مجلة الرسالة/العدد 284/من مآسي الحياة

مجلة الرسالة/العدد 284/من مآسي الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 12 - 1938


بل ليت للأوقاف قلباً!

ذلك ما ابتدرني به رجل يهدف للخمسين أشمط الرأس أصهب الشارب جركسي البشرة، يترجم كلامه عن العزة، وينم هندامه على الفاقة، ويشير سَمْتُه إلى مسحة من الأرستقراطية تتراءى ضئيلة على معارف وجهه وحركات يده

دخل عليَّ المكتب أول أمس في أدب كأدب البيوتات الكريمة الدارسة: سلام تحس فيه تواضع المملوك وكبرياء الملك؛ وبسمة متملقة تجري على شفتيه الرقيقتين كأنها من طبَعيَّتها خِلْقة؛ وأسلوب هذبته (الإتيكيت) فهو مختار اللفظ موزون الإشارة؛ ثم شكر لي المقال الذي افتتحت به عدد الرسالة الماضي وقال:

إذا كان طلاب الأوقاف الخيرية يتمنون أن تكون للوزارة عين، فإن طلاب الأوقاف الأهلية يتمنون أن يكون لها قلب. أولئك يشكون أنهم يبأسون من وراء عينيها فلا ترى، وهؤلاء يشكون أنهم يشقون بين يديها ولا ترحم! وما دام المستحقون لا ينالون نصيبهم من الحق، فكيف تزجو أن ينال المعتَفون نصيبهم من الخير؟

كان الرجل يتكلم كلام الشاكي الكظيم يهمه أن يقول ولا يهمه أن يسمع. فتركته يستريح إليّ بما في نفسه، لا أعترض عليه ولا أصح له، فإن عليَّ أن ابلغ أولي مسامع الأمر زفرات الصدور المكروبة، وعليهم هم أن ينظروا إن كان مبعثها خطأ النفس على النفس، أو خطأ الناس على الناس.

قال محدثي وهو يضع سيجارته الملفوفة باليد في مبسم طويل من الآبُنُوس:

- إذا عذرنا وزارة الأوقاف على أنها لا تسعف أولئك المنكوبين الذين انفرد بهم البؤس في ظلام الدور، ومنعتهم الأنفة عن الخروج إلى النور، فكيف نعذرها على أنها تدُخل البوس بيدها على قوم جعلهم أهلوهم في ذمتها وأمانها، تحفظ لهم الملك وتثمرِّه، وتبسط عليهم الرزق وتوفره؟ أنا ضحية من ضحايا الأوقاف الأهلية، اعتمدتُ منها على جُرُف منهار فهويت إلى قرارة الفاقة. لم أتهيأ للعمل الحكومي بشهادة، ولا للعمل الحر بصنعة؛ وإنما نشأت في بيت جدي فلان باشا نشأة المترفين المدللين، أجيد ركوب الخيل، وأحذق أنواع الصيد، وأساهم في تجميل حياة القاهرة بالسرف في الملاهي، والقصف في البيوت، والمقامرة في السباق، والافتنان في المظهر. وكان أبي رحمه الله ناظراً على ما وقف جدي على أسرتنا الكبيرة المتشعبة من الضياع والرباع، فكان يغرق رغباتي في فيض من المال لا يغيض ولا يخُلْف. فلما توفاه الله آلت النظارة من بعده إلى أرشد أعمامي، فانقبض عني شيء من بسطة العيش. وكان لي بنون وبنات نشئوا في نعمة أبي. كما ينشأ النبات الربَّعي في خصيب الأرض، فلم أرد أن يمس نضرتهم ذلك الضيق الذي جره علينا طمع الناظر، فبعت ما ورثت عن أبي، وعشت سنين على الخفض والسعة. حتى إذا لم يبق إلا الوقف أخذت أرُوض نفسي وأهلي على التدبير، فاختصرت المسكن، واختزلت الأثاث، وضيقت المطبخ، ورضيت أن أركب (التاكسي) وأن أجلس في (النيوبار). . . وليت ذلك يا سيدي دام! فإن كبار المستحقين شغبوا على الناظر فعزلوه، وتألبوا على خلفه فشلوه، وأستحكم بينها الشقاق فلم يتفقوا على ناظر منهم. ثم لم تَنقطع أسباب هذا الخلاف، إلا (بتنظير) وزارة الأوقاف!

كان لجوء المستحقين إلى تنظير الوزارة، كلجوء القطين المتنازعين على قطعة الجبن إلى تحكيم القرد. فلم يبق لهم على الأعيان الموقوفة عين ولا يد. وأدارتها الوزارة على المنهج الحكومي فأرهقتها بالكتاب والنظار والمفتشين والمراقبين والخبراء؛ ولكل واحد من هؤلاء طريقة في العمل ورأي في الإصلاح يتغيران بتغييره. فالبناء الذي أُقيم يُهدم، والمصرف الذي حُفر يرُدم؛ ثم يسُتأنف البناء والحفر في مكانين آخرين! وهكذا دواليك: يتعاورُ البناء والتخريب، ويتعاقب الاقتراح والتجريب، حتى تذهب غلة الأرض بين نفقة الإدارة وحصة الوزارة! وأما الدور فهي قصور فسيحة ذات أسوار وحدائق رغب الناس عن سكناها لمخالفة طرازها لمقتضيات المدنية الحديثة. وأغفلتها الوزارة فلم تفكر في تجديدها واستغلالها ولا في بيعها واستبدالها، وإنما تركتها لمعول الزمان فلا تؤجرها إلا مخازن للتجارة وزرائب للحيوان ومساكن للفعلة!

كان دخلي على عهد الناظر الطماع ستمائة جنيه في العام، فأصبح على عهد الوزارة شيئاً لا أسميه! فهو سنة يكون ستين، وسنة يكون ستة، وسنة يكون مطلاً، وسنة يكون دَيناً! وأنا وزوجتي وأولادي نكابد غصص الحرمان في ركن رطيب من إحدى دورنا الخربة؛ فالبنون لا يجدون عملاً لمكانهم من الجهل، والبنات لا يجدن أزواجاً لمكاني من الفقر، ولا نقضي أيامنا السود إلا على اقتراض من الجزار والبدّال والعياش والقماش، حتى ضاق بنا العيش، وعاقنا الوجود، وأصبحنا إذا دخلنا أقضنا الهم، وإذا خرجنا أمَضَّنا الخجل. . .

يا سيدي! إن الوقف إن حفظ العين فقد أضاع الرَّيع. وليس لهذه الغاية الحمقاء وقف الواقفون. فسبيل الإصلاح في عهد الصلاح أن يُحَل؛ فإن المرء أدرى بشأنه وأعلم بخيره، وليس من يعمل لنفسه كمن يعمل لغيره. . .

احمد حسن الزيات