل (أديسون) أو (ماركوني) بأنه يفني فناء لا رجعة بعده بينما الأرض مملوءة بآثاره في الكشف والاختراع؟
إن العلم يقول إن الأرض ستفنى بفناء الشمس أو انطفائها فأين يصير ما هنا من الفكر والعلم؟ وماذا يفيد كمال النوع الإنساني لو أن الحياة كانت للنوع لا للأفراد كما يقول نيتشه وأصحاب مذهب (الرجعة)؟
ألا إن الموت (ولادة ثانية) كما يعبر الإنجيل
هذا ولا يزال الحديث الآخرة بقية نرجئها الآن بعد ما طال الحديث. . .
(الرستمية)
عبد المنعم خلاف