مجلة الرسالة/العدد 285/صور من الحياة في بغداد

مجلة الرسالة/العدد 285/صور من الحياة في بغداد

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 12 - 1938


للدكتور زكي مبارك

يظن فريق من الناس أن الحياة متشابهة الألوان، وإن اختلفت البلاد. وحجة هذا الفريق أن الناس متقاربون أشد التقارب في الغرائز والميول. ويشهد بصحة هذه الحجة أن مذاهب الناس في ملاعبهم وملاهيهم قد تقترب في هذه الأيام مما كانت عليه قبل آلاف السنين. وكذلك تقترب مذاهبهم في فهم الحقائق الأخلاقية والاجتماعية، بحيث يمكن القول بأن حكماء مصر وبابل والهند والصين في العصر القديم عبروا عن آراء وأفكار ليست بعيدة كل البعد عما نعرف في العصر الحديث.

وقد دهشتُ حين زرت مدينة رُوَان في سنة 1927 فقد رأيت بعض الأحياء القديمة هناك تشبه بعض الأحياء القديمة في القاهرة من حيث تخطيط الشوارع وهندسة البيوت.

وكذلك دهشت حين زرت بغداد في السنة الماضية، فقد رأيت فيها أحياء تشبه بعض الشبه حيّ الداوودية بالقاهرة، من حيث إقامة الرواشن وزخرفة الأبواب.

والحق أن هناك موجات مدنية تغمر العالم من حين إلى حين فتوحد مذاهبه في العيش بعض التوحيد. ويوضح ذلك ما نراه من طغيان المدنية الأوربية في هذا العصر: فهي تكاد تحوّل العالم إلى شكل واحد في الملابس والعادات والمذاهب المعاشية، وكذلك كان الحال يوم سادت المدنية المصرية والمدنية الرومانية والمدنية العربية.

ولكن تشابه الناس في بعض مناحي التفكير وخضوعهم لطغيان بعض المدنيات لا يمنع من وجود خصائص أصيلة يمتاز بها بلد عن بلد، وشعب عن شعب.

وهل يمكن القول بأن الوحدة السياسية في قطر من الأقطار تفرض أن يتْسم بوحدة اجتماعية؟

إننا نعرف أن أهل مصر يختلفون في كثير من العادات والتقاليد باختلاف المناطق، ولو شئت لقلت أن عندنا مِصرَين: مصر الشمالية، ومصر الجنوبية؛ ولكل ناحية من هاتين الناحيتين خصائص ومميزات تتمثل في أشياء كثيرة منها طرائق التعبير وأساليب الغناء.

ونعرف أيضاً أن فرنسا تنقسم إلى أمم وشعوب بالرغم من وحدتها السياسية، ولكل أمة من تلك الأمم مذاهب في العيش والتعبير، ولها كذلك أذواق خاصة في الطعام والشراب.

فإذا انتقلنا إلى العراق الذي نخصه بهذا الحديث لم نجده بدعاً بين الأمم والشعوب، وإنما نجده يتأثر في عاداته وتقاليده بما يخضع له من تيارات جوية واجتماعية واقتصادية.

وهل يمكن أن يتم التشابه بين أهل البصرة وأهل الموصل في كل شيء؟

إن الذي يطلب ذلك يصح في ذهنه أن يتشابه (الصعايدة) و (البحاروة) في كل شيء، وذلك غير معقول.

تقدَم الموصل فتروعك سنابل الحِنطة وهي تتموج في واسعات الحقول، وتقدَم البصرة فيروعك النخيل الذي يعد بألوف الألوف.

وتدخل بغداد فترى فيها سمات من الشَّمال وسمات من الجنوب.

فهل نستطيع بعد هذا التمهيد أن نجد صوراً خاصة من صور الحياة في بغداد؟

إن الصور التي تنفرد بها بغداد كثيرة جداً، ولكن كيف نبرز الملامح من تلك الصور الخصوصية؟

هنا أشعر بأن الوصف أصعب ضروب البيان، ولكني سأحاول رسم ما رأت عيناي من الصور البغدادية.

وأبدأ بالحديث عن أذواق أهل بغداد في تنظيم السهرات.

وكلامي في هذه القضية يحتاج إلى سناد مما قرأتم في كتب الأدب والتاريخ، وأنتم قد قرأتم أن البغداديين كانوا مولعين بالموسيقى والغناء. فاعرفوا اليوم أن هذه النزعة لا تزال حية في بغداد، ومن النادر أن تقوم سهرة بلا غناء.

ويظهر جمال هذه العادة اللطيفة إذا تصورتم ما يقع في دجلة أيام الصيف. ولدجلة من هذه الناحية منظر أخاذ حين تمسي ملعباً للسفائن الخفيفة الروح التي تحمل أفواج اللاهين واللاعبين وبأيديهم آلات الطرب وفي قلوبهم مشاعل الوجد المشبوب.

وأنتم تذكرون أن الجاحظ نص على استكراه المغنّي الوَسط فاعرفوا اليوم أن لذلك صلة بالحياة العراقية. فكل إنسان في العراق يرى من حقه أن يغني، وكان الأمر كذلك لان جو العراق يهيج الشجون. وقد حدثتكم مرة بأن العراق هو البلد الوحيد الذي لا تنقطع فيه الحمائم عن النواح.

ومن أجل هذا أيضاً نص أدباؤهم وفقهاؤهم على آداب الوجد والسماع والشراب، لأن السهرات الوجدانية لها في ماضيهم وحاضرهم مكان ملحوظ؛ وهم يشدون إليها الرحال من أرض إلى أرض، وقد يتحملون في سبيلها ما لا يطاق.

ولكن ما هو الغناء الذي يميل إليه البغداديون في هذه الأيام؟

عندهم فن من الغناء يسمى الأبوذية، وهو في أغلب أحواله غناء حزين، ولكنهم مع ذلك يصطنعونه في الأفراح، والحجاز بين الفرح والحزن حجاز دقيق عند من يعرف أن العراقي حين يطرب قد تجود عيناه بالدمع السخين.

وقد كلفوا في الأعوام الأخيرة بأغاني أم كلثوم، كلفوا بها كلفاً شديداً جداً، وهم يعلنون عن سهراتها في جرائدهم بالمجان. ولشعرائهم في الهيام بأغاني أم كلثوم قصائد جياد.

ولا يبعد عندي أن يدّعوا نسبتها إلى العراق بعد حين، فأم كلثوم فيما يظهر سرقت حنجرتها من الحمائم الموصلية. والله أعلم!

ولم يكن أهل بغداد يطربون لاغاني عبد الوهاب. ولذلك سبب تحسن روايته في هذا الحديث.

كان عبد الوهاب زار بغداد في عهد الملك فيصل، طيب الله ثراه، وكان وقع في غلطة ذوقية ثار لها البغداديون، كان لقيهم بمظهر من الأرستقراطية لا يرتاحون إليه فانصرفوا عن أغانيه كل الانصراف.

ولكن تغير الحال حين رأوا فلم (يحيا الحب) فأحبوه إلى حد الجنون.

ويظهر إن السيدة التي غنت أنشودة البرتقال هي السبب في انجذاب البغداديين إلى عبد الوهاب، فتلك السيدة عراقية الملامح وهي تشبه ليلى في تقاسيم الوجه ورخامة الصوت.

أترك هذا وأنتقل إلى صورة ثانية

قلت مرة إن أنهار العراق مسمكة جداً، فاعرفوا اليوم أن عندهم لوناً من الطعام هو السمك المسقوف.

والسمك المسقوف مشهور جداً في بغداد، وينص عليه في الدعوات كأنه من غرائب الأشياء.

ولكن السمك المسقوف له تقاليد يعرفها أهل بغداد، فهو لا يؤكل في كل وقت وفي كل مكان، وإنما يؤكل بالليل وفي الفضاء.

وإنما سمي مسقوفاً لأنه يوضع فوق قضبان من الحديد ثم تشب من حوله النار فينضج بالحرارة، كما يصنع من يشوون اللحم في محل (الدهان) إن كنتم رأيتموه.

وفي دجلة جزيرة صغيرة ينحسر عنها الماء بعد الفيضان، وهم يسمونها جزرة، وأهل بغداد يختارون هذا المكان لأكل السمك المسقوف في ليالي الصيف، ويظهر أنه كان مجال اللهو والطرب منذ أجيال طوال، فهو يواجه الكرادة، والكرادة فيما يظن كثير من البغداديين محرفة عن كِلْواذ التي قال فيها أبو نواس:

قالوا تنسك بعد الحج قلت لهم ... أرجو الإله وأخشى طير ناباذا

أخشى قُضيِّب كرم أن ينازعني ... رأس الخطام إذا أسرعت إغذاذا

فإن سلمتُ وما نفسي على ثقة ... من السلامة لم أسلم ببغداذا

ما أبعد الرشد ممن قد تضمنه ... قطرُّ بلٌ فقرى بنَّا فكلواذا

والتي دعا عليها مطيع بن إياس فقال:

حبذا عيشنا الذي زال عنا ... حبذا ذاك حين لا حبذا ذا

زاد هذا الزمان شرا وعسراً ... عندنا إذ أحلنا بغداذا

بلدة تمطر الثراب على النا ... س كما تمطر السماء الرذاذا

خُرِّبت عاجلاً وخرَّب ذو الع ... رش بأعمال أهلها كلواذا

وقد دعيت ليلة لأكل السمك المسقوف في تلك الجزرة، وكانت سهرة لطيفة في ليلة قمراء، ويظهر أن النسيم أراح أعصابي فغلبني النوم ونحن عائدون في السفينة، ثم استيقظت مذعوراً على صراخ النساء فظننت أن السفينة أشرفت على الغرق، ثم ظهر أنها اصطدمت بالارض، فضحكت وحمدت الله على النجاة!

وإنما نصصت على هذه الصورة لتعريفكم بأن لأهل بغداد ألواناً من الطعام تغاير الألوان المصرية، والفرق بعيد جداً بين ألوان الطعام في القاهرة وألوان الطعام في بغداد. والظاهر أن المائدة المصرية الحديثة منقولة عن المائدة التركية، ولا كذلك المائدة العراقية فلها مذاق خاص بأهل العراق، وربما كان لها اتصال بما يتذوق الفرس والهنود.

قد تقولون: ولكن أكل ما تختص به بغداد هو الطعام والشراب والغناء؟ إن قلتم ذلك فإني أجيب بأن لبغداد خصائص غير هذه الخصائص، منها الجد الرصين الذي يتمثل في تناول الحياة من نواحيها العنيفة في الكفاح والجهاد.

وأؤكد لكم أن البغداديين صبروا على ما لم يصبر عليه أصدق الرجال.

صبر البغداديين على بلايا كثيرة أخفها الأوبئة والطواعين، وصبروا على مكاره الدهر وتصاريف الزمان.

والبغدادي له لحظات بؤس يواجه فيها نفسه وهمومه ورزاياه، والشعور بالكرب هو أخص ما يلازم البغدادي حين يجلس وحده في المقهى أو في البيت، وهذا الحزن القاتل الذي يساور أهل بغداد من حين إلى حين هو الذي يجعلهم أقرب الناس إلى الغريزة الإنسانية، وهل يسيطر الحزن إلا على كبار القلوب؟

وأعيذكم أن تظنوا ذلك الحزن علامة من علامات اليأس. لا فالبغدادي يأنس بحزنه ليتخذ منه ذخيرة لمواجهة الخطوب. وما عرف البغداديون مواقع النصر في التاريخ إلا في أعقاب الأحزان.

وتفسير ذلك سهل: فالحزن الموجع هو الذي يحمل الرجل على أن يستيئس فيستقتل ويستميت.

والحق أن البغدادي يسرف في الفرح ويسرف في الحزن، ومن هذه الطبيعة المزدوجة استطاع البغداديون أن يكونوا من أسمح الناس وأشجع الناس.

وما وقع بصري على رجل من أهل بغداد إلا تألمت وحزنت، لأني أرى الدهر طبع على وجوههم سمات الحزن الدفين، ثم يخف ألمي وحزني حين أتذكر أن تلك الوجوه الشواحب تعرف كيف تصبر على مواجهة الخطوب.

وما كانوا جميعاً مكروبين ولا محزونين، ولكن الأقدار أبت أن تسبغ عليهم ثوب الصفاء، ليكونوا كأشجار البادية التي تقاوم العواصف وتصبر على الضمأ والقيظ بلا توجع ولا أنين.

ولكن ما هي الصور التي يدفع بها العراقيون تلك الموجعات؟

للعراقيين أساليب كثيرة في جلب المسرات إلى قلوبهم، منها الاشتغال بالفروسية والتأهب للحرب، فمن أعظم الملاهي عند الشبان العراقيين في هذه الأيام أن يكونوا طيارين وجنوداً وضباطاً في الجيش، ويظهر هذا اللون من اللهو في أجمل مظاهره حين يُستعرَض الجيش أو حين يقوم سباق الطيران.

وما أقول إن هذا النوع من أنس النفس بمظاهر القوة خاص بالعراق، لا، فهو موجود في كل أرض، ولكن إقبال العراقيين عليه يتْسِم بسمات من الروعة توحي إلى من يراه أنه من خصائص أهل العراق.

ومن كان في ريب من صدق هذه الحقيقة فليتصل بالراديو العراقي مرة ليسمع بعض الأناشيد الوطنية أو العسكرية، فإن فعل فسيعرف أن الحماسة في صدور الشبان العراقيين حماسة رائعة جداً، وأنها صادقة كل الصدق لا تكلف فيها ولا افتعال.

ومن هذه النزعة نشأ عند العراقيين عيب جميل هو الغرور القومي، فالعراقيون يعتقدون اليوم أن جيشهم أقوى جيش في الشرق، ويندهشون حين يسمعون أن مدرسة الحربية في القاهرة أعظم من المدرسة العسكرية في بغداد. وقد نشرت إحدى جرائدهم مرة أن مصر أوفدت أربعة شبان ليتعلموا في المدرسة العسكرية عندهم، فصدقوا الخبر وعلقوا عليه في المجالس والأندية والجرائد.

وترجع هذه السذاجة الطريفة عند الجمهور العراقي إلى منزع جميل هو قوة الروح المعنوي هناك.

وهذا الروح تمده روافد كثيرة في العراق يصدر بعضها عن المدارس وبعضها عن الجمعيات والأحزاب.

ويجب أن أنص في هذا الحديث على ظاهرة نفسية كاد ينفرد بها العراق، وهي إلحاحه على وجوب الإسراع في تكوين الوحدة العربية، فهم يتكلمون ويخطبون ويكتبون كل وقت في تأييد هذه القضية، ويتمنون على أسلوبهم في السرعة أن يتم ذلك بعد يوم أو يومين.

وهذه الظاهرة تفسر ظاهرة أخرى لا يفطن إليها كثير من الناس.

وبيان ذلك أن الصحافة العراقية لا تملك حرية التعبير في كثير من الأحيان.

والذي تصل إلى أذنه أخبار القيود التي تعانيها الصحافة العراقية يتوهم أن العراق يعيش في ظل الجور والاستبداد.

والواقع غير ذلك. الواقع أن الحكومة العراقية تعرف الفورات التي تصطرع في أنفس الشبان، وتعرف أنهم يتسامون إلى أغراض لا تتحقق في عام أو عامين، فترى من الواجب أن تحمي أولئك الشبان من النزعات المتطرفة التي يخرج لهيبها من الجرائد والمجلات.

والواقع أيضاً أن حرية الصحافة في مصر تؤذي كثيراً من أهل الشرق، فهم يتوهمون أننا صرنا أعظم منهم لأننا نملك من الحرية الصحفية ما لا يملكون، ولو أنهم تدبروا لعرفوا أن حرية الصحافة في مصر لا تؤذي أهل مصر إلا قليلاً، لأن المصريين عرفوا مصايرهم السياسية والاجتماعية منذ أعوام، وهم لا يستوحون الجرائد في كل وقت، ولا ينزعجون حين يقرءون غرائب الاتهامات في الجرائد والمجلات بفضل ما درجوا عليه من نقد الأخبار والأحاديث.

وهذا الذي أقوله يفسر الخبر الذي قرأته في جرائد العراق منذ أسابيع، فقد أصدرت وزارة المعارف العراقية منشوراً يحرم على المدرسين أن يتعرضوا لغير الشؤون العلمية في ساعات الدروس.

وليس في هذا المنشور شيء من الغرابة، لأن المدرسين ممنوعون من الخوض في السياسة في جميع البلاد، ولكن تأكيد هذا المعنى من وقت إلى وقت شيء يحتاج إليه المدرسون في العراق.

قد سمعتم أشياء كثيرة عن العراق في هذا الحديث، منها الجِد الصارم ومنها المزاح المقبول، فاسمحوا لي أن أضيف إلى الصور السوالف صورة أجمل وأروع، وهي اهتمام أهل العراق بأخبار أهل مصر وشغفهم بأن يسمعوا ما يسرهم عن هذه البلاد.

فمن تقاليد الشبان والكهول في العراق أن يقرءوا المجلات المصرية وأن يستمعوا ما يلقى في الإذاعة المصرية، ومنهم من يعرف تخطيط القاهرة وإن لم يرها مرسومة في خريطة لكثرة ما يتأثر بالأوصاف المبثوثة في الجرائد والمجلات.

إن الشبان في العراق يتأثرون خطوات إخوانهم في مصر ويتمنون لهم المزيد من نعمة الصحة والعافية.

فيا أبناءنا في المدارس المصرية، تذكروا، ثم تذكروا

تذكروا أن لكم إخواناً في الأقطار العربية والإسلامية، وهؤلاء الإخوان يسألون عنكم في كل وقت، ويتمنون أن تتسع آفاق أذهانكم فتعرفوا أنكم لستم غرباء في الشرق، وأن الفتى منكم إذا شرَّق وجد أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان.

إن الشرق يدعوكم إلى أن تتعرفوا إليه كما يتعرف اليكم، فليكن من أمانيكم أن تزوروا الحواظر العربية والإسلامية وأن تعقدوا صلات المودة والإخاء مع إخوانكم في الشرق.

تذكروا يا أبناءنا في المدارس المصرية أن الوطنيَّ الصادق هو الذي يخلق لوطنه صداقات ومودَّات، فكونوا أوفياء لهذه المعاني في خدمة الوطن الغالي.

والله يتولاكم برعايته، ويسبغ عليكم ثوب العافية في العزائم والضمائر والعقول.

(مصر الجديدة)

زكي مبارك

-