مجلة الرسالة/العدد 287/الرسالة في عامها السابع

مجلة الرسالة/العدد 287/الرسالة في عامها السابع

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 01 - 1939


بلغت الرسالة - والحمد لله على تأييده وتسديده - سنتها السابعة. والسبعة في عقيدة الشرقيين عدد يدل على الكمال واليمن والكثرة. وله في الفلك والرياضة والأساطير والدين مزايا وخواص. وهو في عمر الإنسان سن التمييز وأول الفتوة. فإذا بدت على الرسالة اليوم مظاهر النشاط ودلائل الاغتباط ومصاديق التجدد، كان ذلك جارياً على سنن الطبيعة. فان الحي ينمو، والنامي يتطوّر، والمتطوِّر يخضع لضرورة الوجود وحاجة الموجود، فلا يكون إلا ما ترضاه الحياة وتريده الخليقة. والرسالة وليدة الفكر المستقل في نهضتنا الحديثة؛ تخلَّقت من أمشاجه، وتغذت على إنتاجه، ورقَتْ على أسباب رقيه. فلو أنها كانت للعامة لقتلها مللها، أو كانت للسياسة لأصابها فشلها؛ ولكنها كانت للفكرة الحرة التي تَرُود ثم تقود ثم تهيمن؛ فإن شئت قلت هي الروحية في هيكل الوطن، وإن شئت قلت هي الإنسانية في معنى الأمة.

من أجل ذلك عاشت الرسالة. ولكنها تعيش كما يعيش الجِد، وتمشي كما يمشي الحق. والجد يعيش متزايلاً ولكنه ينال؛ والحق يمشي متثاقلاً ولكنه يصل.

لقد أصبحت الرسالة بفضل ما مكن الله لها في النفوس القريبة والبعيدة

عنواناً من عناوين المجد القومي الخالد، وفصلاً من فصول الأدب

العربي الحديث. فإذا وجدت على جنبات النيل مصر العاملة المدبرة،

وجدت على صفحات الرسالة مصر الشاعرة المفكرة. وشتان بين يد

تعمل في التراب، وفكر يجول مع السحاب، فيومض في كل نفس،

ويمطر في كل بلد! وإذا فني أثر اليد مع الإنسان، بقي أثر الروح

سرمداً مع الله. فمن ذا الذي يستكثر على الرسالة منا أن نُسهر لها

العيون حتى تَعشى، ونُرهف لها العزم حتى يكل، ونحبس عليها القلب

حتى يقف؟؟ أليست هي كما ذكرنا وكررنا ديوان العرب المشترك،

جَمعت فيه الأشتات إلى الأشتات، ووفَّقت بين الأصوات والأصوات، ث ألفَّت من هذه الآلات المنفردة جوقة موسيقية متحدة تسكب في مسامع

الوجود أناشيد الخلود؟

يتساءل الذين اكتنهوا حرفة الأدب وكابدوا بلاء النفس فيها: كيف تسنى للرسالة أن تعيش على خفض الاشتراك ونقص المورد من الإعلان؟ ونحن نقول عن عقيدة وخبرة: إن وفرة المال لا تضمن النجاح، كما أن كثرة الجيوش لا تكفل النصر. إنما القوة الروحية هي المدد الإلهي الذي يهبه الله للمجاهدين متى شاء أن تدول دولة، أو تعلو كلمة، أو تبلغ رسالة. وتبليغ الرسالة جهاد. والمجاهد عتاده الإيمان وزاده الصبر؛ ومن وجد في العمل منجاه من الهم وملاذه من الناس فقد وجد الثواب عليه فيه.

على أن الرسالة مع ذلك شيدت داراً وأنشأت مطبعة. وهي ترجو في عامها الجديد أن يظاهر الله عليها المعونة حتى تقوم بإنجاز ما وعدت من توسيع الخطو وتنويع العرض وتوفير العُدة

نعم وعدت الرسالة! وكان من طبعها ألا تمالق الرغبات بالتمنية، وألا تستميل الشهوات بالوعد؛ كما كان من عقيدتها أن العمل الصامت أنطق الأدلة على توخي الحق، والماضي الواضح أضمن الوثائق للمستقبل المبهم؛ ولكنها في ميعة النشاط ونشوة الأمل تطيع سورة الشباب، فتطمح إلى الكمال مغضية عن العجز، وتثب إلى الغاية مستخفة بالعوائق. وما وعْدُها اليوم إلا فيض من الرجاء طفح مما تسر على ما (تعلن)!

شكونا من الحكومة أنها تهمل الأدب، وعتبنا على القراء أنهم يعزفون عن الجد، فما نفعت الشكوى ولا أجدى العتاب. ذلك لأن الحال التي نحن عليها اليوم من اضطراب الحكم بين رغبات الأمة وحملات المعارضة، وتوزِّع الرأي المثقف بين الأهواء المتعارضة في السياسة، لا تزال تبعدنا عن حياة الأمن والاستقرار التي تعود إلى الناس فيها لذة التفكير وشهوة القراءة. فليس لنا من سبيل إلا أن نؤدي واجبنا ونسكت، أو نقول كلمتنا على رأي المسيح ونمضي. والأديب مكتوب عليه أن يجاهد ويضحي، لا يستمد العون إلا من ربه، ولا يلتمس العزاء إلا من قلبه، ولا يبتغي الثواب إلا من سلطان ضميره.

وقد ظهر في العالم الأدبي مع هذا العام الجديد مجلتان محترمتان هما (العصور) و (الثقافة)، وسيكون لصوتهما مع صوت الرسالة دوي شديد يفتح العيون الوسْنى على الصحائف المكتوبة بعصارة الأذهان ومهج القلوب، فيهتز الأدب الذاوي، وتنشط العقول الفاترة.

اللهم إن كنا أسرفنا في الرجاء فذلك لحسن الظن بك وقوة الأمل فيك؛ فهب لنا من لدنك ولياً يكفكف نزوات النفس، ونصيراً يكفينا عوادي القدر، ومرشداً يجنبنا مزالق الرأي، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى الناس.

أحمد حسن الزيات