مجلة الرسالة/العدد 285/في اللغة
مجلة الرسالة/العدد 285/في اللغة
المؤنث والمذكر في اللغات السامية
للأستاذ عمر الدسوقي
(تتمة)
ذكرت في المقال السابق أن المؤنث ليست له علاقة خاصة به من حيث كونه مؤنثاً باعتبار الجنس، وأن بعض الجموع والمصادر والصفات الدالة على المبالغة، والأمور المعنوية، تلحقها نفس العلامات التي تلحقه. وقلت أن الصلة بينها جميعاً هي الدلالة على القوة وبلوغ النهاية؛ ووعدت أن أوضح سبب نظرة الساميين إلى هذه الأشياء نظرة الإكبار والتعظيم.
أتى على الإنسان عصر كان يقدس فيه القوى الطبيعية، المنتج منها والمدمر، يتملقها بالعبادة والقرابين استرضاءَ لها واتقاءَ لشرها
كان يقدس الريح، لأنها إذا سخطت أتت صرصراً عاتية، تعبث به وبكوخه ومتاعه، وتزأر زئيراً يقشعر له بدنه، وترتجف منه أوصاله؛ وإذا رضيت أتت رخاءَ لينة، تخفف حدة القيظ، وقر الشتاء
كان يقدس الشمس، لأنها تبعث في الحيوان والنبات الحياة والقوة، وتجلب الضوء فتمكنه من السعي في مناكب الأرض والخروج للصيد، وتجعل من رمال الصحراء ناراً متقدة، ومن حرم ضوءها ذوى وذبل.
وكان ينظر إلى السماء وما حوت نظرة تقديس وإجلال، فيراها موطن الأجسام المتلألئة اللماعة، تهديه في شراه، وتمن عليه بالضوء ليلاً ونهاراً، ويتطلع إليها كأنها مصدر القوى المسيطرة على العالم.
وكان يرى في الأرض أماً يسكن إليها إذا ريع، ويعتمد عليها في طعامه، وشرابه، وحياته. درج عليها صغيراً، وجاب نواحيها كبيراً. زرع فيها الحب فآتى أكله، وغرس فيها الشجر فأثمر.
وكان يرى في السحب إله الرحمة، تنقع غلته من حياها، وتنمي زرعه من غيثها، وتدر الماء فتربو الأرض وتنتج من كل زوج بهيج.
وكان يرى النار مصدراً للخير والشر، تنضج له طعامه، وتضيء له كوخه، وتلتهم كل ما يملك.
اعتبر كل هذه القوى أشياء طبيعية، خفية، غامضة، ذات قدرة سحرية، قادرة على النفع والضر، فأشار إليها بضمير خاص مميزاً لها عن بقية الأشياء التي تقع تحت سمعه وبصره، ذلك الضمير الذي يشير به إلى الانثى، وكانت في نظره قوة منتجة ذات تأثير بين في حفظ النسل وإخراجه إلى الحياة وتعهده بالرضاعة والنمو، ولأنها لغز لم يستطع إدراكه، فهو لا يستطيع الحياة بدونها، ويجدها مصدر العطف والرحمة، واللذة والألم، والقسوة والصبر
وكان الآشوريون وهم أقدم الأمم السامية وأقربهم إلى الأمة الأصلية، يعتقدون أن المرأة وحدها هي التي تستطيع أن تفهم السحر وتقوم بالأعمال السحرية، وأنها تعرف أسرار الغيب، والتكهن بالمستقبل
وكان عند العرب من العرافات والكواهن في الجاهلية عدد لا بأس به كطرْيفة الخير، وسلمى الهمدانية
وكان العرب يسمون كثيراً من آلهتهم بأسماء الإناث، ولا سيما أقدمها وأعظمها، فكانت (مناة) أعظم أصنام الأوس والخزرج، وكانوا يجلونها وتعتبر أقدم أصنامهم. وكانت (اللات) أكبر أصنام ثقيف. وكانت (العُزَّى) أعظم أصنام قريش، يزورونها، ويهدون لها، ويتقربون إليها. وقد قيل أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكرها مرة فقال: (لقد أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي). وهذه الأصنام الثلاثة هي التي خصها القرآن الكريم بالذكر
تلك كانت نظرة الساميين القدماء للأنثى: اعتبروها قوة من القوى المنتجة، ونسبوا إليها القدرة على القيام بالأعمال السحرية والكهانة والعرافة.
ولذلك أنثوا كل الكلمات الدالة على القوة، والتي ترمز إلى أمر خطير ذي أثر بين في حياتهم: أنثوا الخمر لأنها تجلب إليهم المرح والسرور، وتنسيهم أحزانهم وآلامهم؛ وأنثوا الروح والنفس، لأنهما من القوى الخفية التي بها يحيا الإنسان وبدونها يصير جثة هامدة، لم يقفوا على سرهما وكنههما: (ويسألونكَ عن الرُّوحِ قل الرُّوحُ من أمر ربي). والنفس عندهم تعني الدم والنَّفَس، ولا زال النَّفَس يعد قوة سحرية، يسلطه السحرة على الأفاعي لتسكن إليهم وتطيع أوامرهم ولا تؤذيهم. وكانوا ينفخون على الجروح لتبرأ، ولا زال هذا معمولاً به إلى اليوم
وأنثوا الحرب، لان فيها ضراً وفيها نفعاً؛ يتخذونها مورداً لأرزاقهم، فيسبون ويغنمون، وإن كانوا يعرضون أنفسهم للتهلكة؛ وتاريخ العرب في الجاهلية على ذلك شهيد
وأنثوا من أعضاء جسم الإنسان أحد عشر عضواً، كاليد والأذن والعين، لأنها أوعية القوى التي يكون بها الإنسان إنساناً؛ وكانت اليد عندهم آلة البطش والقدرة والتأثير: (يدُ الله فوقَ أَيديهم)، (بيده المُلك).
وأنثوا من الآلات أحد عشر اسماً، كالفأس والرحى والدرع، لأنها تعنيهم على الإنتاج والدفاع والقوة.
وربما قال قائل: إن كل الأسماء التي ذكرتها خالية من علامات التأنيث، وقد اعتبرها العرب مؤنثاً مجازياً. وأقول: هو ذاك؛ هي مؤنثة باعتبار الفكرة التي كانت تدور في أذهانهم، ومع ذلك فالعلامة ليست شرطاً في التفرقة بين المؤنث الحقيقي والمذكر. خذ مثلاً: الأب، ألام. والحصان والفرس، والحمار والأتان. وتجد أن الصفات التي أختص بها المؤنث لا تحتاج إلى علامة مثل: مرضع وحامل وحائض وعاقر، وثيب وعانس. وذلك لأن فكرة التأنيث عند ذكر هذه الصفات والأسماء كانت حاضرة في مخيلتهم. ويذهب العلامة برو كلمان إلى أبعد من ذلك فيقول: لم تكن الحاجة ماسة في أول الأمر للتمييز بين المؤنث والمذكر بعلامة، إذ كانت الطبيعة قد وضحت بينهما. وهذه الكلمات التي ذكرت آنفاً تعتبر من أقدم الكلمات في اللغات السامية. ووضعت علامة التأنيث فيما بعد لما أعتبره الساميون مؤنثاً لتقوية الكلمة وتشديدها وزيادة تمييزها عن غيرها
أما الأمور المعنوية، كالرحمة والقسوة، والشفقة والبغضاء، والبلواء، والسعادة والبأساء، فلأنها أمور دقيقة لم يستطع ذلك الإنسان الفطري إدراك كنهها، وإنما عرفها بآثارها الظاهرة المحسوسة، فألحقها بالمؤنث، ووضع لها العلامة لان فكرة التأنيث بها ربما كانت غامضة، أو ضعيفة فقواها
أما الجموع فأمرها هين ولا سيما جموع العقلاء، مثل عامل وعملة، وكاتب وكتبة، وصبي وصبية، وكرماء وأشداء وعظماء وأقوياء، إذ أن الجموع قوة تستطيع أن تفعل ما لا يفعله الفرد.
أما المصدر ففكرة مجردة، ويقول العلامة (دلمان) إن الفكرة المجردة يتصورها الإنسان كقوى منتجة خالقة، ولذلك جاء الكثير منها مؤنثاً.
ويمكنك أن تدرك الفكرة التي حدت بالساميين إلى تأنيث بعض الأسماء والصفات في تلك النعوت التي تدل على المبالغة وبلوغ النهاية مثل: راوية ونابغة، وداهية. . . الخ.
أما أمكنة الإقامة، كالمدينة، والقبة، والدار، فلاتصالها بالأرض، وقد بينت في أول المقال كيف نظر الساميون إلى الأرض. وتسألني ما بال البيت مذكراً؟. نعم إن البيت مذكر، ولكن أثراً من آثار صيغته الأصلية المؤنثة لا يزال موجوداً في اللغة الآشورية، حيث يستعمل مذكراً تارة ومؤنثاً أخرى، كأجزاء الأرض مثل الطريق، والسبيل. ولعلك تتذكر أني بينت في المقال الأول كيف تخرج هذه الكلمات من المؤنث تدريجياً لضعف فكرة التأنيث فيها.
ولعلي أكون قد وفقت في توضيح هذه الفكرة التي حدت بالساميين لتأنيث بعض الأسماء وتذكير بعضها الآخر، فالغرض من علامات التأنيث هو تقوية الكلمة، والضغط عليها، وإظهارها بمظهر الشدة، لما ترمز إليه من المعنى القوي، والأمر الخفي ذي الأثر والنفوذ والقدرة السحرية.
عمر الدسوقي