مجلة الرسالة/العدد 284/رد على باحث فاضل
مجلة الرسالة/العدد 284/رد على باحث فاضل
بين الغرب والشرق
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
تتبعت في شيء غير قليل من الإمعان والتدبر ما كتبه (باحث فاضل) على صفحات (الرسالة) أخيراً تحت عنوان (بين الشرق والغرب) تعليقاً على ما جاء في المقالين الأول والثاني من مقالاتي في الردّ على ما أثاره صديقنا الأديب النابغة (فليكس فارس) من اعتراضات استمدها مما قاله في مناظرة جرت له معنا منذ عام أو أكثر، وذلك في صلب مقال نشرته له (الرسالة) وجهها لفنان مصر (توفيق الحكيم) بمناسبة ما كتبه عن الشرق والغرب في قصته (عصفور من الشرق).
وقد راعني من كتابة باحثنا الفاضل تخبطه في أمور لا أعتقد أن لها سبباً غير ضعف كفاية التأمل والقياس العلمي عند الجيل الحاضر من كتابه العربية، فقد انساق باحثنا إلى مواقف ما كان ليقفها لو كان التأمل والقياس عنده اكتملت أسسهما من المنطق العلمي. والمسألة بعد لم تخرج بيني وبين باحثنا المفضال عما كان بيني وبين الصديق (فليكس فارس)، خصوصاً وأن الكثير من أجزاء مقال الباحث مقتعلة من المادة التي جابهنا بها مناظرنا (فليكس فارس)، والتي كانت مقالاتنا في (الرسالة) بياناً مفصلاً لزيفها، وأنها لا تثبت لكي تقف على قدميها لترجح رأياً. لأنها تحمل في طياتها أدلة ضعفها. وبعد فباحثنا الفاضل حاول أن يكون في كتابته منطقياً على قدر الإمكان، فجاء في الشطر الأول من تعليقه بكلام يرد فيها كلامنا إلى أصولها الأولى وخطوطها الأساسية، ويفصل فيها برأي عنده، هو الحد الفاصل على ما يرى بين اعتقاد له في الشرق واعتقاد لنا في الغرب.
والمسألة لم تخرج عن كونها قضية إن احتلت الجدل من ناحية المنطق الشكلي من حيث هو إدارة الكلام في صور من الأقيسة لإثبات وجهة من النظر معينة، إلا أنها من ناحية الواقع لا تحتمل الجدل؛ ذلك أنها أولية من الأوليات التي تنزل من مواضعات فكرنا الحديث من حيث لقح بالمنطق العلمي. ونحن في ردنا على ما أثاره باحثنا الفاضل من اعتراضات ظنها تقوِّمُ وجهة نظر في تفاضل الشرق على الغرب، فإننا نرجو أن نفصل الكلام بعد في موضوع الغرب والشرق موجهين البحث إلى وجهه الصحيح بعد أن تش وطال باعتراضات استلزمت ردوداً منا وكلاماً.
وأول شيء ننظر فيه مع باحثنا المفضال في أساس المفاضلة وهل تقوم على أس من شطر العالم إلى شرق وغرب كما هو في تقويم البلدان. أما باحثنا فهو يرى هذا، فلكل من الشرق والغرب عنده عادات وطبائع تباين الأخر، ولقد اتسع مدى هذا التباين حتى ألبس العقلية في كل منها مظهراً خاصاً تميزت به عن الآخر.) ونحن من جهتنا نتفق إلى حد ما مع مفهوم هذا الكلام، ولكن نقطة الافتراق أننا نرى طابع العقلية الإنسانية كان يتأثر في كل من الغرب والشرق في عصور التاريخ بمد وجزر العقليتين الشرقية والغربية في حالة جزر، ويقابل ذلك مد من جهة العقلية الشرقية فان عوالم من الغرب كانت تدخل في منطقة المد الشرقي تتأثر بطابع العقلية الشرقية، وأحياناً كان يحدث العكس. إذا فيجب أن نكون محتاطين في قبول الأساس الجغرافي تقسيم العالم إلى شرق وغرب. لأن الشرق كان يمتد في بعض عصور التاريخ فيشمل بقاعاً من العالم الغربي، كان يصل إلى سفوح جبال البرانس بأسبانيا وسلسلة جبال الكرابات والطونة في البلقان ولمبارديا في إيطاليا، كما أنه كان يتقلص في بعض العصور فينسحب إلى الصحراء العربية في الشرق الأدنى والصحراء الكبرى في أفريقيا. وهذه مسائل ملحوظة من التاريخ لا تحتاج إلى بيان، فمن هنا يتضح أن كلامنا عن التفرقة بين الشرق والغرب إلى ما يمكن له من طابع للغرب وطابع للشرق أدق ما يمكن أساساً لبحث الفروق الكائنة بين طبيعة العقل الشرقي وطبيعة العقل الغربي. والموضوع بعد ذلك راجع لمفهوم الشرق والغرب من علم تقويم البلدان، ولكن بالصورة القاطعة التي تستخلص من التحديد الجغرافي الصرف، وإنما على وجه مرن يتفق والواقع الملموس.
وبعد فيتبين أن ما حار فيه باحثنا الفاضل في تحديد لفظي الشرق والغرب من كلامنا واضح ليس فيه موضع للبس أو غموض أو إبهام. أما أنه يرى بعد هذا كله كلمتي الشرق والغرب مجهولتا المعنى والتحديد في كلامنا، فلسنا نرى لكلامه هذا وجهاً. وهو الذي بعد أن انتهى من تلخيص رأينا في طبيعة العقلية الغربية وطبيعة الذهنية الشرقية ذهب يقول: (إلى هنا أحسن الكاتب صنعاً - يعني بذلك دراستنا لطبيعة العقلين الشرقي والغربي - ولو أنه لم يتعد مدلول هذا، يعني بذلك أننا لو وقفنا عند هذا الحد ولم نعمل على كسب تحليلاتنا العقلية صفة الشعبيات لكان بحثه (بحق) أوفى ما يكتب في بحث مظاهر العقليات) ولسنا نعرف كيف يتفق رأيه في اعتبار بحثنا أو فيما يكتب بحق في بحث مظاهر العقليات من حيث تتناول الفروق الكائنة بين طبيعة العقل الشرقي والعقل الغربي مع قوله إن مفهومي الشرق والغرب بقيا مجهولي المعنى في كلامنا. . .
إذن لنا أن نصرف النظر عن هذا الكلام الذي يخترمه التناقض والاضطراب، ولننظر فيما يعيبه علينا من إكسابنا العقليات مظهر الصفات الشعبية، فهو يرى أن ليس ثمة فرق أساسي بين طبيعة العقليات جميعها. وعلى هذا فالصور الذهنية لكل شعب - عنده - قد يغلب أن تكون مرآة للشكل المتكون من تفاعل خصائص ذلك الشعب التاريخية مع البيئة. وباحثنا المفضال في رأيه هذا يفترق عنا عند نقطة أساسية، ذلك أننا نرى أن هنالك فروقاً بين عقليات الشعوب، فطبيعة العقل الألماني غير طبيعة العقل الفرنسي، وطبيعة العقلين الألماني والفرنسي غيرها بالنسبة لطبيعة العقل الإنجليزي. ذلك أن طبيعة عقل شعب ما ليست سوى خصائص ذلك الشعب منعكسة من مرآة نفسه. . .، وطبيعة عقل الشعب يتلون بها العلم تلونا كبيراً ذلك بحكم أن العلم نتاج ذو شكل خاص للعقل الإنساني، وهذه حقيقة تنكشف لمن يتعمق في المسائل العلمية الصرفة. وأنا شخصيا بحكم اختصاصي في العلم الرياضي لي أن أتكلم عن هذه الفروق في مادة تخصصي، وكل ما لي الآن أن أفعله هو أن أنقل لباحثنا المفضال بعض السطور من كتابنا (الفيزبقا والرياضة والمنطق) الذي نشره غوستاف م. فيشر عام 1930 بالألمانية عن ليزبغ ويتا، وذلك عن الصفحة 218 فقد جاء هنالك ما ترجمته:
(إن التمايلين اللذين نلمسهما في علم الرياضة، من حيث رجوع أحدهما بوتيرة سير الاستدلال الرياضي للحدس والآخر للمنطق - مرده ما هنالك من فروق بين طبيعة الذهن الألماني من الجهة الأولى والذهن الفرنسي من الجهة الأخرى.)
وقد جاء في هامش كتابنا هذا تعليق على هذه الفقرة ننقله كما هو مترجماً للعربية:
(أما قطب أن التمايلين الأساسين في علم الرياضة راجع لطبيعة العقلين الألماني والفرنسي وما بينها من فروق فذلك حقيقة أولية لا يتنازع عليها، غير أنه يجب أن نلاحظ أن هنالك من الرياضيين في ألمانيا من تأثر بالعقلية الفرنسية وطابعها الخاص، أذكر من هؤلاء شيخ المدرسة التحليلية في الرياضة جوتفريد ويلهلم لينبتز، فقد كان المذكور تلميذاً لديكارت، وكانت عقليته عقلية فرنسية صرفة. أما في فرنسا فهناك قد تأثروا بطرائق العقلية الألمانية نذكر منهم البروفسور شارل هيرميت من دهاقنه العلم الرياضي البحت في القرن التاسع عشر، والمسألة بعد ذلك راجعة في العموم إلى طبيعة العقلين وخصائصهما).
وإني لأذكر أنني منذ مدة لا تتجاوز ربيعاً واحداً من عامنا هذا كنت في زيارة الصديق حسين فوزي في مكتبه بإدارة الأبحاث الألمانية، وكان على مكتبه بضعة أعداد من مجلة (نيتشز) الجديدة وفي أحدها وقفت على مقال لعالم ألماني كبير على ما أذكر هو رئيس لمعهد ويلهلم للبحث العلمي يقرر فيه أثر الدم السامي في العلوم الوضعية، وأنه يجنح إلى صور يمليها من الخيال على العلم فتعرقل سير العلم الصحيح. وهذا كلام إن لم نتفق مع صاحبنا عليه في تفاصيله فلا يمكننا أن ننكر أن فيه من وجهة عامة عنصراً من الحق، أتى من جهة التجريد الذي هو طبيعة الذهن السامي.
إذا صح هذا، من أن العقليات تكتسب الصفة الشعبية كثيراً على عكس ما ذهب إليه باحثنا الفاضل في تعقيبه على ما كتبناه سقط كل ما أقامه على هذا الوجه من آراء
وبعد فللباحث المفضال سقطات استوجبها عدم تعمقه في مدلول عباراتنا والنظر إلى ما وراء ألفاظها الظاهرة، فهو يتساءل قائلاً: متى بدأ الإنسان يتحسس الخالق في شر مخلوقاته، أهو الشرقي مصريا كان أو آشوريا أو كلدانيا أو عربيا أم بدأ به اليونان والرومان والسكسون؟ والسؤال على هذا الوجه لا معنى له بالنسبة لنا، لأن الأصل فيه تحسس الخالق بآثاره في مخلوقاته، فالخالق هنا أصل والمخلوقات أو الطبيعة فرع. ونحن نقدر أن مثل هذا النظر كان من خصائص العقل الشرقي!. . وليتأمل بعد موضع كلامه باحثنا المفضال!. . .
غير أن السؤال لو وضع في صيغة أخرى تتفق مع نظرة العقلية الغربية للأشياء لكانت إفادته: متى بدأ الإنسان النظر في الطبيعة؟ ومتى انتهى من نظرته هذه إلى الخالق؟ أهو الغربي أم الشرقي نظر على الوجه؟ فان السؤال يستقيم له إجابته من أن مثل هذه النظرة من خصائص العقلية الغريبة
والواقع أن باحثنا الفاضل يلزمنا عسيراً مثل هذه الاعتراضات ووجه العسر أنها تضطرنا أن نعيد القول ونكرره ونتكلم في الأوليات
ووجه آخر من أوجه اعتراضات الكاتب، ذلك قوله: إذا كان الشرقي قد أدخل العنصر الروحي في تقدير المعاملات بين الناس فهل يتنافى ذلك مع العقل السليم؟ وهل يتهم بعد ذلك بأنه قاصر؟
لا. . . أيها الباحث! ولكن قبل كل شيء يجب أن تنتبه إلى هذه الحقيقة وهو أننا لم نقل إن الشرقي يدخل عنصراً روحيا بين الأشياء حتى تنحلنا هذا الرأي، وكل ما قلناه إن الشرقي يدخل العنصر الغيبي في الأشياء لأن نظرته غيبية فجعلتها أنت العنصر الروحي. . . وشتان بين العنصرين، وأين كلامك من كلامي هذا!. . .
ثم مسألة أخرى. . . قلنا إن الغرب اتجاهه في النظر للأشياء البدء من العالم المنظور، أعني عالم الطبيعة، وهو ينتهي منه إلى العالم غير المنظور إن كان هنالك ثمة وجه لمثل هذا الانتهاء. ولكن باحثنا الفاضل يتساءل متى بدأت هذه العقلية في الغرب بحثها عن الخالق عن طريق الطبيعة، وهو يجيب أن الشرق هو الذي سبق الغرب بمثل هذا الاتجاه، وما كان الغرب إلا مقلداً لها ومتأثراً بها وبأسبابها. وهذا وهم عريق في الخطأ، وناحية الخطأ أن الباحث الفاضل توهم أن معنى النظر في العالم المنظور والبدء منه أن ينتهي منه الإنسان للعالم غير المنظور. والمسألة لم تخرج عن أن صاحبنا ينظر لكلامي من ناحية عقليته الشرقية وهنا موضع الداء في كلامه
(البقية في العدد القادم)
إسماعيل أحمد أدهم