مجلة الرسالة/العدد 284/رسالة من باريس

مجلة الرسالة/العدد 284/رسالة من باريس

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 12 - 1938



بعض الدكاترة الفخريين

الذين منحوا الدكتوراه في فرنسا هذا العام

للباحث الأديب مصطفى زيور

- 1 -

سيدي رئيس تحرير الرسالة وأستاذي العزيز

ولا يغضبك من تلميذك أن يذكرك بعهد كرت عليه الأيام، وطواه الدهر في صفحات بدأ يعلوها الاصفرار. فكم في مثل هذه الذكريات من العذوبة ما ترق له النفس، وتذوب حنانا، يرسل في قسوة الحاضر سحر الماضي، فنرضى ونبتسم. . . ثم ينسينا التلهفَ على الماضي حسنُ الظن بالمستقبل. وهكذا تدفعنا دائماً مناعة النفس ضد التبرم بحقائق الحاضر أن نلوذ بما نتصوره سحر الماضي، حتى ترهقنا الحقيقة ونرى قلم الزمان يجر رقما جديدا في حساب الأعمار، فندير إليه ظهورنا ونتعلق بآمال المستقبل

فإذا أنكرت من تلميذك حديث الحنان ومنطق العاطفة، وإذا اتهمته بسوء النية في إثارة حديث الأعمار، فهو يدفع عن نفسه بأن التلميذ غير مسئول إذا اصطنع حديث العاطفة - ولو لم يكن هذا في فطرته - إذا كان أستاذه هو صاحب ذلك الأسلوب الموسيقي في ترجمة (آلام فرتر) و (رفائيل)؛ وهو متأهب بعد ذلك أن يسل حسام المنطق الجاف، منطق العقل الخالص، يعالج به مشكلة الأعمار ويقيم الدليل على أنه لم يكن ماكراً خبيثاً في إثارتها، وهو الذي لا يقنع بتلك الحجة البائسة تساق للسلوة عما مضى من الشباب، في قولهم إن مع المشيب نضوجا وحكمة، فما كانت هذه الحكمة في الغالب إلا خمودا في جذوة الحياة، وفرقا من اعتناق ثائر الأنظار تضطرب من تحتها الأرض. لا يقنع تلميذك بهذا بل هو مصطنع لسان الطب يعالج به مشكلة الأعمار فيقول: إن ما يختلج أعضاء المرء من الحيوية لا يقاس بما مر من السنين على بزوغ هذه الحيوية، وقديما قال الفرنسيون: وما عمر المرء إلا عمر عروقه ' وهو ما يعبر عنه بلغة البيولوجيا الحديثة (أو قل علم الحياة حتى يرضى عني أنصار ترجمة المصطلحات العلمية) بأن مبلغ الطاقة الحيوية في المرء موقوف بما عليه إفراز غدده الصماء كما وكيفاً، وبما تطبقه مجموعته الاشتراكية بالفعل وبالقوة. فإذا كانت المقاييس الحديثة لنشاط هاتين المجموعتين قد أدت إلى تقرير مبادئ جديدة في حساب الأعمار يستند إليها علم حديث يدعونه بيوتبيولوجي يرمي إلى تمييز الشخصية الحيوية للأفراد لتوجيههم في معترك الحياة، بأن يدلهم على ما يصلحون له وما يطيقونه؛ وإذا كنا نرى هذا البحث الجديد قد جعل من بعض الشيوخ شبابا ومن بعض الشباب شيوخا، أفلا يرى معي أستاذي أن لا بأس على الشيوخ إذا كان نشاطهم شابا، وأن يخفف الشباب من غلوائه إذا كان نشاطه متقاعدا هرما؟

فإذا لم يرضك مني حديث المنطق بعد حديث العاطفة، وهممت أن تجري قلمك الأحمر على هذا اللغو تحذفه من كلمتي كما تعودت أن تفعل معي قديما في (كراسة الإنشاء) فإني أهيب بك أن تسمح لي بالاستئناف أمام أستاذي أحمد أمين، فلعله يكون أقل صرامة في الحكم، وقد سمعته يشير إلى تلك الظاهرة النفسية التي تدفع بالكاتب إلى الحرص على آثار قلمه والاعتزاز بها الغث منها والسمين، كما تحرص الأم وتحب فلذات كبدها، الدميم منهم والجميل

وبعد فهأنذا أفي بوعد قديم فأكتب (للرسالة) صفحات أردت أن أشير فيها إلى بعض تيارات الفكر العلمي الحديث في الغرب، التي تعنيها تلك المظاهر الدولية تعلن لحاملي لوائها تقدير الأوساط العلمية، فتجيزهم جوائز فخرية مثل جائزة نوبل أو الدكتوراه الفخرية تمنحها لهم الجامعات

وقد كان منح الدكتوراه الفخرية هذا العام في الجامعات الفرنسية حادثاً جللا بالنسبة لمصر، فقد رأينا لأول مرة أديباً مصرياً ينال هذا الشرف هو الدكتور طه حسين بك. ولست أشك أن غيري كتب في الجرائد المصرية يبين خطر هذه المنحة. وحسبي أن أشير إلى أن الجامعات الفرنسية ضنينة بإجازاتها فلا تمنحها لغير العلماء الذين ثبت فضلهم على العلم؛ فلم نر إينشتين يمنح الدكتوراه الفخرية من باريس إلا سنة 1929 بعد أن نال جائزة نوبل مرتين. وها نحن أولاء نرى بين العلماء الذين فازوا بهذا الشرف هذا العام اثنين من العلماء هما (تزنت جيورجي) و (كارر) قد سبق أن فازا بجائزة نوبل الأول للطب والثاني للكيمياء لقيامهما - منفردين - بأبحاث خطيرة في مسألة الفيتامين كما سأبين بعد وليس في عزمي أن أقدم إلى قراء الرسالة الدكتور طه حسين بك كما سأقدم إليهم العلماء سورنسن، وتزنت جيورجي، وكارر من بين العلماء الذين فازوا بالدكتوراه الفخرية من فرنسا هذا العام، فإن عميد كلية الآداب ليس في حاجة إلى أن يقدم إلى صحف الأدب العربي، كما أنه ليس في عزمي أن أتناول بهذه المناسبة مؤلفاته الأدبية بنقد أو تحليل، فلم يكن الأدب من عملي ولم أكن يوماً من الأدباء

وحسبي أن أردد ما قاله ممثل الجامعة الفرنسية في عميد كلية الآداب من المقابلة بينه وبين أديبهم الفرنسي رينان، فقد قال: إن رينان كان أديباً فذاً ولكنه كان إلى ذلك مؤمناً قوي الإيمان بمستقبل العلم نصيراً له؛ وكذلك الدكتور طه في مصر فهو إلى صفاته الفنية في الأدب قد بعث فيمن حوله روحاً علمية صحيحة وأنفق من الجهد في نصرة الروح للعلمية والأخذ بمنهجها ما يجعله حقيقاً أن يحتفل به العلماء قبل الأدباء. ومن أجل هذا فإني أسجل له تحيتي هنا

العلامة سورنسن ?

يمتاز هذا الكيميائي الدانمركي بعبقرية مبتدعة في طرائق البحث التجريبي واختراع الوسائل الفنية التي يدعونها بتلك الكلمة اليونانية الأصل (تكنيك)؛ ولعل العلماء المبرزين في هذا النوع من النشاط العلمي أقل حظاً من غيرهم في ذيوع الشهرة وجريان أسمائهم على أفواه المتعلمين؛ ذلك لأن هذه الوسائل وما يتصل بها من الأجهزة تبقى في العادة داخل المعامل يستغلها الباحثون في الكشف وتحقيق الفروض، فإذا ما انتهى إلى جمهور المتعلمين شيء منها فهي نتائج هذه البحوث: قانون طبيعي، أو نظرية جديدة في تفسير طائفة من الظواهر تحمل اسم قائلها ولكنها غفل من اسم مخترع الوسائل التي أدت إلى هذا الكسب الجديد في ميدان المعرفة. ومع ذلك فان هذه الوسائل كثيراً ما كانت تكأة لفتوح خطيرة في العلم بل تكأة لعلم بأسره؛ فكثير منا يعلم مثلاً أن جاليليه هو أول من أقام الدليل على صحة نظرية كوبرنيك في دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها، ولكن كم منا يعلم أن هذا الجهاز البسيط المقرب للأبعاد المدعو تلسكوب، والذي خرج من خلاله كل محصولنا الحالي في علم الفلك بل كل هذه الثورة على جدل القرون الوسطى النظري وتوجيه العلم نحو الملاحظة والتجريب، كم منا يعلم أن المنظار المقرب يحمل اسم جاليليه؟ ثم كم من الأطباء في العالم الذين يستعملون كل يوم منذ أكثر من قرن ذلك الجهاز المدعو (سنتوسكوب) أي السماعة الطبية ويقيمون تشخيصهم على ما يسمعونه خلالها، كم منهم يعلم أنها تحمل اسم الطيب الفرنسي الكبير (لَيْنِك) مؤسس فن التشخيص السمعي؟

اتجه نشاط سورنسن بعد بحوث في الكيمياء المعدنية نحو دراسة المكون الرئيس للمادة الحية: المواد الزلالية المسماة في الاصطلاح الدولي بروتيد؛ بدأ باستخلاصها في حالة النقاء أي خالصة من المواد الأخرى العالقة بها مما مكنه ومكن غيره من الباحثين من دراسة خصائصها الكيميائية والفيزيقية؛ أجرى عليها تجربة التحليل الغشائي، أي النفاذ خلال الأغشية وهي أجسام من أصل نباتي أو حيواني ذات ثقوب دقيقة (مثل جلود الحيوانات) لا تسمح لغير الجزئيات الدقيقة مثل جزئيات الملح الذائبة في الماء باختراقها، بينما الجزئيات الزلالية لا تنفذ منها. ونتيجة هذه التحليل الغشائي أن الجزئيات الغريبة العالقة بالجزئيات الزلالية تنفذ خلال هذه الأغشية تاركة الجزئيات الزلالية في حالة النقاء. وهكذا تبدو لنا المحلولات المحتوية على مواد زلالية كأنها تسلك مسلك المحلولات الغروية (نسبة إلى الغراء) أي تلك المحلولات التي تختلف عن المحلولات العادية - المسماة بالمحلولات البلورية مثل محلول الملح - بكبر حجم جزيئاتها مما يمنعها من اختراق تلك الأغشية، والتي تختلف عنها أيضاً بأنها لا تترك بعد تبخير السائل الذائبة فيه دقائق متبلورة بل تترك جسماً يشبه الغراء

ولكن هذه الحقيقة، حقيقة وجود المواد الزلالية وبالتالي المادة الحية على الحالة الغروية تحمل نتائج غاية في الخطورة؛ ذلك أننا نعلم أن المحلولات الغروية تنفرد بصفات خاصة يرجع إليها السبب في ثبا بهذه المحلولات أي بقاء الجزئيات منتشرة في السائل لا تسقط، فإذا ما حدث اضطراب في هذه الصفات فان جزيئات المحلول الغروي تتهالك بعضها على بعض أي تفقد ثباتها فينهار المحلول الغروي. ولما كانت المادة الحية توجد على الحالة الغروية فان بقاء الحياة واستمرارها يترجم عنه من الناحية الفيزيقية بثبات الحالة الغروية، وفناء الحياة أو اضطرابها يترجم عنه من الناحية الفيزيقية بانهيار الحالة الغروية

أما أهم هذه الصفات التي يرجع إليها ثبات الحالة الغروية فهو وجود شحنة كهربائية من نوع بعينه تحملها الجزئيات المنتشرة فتدفعها إلى التباعد بعضها عن بعض فتمنعها من التهالك. فإذا ما أُدخل على المحلول الغروي جسم يحمل شحنة كهربائية مضادة لشحنته لا تلبث جزئيات المحلول الغروي أن تتجاذب مع هذا الجسم الغريب وفقاً للقانون الطبيعي الذي يقرر التجاذب بين جسم موجب وآخر سالب، وبالتالي ينهار المحلول الغروي؛ وهذا ما يحدث بين السموم المفرزة من الجراثيم وبين الجزئيات الزلالية في الأنسجة الحية. ومما يجدر ذكره أن تقدم الكائن الحي في السن وانحداره نحو الهرم يقابله تغير في الصفات الغروية الخاصة بأنسجته ينتج عنه تباطؤ في نشاطها؛ وهكذا يمكننا أن نقرر دون خشية الخطأ أنه في اليوم الذي تتم لنا فيه معرفة جميع الصفات الغروية نكون قد كشفنا الغطاء عن جميع معميات المظاهر الفسيولوجية في الصحة والمرض

ومن المسائل التي استرعت اهتمام سورنسن مسألة الوزن الجزيئي للزلاليات، أي وزن أصغر جزء له نفس صفات الجسم الذي يتركب من عدد كبير من هذه الجزئيات؛ فاستعان بالضغط (الأسموزي) أي الضغط الذي يحدثه دفع محلول على جدار غشاء إذا وجد من الناحية الأخرى من هذا الغشاء محلول ذو تركيز يختلف عن تركيز المحلول الأول. وبواسطة قانون (فان تهوف) الذي يعين العلاقة بين الضغط ودرجة الحرارة المطلقة والتركيز الجزيئي يصبح من السهل استنتاج الوزن الجزيئي. أدت هذه الطريقة سورنسن ثم (أدير) إلى تقدير الوزن الجزيئي لزلال البيض ب 34. 000 وبضعف هذا العدد لزلال الدم. وقد حققت التجارب التي أجريت بواسطة طرق فيزيقية أخرى هذا العدد كما حققت أن المواد الزلالية المختلفة لا تختلف في وزنها الجزيئي إلا بأنها حاصل ضرب هذا العدد في أعداد صحيحة. وليس في ذلك غرابة، فنحن نعلم أن المواد الغروية تتكون من وسط منتشرة فيه دقائق مؤلف كل منها من عدد معين من الجزئيات قد يختلف من مادة غروية إلى أخرى. ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف في الوزن الجزيئي فان ما يسترعي النظر حقاً هو ضخامة حتى أصغر قيمة وجدت للوزن الجزيئي في الزلاليات وهي 17. 000 (يلاحظ أن نصفها 34. 000)؛ ذلك لأننا لا نعرف جسماً يقترب وزنه الجزيئي من هذه القيمة مما يدل على شدة التعقيد في تركيب المواد الزلالية؛ ومع ذلك فان تحليل هذه المواد إلى عناصرها الأولية لا يؤدي إلا إلى أربعة عناصر بسيطة هي الكربون والهيدروجين والأكسجين والأزوت، ثم في معظم الحالات أيضاً للكبريت. إذن فالتعقيد لا يأتي من ازدحام عدد كبير من العناصر الأولية، بل من النظام الداخلي في ارتباط هذه العناصر. كيف تتركب إذن هذه المواد؟ إذا أجرينا على المواد الزلالية تحليلا خميريا أي بواسطة الخمائر مثل خمائر الأمعاء فإنها تنحل في النهاية إلى عدة أجسام بسيطة التركيب إلى حد ما، يدعونها الأحماض الأمينية أي أجسام يعينها وجود وظيفة حمضية بجانب وظيفة أمينية (وهي وظيفة قلوية تحتوي على الأزوت منتشرة في المواد العضوية)؛ وعلى ذلك كان من السهل أن يتحد حامض أميني مع حامض أميني آخر بأن ترتبط الوظيفة الحمضية لأحدهما مع الوظيفة الأمينية للآخر، كما أنه يمكن أن يتحد هذا الجسم المزدوج الجديد مع حامض أميني ثالث بنفس الطريقة وهكذا. وقد تمكن فيشر من تركيب نحو ثمانية عشر حمضاً أمينياً بعضها مع بعض فنتج لديه أجسام لها كثير من خصائص المواد الزلالية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان الأحماض الأمينية نفسها يمكن تركيبها من أجسام بسيطة. وقد كان لسورنسن الفضل في دراسة وتركيب أحد الأحماض الأمينية الهامة وهي الأرجينين، كما كان له فضل ابتداع طريقة للتقدير الكمي للأحماض الأمينية في محلول يحتوي عليها

للبحث بقية

مصطفى زيور