مجلة الرسالة/العدد 285/مصر والعروبة
مجلة الرسالة/العدد 285/مصر والعروبة
إلى الدكتور طه حسين
من الأستاذ ساطع الحصري بك
أيها الأستاذ:
نشرت مجلة المكشوف البيروتية حديثاً جرى بينكم وبين جماعة من شبان العرب، على ظهر باخرة تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، قلتم في خلال ذلك الحديث إنكم تنادون (بتوحيد برامج التعليم في جميع الأقطار العربية وتسهيل التبادل الثقافي بينها)، وترون (من المفيد أن يكون تعاوناً اقتصادياً، وحتى تحالفاً عسكرياً) بين تلك الأقطار؛ غير أنكم لا ترضون وحدة سياسية، سواء أكانت (بشكل إمبراطورية جامعة) أم على طراز (اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري). وعللتم آراءكم هذه بقولكم (إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين؛ وإنها ستبقى كذلك، بل يجب أن تبقى وتقوى).
قرأت هذه الآراء بدهشة غريبة، لأنني استبعدت صدورها منكم كل الاستبعاد، وقلت في نفسي: (لعل الكاتب نقلها على غير حقيقتها)، وأعدت قراءتها بإمعان، ولكني لمحت في عدة نقاط منها أسلوبكم المعروف، فقلت لعل الدكتور أراد أن يمتحن هؤلاء الشبان، ويتأكد من مبلغ إيمانهم بالقضية، ويسبر غور درسهم لوجوهها المختلفة: فالآراء التي أدلى بها ربما كانت من نوع الآراء الجدلية التي ترمي إلى حمل المخاطب على التعمق في التفكير. فوجدت نفسي تجاه هذه الملاحظات بين عاملين مختلفين: عامل يدفعني إلى الإسراع في مناقشة هذه الآراء لكي لا أترك مجالاً لزعزعة إيمان بعض الشبان بتأثير سلطتكم الأدبية السامية، وأسلوبكم الأخاذ. . . وعمل يدفعني إلى التريث في الأمر لكي أتأكد من صحة الحديث المعزو إليكم. تريثت لذلك مدة من الزمن. . ولما لم أطلع على تصحيح أو توضيح صدر منكم، رأيت من الواجب علي أن أقدم على المناقشة بدون أن أنتظر مدة أطول. . .
فإذا كان في الحديث الذي نسب إليكم شيء من البعد عن الواقع، فأرجو أن تعتبروا كلمتي هذه بمثابة رد على الآراء المسرودة في ذلك الحديث، بقطع النظر عن قائلها؛ وإذا كان فيه شيء من قصد المناقشة الجدلية - كما أسلفت - فأرجو أن تعتبروا هذه الأسطر بمثابة صفحة من صفحات تلك المناقشة الجدلية. . .
قلتم للشبان الذين تحدثتم إليهم: (إن المصري مصري قبل كل شيء، فهو لن يتنازل عن مصريته مهما تقلبت الظروف. . .)
فاسمحوا لي أن أسألكم: هل الوحدة العربية تتطلب من المصريين التنازل عن المصرية؟ أنا لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال بالنفي، لأني أعتقد بأن دعوة المصريين إلى الاتحاد مع سائر الأقطار العربية لا تتضمن بوجه من الوجوه حثهم على التنازل عن (المصرية). إن دعاة الوحدة العربية لم يطلبوا ولن يطلبوا من المصريين - لا ضمناً ولا صراحةً - أن يتنازلوا عن مصريتهم، بل إنهم يطلبون إليهم أن يضيفوا إلى شعورهم المصري الخاص شعوراً عربياً عاماً، وأن يعملوا للعروبة بجانب ما يعملونه للمصرية. . فهل لديكم ما يبرهن على أن ذلك من نوع (طلب المحال)؟ وهل لديكم ما يدل عل أن العروبة والمصرية ضدان لا يجتمعان، وعنصران لا يمتزجان؟
وقد قلتم لمخاطبكم: (ولا تصدق ما يقوله بعض المصريين من أنهم يعملون للعروبة. . . فالفرعونية متأصلة في نفوسهم) ثم أضفتم إلى ذلك حكماً قاطعاً، فقلتم: (وستبقى كذلك. . .)
فهل تسمحون لي أن أستوضحكم ما تقصدونه من كلمة (الفرعونية)؟ هل تقصدون منها الأخذ بحضارة الفراعنة، أم الاعتزاز بثقافة الفراعنة، أم تقصدون منها بعث اللغة الفرعونية أو الآداب الفرعونية، أو الديانة الفرعونية، أو السياسة الفرعونية؟
أنا لا أستطيع أن أشك في أنكم لم تقصدوا منها الحضارة أبداً: لأنكم لستم - بدون ريب - ممن يقبلون لمصر ولغير مصر - حضارة في هذا العصر غير الحضارة العلمية الحالية. . . كما لا أستطيع أن أشك في أنكم لم تقصدوا من هذه الكلمة (الديانة الفرعونية) أيضاً. . .
هذا ومن جهة أخرى فإنني أجد في مناداتكم (بتوحيد برامج التعليم في جميع الأقطار العربية وتسهيل التبادل الثقافي بينها) دليلاً قاطعاً على أنكم لم تقصدوا منها الثقافة الفرعونية أو اللغة الفرعونية أيضاً.
فماذا تقصدون منها إذاً؟ السياسة؟ فهل تعتقدون بأن (السياسة الفرعونية) تتطلب (الاكتفاء بحدود مصر الحالية) فترفض (التوسع) بكل أنواعه، حتى ولو كان عن طريق (قبول انضمام) الأقطار العربية؟
إنكم أشرتم في حديثكم إلى الآثار الباقية من عهد الفراعنة بشكل يستوقف الأنظار، وأردتم أن تدعموا آرائكم بجلال تلك الآثار إذ قلتم:
(لا تطلبوا من مصر أن تتخلى عن مصريتها، وإلا كان معنى طلبكم: اهدمي يا مصر أبا الهول والأهرام، وتغاضي عن جميع الآثار التي تزين متاحفك ومتاحف العالم، وإنسي نفسك واتبعينا. . .)
يظهر من هذه التأويلات أنكم تودون أن تخلقوا للفكرة العربية خصوماً من الآثار القديمة، وأن تضعوا في سبيل تيار هذه الفكرة سدوداً من الرموس والأطلال. فهل فاتكم أن التعارض والتصادم لا يحدثان إلا بين الأشياء التي تسير على مستوى واحد، في عالم واحد؟ وأن الفكرة العربية التي تعمل في القرن العشرين - للأجيال القادمة - لا يمكن أن تتعارض مع آثار بقيت ميراثاً من ماض سحيق، يرجع إلى أكثر من خمسة آلاف من السنين؟
إن مصر قد تباعدت عن ديانة الفراعنة دون أن تهدم أبا الهول؛ وتخلت عن لغتها القديمة دون أن تقوض الأهرام؛ وجميع آثار الفراعنة التي زينت بها متاحف مصر ومتاحف العالم لم تُولَد نزوعاً للعودة إلى الديانة التي أوجدت تلك المآثر الخالدة، ولا حركة ترمي إلى بعث اللغة التي رافقتها خلال قرون طويلة، فهل من موجب لطلب هدم الأهرام وتناسي الآثار لأجل الوحدة العربية؟
إن الأهرام - مع جميع الآثار الفرعونية - لم تمنع مصر من الاتحاد مع سائر الأقطار العربية اتحاداً تاماً - في ميدان اللغة - فهل يمكن أن تحول دون اتحادها مع تلك الأقطار في ميدان السياسة أيضاً؟
كلا أيها الأستاذ، إن التيارات القوية العميقة التي جرفت حياة مصر إلى اتجاهات جديدة منذ عشرات القرون، والتي أخرجتها من ديانتها القديمة وأنستها لغتها الأصلية - بالرغم من وجود الأهرام وقيام أبي الهول - سوف لا تحتاج إلى هدم شيء من آثارها القديمة، لتجرفها نحو السياسة التي يؤمن بها دعاة الوحدة العربية، ولا سيما أن هذه السياسة ليست إلا نتيجة طبيعية للغة مصر الحالية ووضعها العام.
إن دعاة الوحدة العربية لم يقولوا ولن يقولوا لمصر: (إنسي نفسك) بل يقولون وسيقولون لها: (استزيدي من ثروة نفسك) بالعمل على توحيد أبناء لغتك. (إنهم لم يقولوا ولن يقولوا لها: (اتبعينا)، بل يقولون وسيقولون لها: سيري إلى الأمام، ونحن نتبعك على الدوام.
سألتم خلال الحديث: (أتريدون أن تتحقق الوحدة العربية؟ فعلى أي أساس علمي تنادون بها؟) ثم قلتم: (تعالوا معي نستعرض الروابط التي تصل مصر بالأقطار العربية الأخرى) فاسمحوا لي أن أشترك معكم في الإستعراض، لاناقشكم في أهم المواقف التي وقفتموها خلاله:
لقد وقفتم أولاً أمام قضية (الأصل والدم) وقلتم: (إن الأكثرية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم العربي، بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء)
وأنا لا أود أن أتطرق - في هذا المقام - إلى مسألة أصل المصريين القدماء، ولا أن أبحث عن علاقتهم أو عدم علاقتهم بالساميين عامة وبالعرب خاصة. . . سأسلم - جدلاً - بما تقولونه في هذا الباب، مع هذا سأسألكم بدوري: هل علمتم بوجود أمة على الأرض انحدرت من أصل واحد تماماً؟ وهل تستطيعون أن تذكروا لي أمة واحدة ترتبط بروابط الدم فعلاً وحقيقة؟
إن جميع الأبحاث العلمية تدل على عكس ذلك تماماً. إنها تدل على أنه لا توجد على وجه البسيطة أمة خالصة الدم. . . حتى الأمة الفرنسية التي سبقت جميع الأمم الأوربية في طريق الوحدة والاستقرار، لا تدعي وحدة الأصل والدم. وعلماؤها يعترفون بأن الأجناس التي دخلت في تركيبها تعد بالعشرات، كما يعترفون مثلاً بأن أهالي جنوب فرنسا يختلفون عن سكان شمالها - من حيث الأصل والدم - اختلافا كبيراً. أيمكنكم أن تدعوا - والحالة هذه - أن عدم وحدة الأصل والدم، يجب أن يحول دون انضمام مصر إلى حركة الوحدة العربية؟
ثم وقفتم أمام مسألة التاريخ، وادعيتم أن (تاريخ مصر مستقل تمام الاستقلال عن تاريخ أي بلد آخر)
فاسمحوا لي أن أقول بأن هذا الادعاء افتئات صارخ على الحقائق الواقعة. . . فإن تاريخ مصر اختلط اختلاطاً عميقاً بتاريخ سائر البلاد العربية وتشابكت أوشاجه معها، خلال القرون الثلاث عشرة الأخيرة على الأقل. . . فكيف يحق لكم أن تحذفوا هذه القرون من تاريخ مصر؟. . . أنا لا أنكر أن تاريخ مصر لم يبق متصلاً بتاريخ سائر الأقطار العربية على الدوام، غير أنني أدعي أن ذلك شأن تواريخ الأمم الأخرى بدون استثناء. فإن تواريخ الأمم تشبه الأنهر الكبيرة التي تتكون من روافد عديدة بوجه عام
إن من يلقي نظرة عامة على تواريخ الأمم المعاصرة لنا كأن يستعرض تفاصيل تاريخ الأمة الفرنسية التي سبقت جميع الأمم في طريق الوحدة القومية - كما ذكرت آنفاً - يضطر إلى التسليم بأن العلاقات التاريخية التي تربط مصر بسائر الأقطار العربية، أقوى وأعمق وأطول من العلاقات التاريخية التي تربط الأقاليم الفرنسية بعضها ببعض. . .
وإذا أظهرتم شيئاً من الريب في هذا الباب فإنني مستعد لذكر التفاصيل والأسانيد التي تبرهن على صحة دعواي برهنة قطعية.
والآن انتقل معكم إلى آخر المواقف التي وقفتموها خلال استعراض الصلات. . . لقد أنكرتم (تأثير اللغة) في تكوين (الوحدة العربية) وقلتم: (لا تنخدعوا، لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت بلجيكا وسويسرا، ولا أمريكا ولا البرازيل ولا البرتغال. . .)
فاسمحوا لي أن أناقشكم في هذا الموضوع المهم مناقشة طويلة:
لو كنتم أقدمتم أيها الأستاذ على كتابة بحث مثل هذا البحث للبرهنة على نظرية مثل هذه النظرية - قبل ربع قرن - لاستطعتم أن تضيفوا إلى هذه الأمثلة مثالين آخرين. . . لقلتم عندئذ: (لا تنخدعوا، لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت الإمبراطورية النمسوية، ولا السلطنة العثمانية. . .)
ولو كنتم ممن عاشوا وكتبوا قبل ذلك بنصف قرن. . . لاستطعتم أن تضيفوا إلى أمثلتكم عشرات الأمثلة الأخرى، ولأرخيتم العنان لقلمكم الجواب لينتقل من جنوب إيطاليا إلى شمال ألمانيا. . ولقلتم: (لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم. . . لما كانت ساردونيا وساكسونيا، ولا بيه ده مونته وباديرا. . .)
غير أن تقلبات الزمان، أزالت من عالم الوجود جميع تلك الأمثلة والشواهد الكثيرة، وحرمت النظرية التي تقولون بها إمكان الاستناد إليها، فحصرت الأمثلة في الأسماء التي ذكرتموها. . . أفلا ترون إليها الأستاذ إن هذه الملاحظة وحدها كافية للبرهنة على أن مثل هذه البراهين لا تخلو من مزالق كثيرة، فلا يجوز الاعتماد عليها في حل القضايا الاجتماعية؟.
أفتلومونني إذا قلت إن هذه المحاكمة لا تخلو من الشبه بمحاكمة من يقول: (لو كان لجاذبية الأرض وزن في تقرير مواضع الأجساد لما بقيت القناديل معلقة في السقوف، ولما صعدت الأدخنة إلى السماء، ولما طارت الطيور وارتفعت المناطيد.)
اسمحوا لي أن استعرض الظروف الخاصة التي تلازم كل واحد من الأمثلة التي ذكرتموها، لكي أبرهن على صحة تشبيهي هذا.
إن أول الأمثلة التي ذكرتموها للتدليل على عدم (وزن اللغة في تقرير مصير الأمم) هو وجود بلجيكا. وهل فاتكم أن بلجيكا ليست متجانسة من حيث اللغة، بل هي من المناطق التي تتلاقى وتتشابك فيها اللغات؟ ولا شك في أنكم تعلمون أن النصف من سكانها يتكلم الفرنسية، في حين أن النصف الآخر منها يتكلم الفلامندية. . . فاتحاد كل فريق من هؤلاء مع سائر أبناء لغتهم يتوقف على (تجزئة وتقسيم بلجيكا) في حين إن ذلك يصطدم بمشاكل عظيمة وموانع جسيمة من الوجهة الجغرافية والاقتصادية والسياسية.)
أولاً - إن حدود الألسن في بلجيكا لا تخلو من تشابك وتعقيد؛ فعاصمتها بروكسل - مثلاً - تقع في منطقة فلامندية مع أنها من أهم المراكز الفرنسية، يتكلم سكانها اللغة الفرنسية في حين إن سكان القرى والقصبات المحيطة بها يتكلمون الفلامندية؛ ولا شك في أن هذا التشابك يجعل أمر تجزئة هذه المملكة من المشاكل العويصة من الوجهة المادية والجغرافية.
ثانياً - إن حدود المناطق اللغوية في بلجيكا لا تتفق مع حدود المناطق الاقتصادية، مما يجعل أمر التقسيم عسيراً جداً من الوجهة الاقتصادية أيضاً. . .
ثالثاً - تشغل بلجيكا موقعاً هاماً بين ثلاث من اعظم الدول الأوربية وهي ألمانيا وفرنسا وإنكلترا، ولا حاجة لإيضاح أن تعارض منافع هذه الدول المنظمة الثلاث (جعل أمر) إبقاء المملكة البلجيكية على حالتها وعلى حيادها (من لوازم التوازن الدولي العام، ومن مستلزمات (السياسة العالية الهامة، فكيف يجوز لكم أن تعتبروا (وجود بلجيكا) دليلاً على عدم (وزن اللغة) في تقرير مصير الأمم؟ أفلم أكن محقاً فيما قلت: - إن ذلك يشبه اعتبار توازن بعض الأجسام دليلاً على عدم تأثير الجاذبية الأرضية عليها؟. . .
هذا، ومن جهة أخرى أود أن أسألكم: هل من وجه لتشبيه قضية (بلجيكا والأمم المجاورة لها) بقضية مصر والبلاد العربية المتصلة بها؟ وهل من مجال لاعتبار مصر أو الأقطار العربية المتصلة بها من مناطق تشابك اللغات وتعقدها؟ وهل يتوقف اتحاد مصر مع سائر الأقطار العربية على تجزئتها أو تجزئة غيرها؟
ترون أيها الأستاذ أنه لا يوجد في مثال بلجيكا ما يؤيد دعواكم بوجه من الوجوه.
أما قيمة المثال الثاني الذي ذكرتموه، فلا تختلف عن ذلك كثيراً: فإن سويسرا أيضاً من مناطق تلاقي وتشابك اللغات، تتلاقى فيها اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية، كما تتلاقى فيه أهم سلاسل الجبال الأوربية. . . فلا يجوز اتخاذها دليلاً على عدم وزن اللغة في تقرير مصير الأمم بوجه من الوجوه. .
وأما المثال الثالث الذي ذكرتموه، فهو أيضاً لا يؤيد دعواكم في هذا الباب: أنا لا أرى لزوماً - في هذا المقام - إلى شرح خصائص أمريكا، ولا إلى البحث في قضية العناصر بها. . . بل سأكتفي بالإشارة إلى عظمة المحيط الاطلنتيكي الذي يفصلها عن القارة الأوربية. . . واعتقد أن هذه الإشارة وحدها تكفي للبرهنة على أن قضيتها لا تشبه قضية البلاد العربية بوجه من الوجوه. . . فإن الأقطار العربية متصل بعضها ببعض اتصالاً جغرافياً تاماً. . . والقطر المصري يشغل بين هذه الأقطار مركزاً هاماً. وأما الحدود التي تفصلها عن سائر الأقطار العربية، فتنحصر - في بعض الجهات - بخطوط وهمية تمتد فوق رمال الصحراء. . . فهل تعتقدون أن هذه الخطوط الوهمية التي تفصل مصر عن سائر الأقطار العربية بصورة اعتبارية واصطناعية، تستطيع أن تعمل عملاً مماثلاً لعمل المحيط الذي يفصل أمريكا من أوربا بصورة حقيقية وطبيعية؟. . .
بعد أن شرحتم، أيها الأستاذ، وجهة نظركم في الوحدة العربية، رأيتم أن تقدموا نصيحة إلى محدثيكم الشبان، فقلتم:
إن كان لي نصيحة أسديها إليكم فأن تتمسكوا بالواقع العلمي وتهملوا سواه، مهما كانت قوته العاطفية والخيالية. افهموا أن المنفعة تسير الشعوب. فإن لم تفهموا هذا اليوم فسترغمون على فهمه غداً. . .
أنا أضم صوتي إلى صوتكم في هذه النصيحة، من حيث الأساس؛ غير أنني أنكر عليكم النتائج التي وددتم أن تصلوا إليها تحت حماية هذه النصيحة. . .
تقولون إن المنفعة تسيّر الشعوب؛ فهل تعتقدون أن (اتحاد الأقطار العربية) مخالف لمنافعها أو خال منها؟ وهل تدعون أن منافع كل واحد من الأقطار العربية ستحول دون اتحادها؟
أما أنا فأعتقد عكس ذلك تماماً. أعتقد أن فكرة الوحدة العربية لا تستند إلى العاطفة وحدها، بل تستند إلى المنفعة أيضاً. أعتقد أن منفعة مصر نفسها تتطلب منها الاتحاد مع سائر البلاد العربية، كما اعتقد أن منفعة مصر في هذه القضية ليست من المنافع البسيطة الطفيفة، بل هي من المنافع الهامة الحيوية. . وإذا كان الذين يقدرون أهمية هذه المنافع لا يزالون قليلين اليوم، فلا شك في أنهم سيكثرون يوماً بعد يوم.
وعلى كل حال أؤكد لكم أنني من الذين يؤمنون بالوحدة العربية ويدعون إليها، لا بتأثير العواطف فحسب، بل بملاحظة المنافع أيضاً. . ولهذا السبب عندما قرأت قولكم: (إن المنفعة تسيّر الشعوب) قلت في نفسي حالاً: (وهذه المنفعة هي التي ستسيّر المصريين نحو الوحدة العربية، عاجلاً أو آجلاً)
هذا، وأرى ألا أختم اعتراضاتي دون أن أتوجه إليكم بكلمة شكر، فإني أشكركم من صميم فؤادي على مناداتكم بتوحيد الثقافة بين البلاد العربية، لأنني أعتقد أن توحيد الثقافة من أهم العوامل التي تهيئ سائر أنواع التوحيد. . . فأقول بلا تردد: اضمنوا لي وحدة الثقافة، وأنا أضمن لكم كل ما بقي من ضروب الوحدة.
(بغداد)
أبو خلدون ساطع الحصري