مجلة الرسالة/العدد 288/من رحلة الحجاز
مجلة الرسالة/العدد 288/من رحلة الحجاز
حديث الحج في المدينة المنورة
للدكتور عبد الوهاب عزام
فصلنا من جُدَّة مغرب الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، متوجهين تلقاء المدينة، وهي مسافة تقطعها قوافل الإبل في 14 يوماً. وبعد مسير سبع ساعات في طريق سهلة على مقربة من البحر بلغنا رابغاً. وهي قرية ذات نخل على مسير ساعة من البحر للراجل، تجتمع فيها طرق بين جدة ومكة والمدينة، وإذا حاذاها الحجاج القادمون من الشمال في البحر الأحمر أحرموا للحج، وليست هي ميقات للإحرام ولكن الميقات الجحفة على عشرة أميال إلى الجنوب منها
واستأنفنا المسير ضحى الخميس آملين أن نبلغ طيبة عشية اليوم ولكن الرمال عوّقت بعض السيارات فبتنا في أبيار بن حصان. ثم غدونا سائرين ونزلنا بالمسيجيد بعد ثلاث ساعات. واستأنفنا السير حتى العصر فلاح لنا النخل أخضر يانعاً يبشر باقتراب الغاية؛ ونزلنا آبار علي وهي ذو الحليفة ميقات أهل المدينة. ومنه أحرم النبي ﷺ لحجة الوداع. ثم سرنا فلاحت لنا بعد قليل المدينة المنورة تتوجها القبة الخضراء، كأنما تباهي على صغرها السماء. . . أهذه نضرة الإيمان في هذه البقعة، أم ازدهار الآمال في هذه الساحة؛ أم كما قال عاكف بك: واحة نزلت من السماء لتأوي إليها الأرواح المتحرقة في البيداء؟
ودخلنا المدينة من الباب الشاميّ حيث محطة سكة الحديد الحجازية. وحططنا رحالنا في المدرسة السعودية وقد أعدّت لنزولنا. ثم سارعنا نتأهب للموقف الجليل، للساعة التي تعرج فيها الروح من الأرض إلى السماء. ذلكم المسجد النبوي في بهجة النور والإيمان، يدوّي بالمصلين والداعين والقارئين؛ ولكن الواقف إزاء الحجرة النبوية لا يرى من هذا الجمع أحداً ولا يحس من هذا الدويّ همساً. لا يرى إلا هذا الجلال ولا يسمع إلا هذا الوحي. وإنما هي وقفة يمّحي فيها الزمان والمكان فيتصل الأزل بالأبد والسماء بالأرض
يا لك بقعة صغيرة لا يدرك العقل مداها، ولا يبلغ الفكر منتهاها! يا لك حجرة يظل الفكر مسافراً في أرجائها، محلِّقاً في أجوائها، فيتطوّف في أرجاء التاريخ، ويحلق في أقط السماء والأرض؛ وكأنما طوى الزمان، وزُويت الأرض، واجتمعت الإنسانية، وحشر البرّ والحق وكل خلق طيب في هذا الضريح. يا لك بقعة كالكوكب المضيء تناله الأعين في لمحة وتحيط أشعته بالعوالم العظيمة! يا لك بقعة كمنبع النهر العظيم، متدفق بالحياة فياض بالبركة مدّاد بالخير يحيي الأجيال بعد الأجيال.
يا حيرة الوصف، وعجمة البيان! أهي عنوان كتاب انطوى على الحق والصدق، والخير والبرّ، والإحسان والمرحمة، يقرؤه القارئ جملة ثم لا يزال تروعه منه الصفحة بعد الصفحة؟ أم هي تاريخ لا يزال الدهر يكتب صفحاته وإنما أوله وحي الله وآخره غيب الله؟
أترى هؤلاء المصلين لا يفترون، وهؤلاء المرتلين القرآن لا يصمتون، وهؤلاء الداعين لا ينقطعون، أتسمع هذا الآذان وهذا السلام وما يحدث به المسلم أخاه، وما يفضي به في علانيته ونجواه؟ ليس فيما ترى إلا أناسيّ هداهم محمد، وأفعال علّمها محمد، وكلمات أملاها محمد، بل كل صوت يرتفع إلى الله في أقطار الإسلام، وكل عبارة في وضح النهار أو جنح الظلام، وكل لسان يدعو إلى الخير وكل يد تمتد بالبر، وكل كلمة حق ودعوة صدق، وكل نية محمودة وسعي مشكور، فهنا منبعه، ومن هذه البقعة وحيه؛ بل كل نزعة في المسلمين إلى سؤدد، وكل طموح إلى علاء وكل سلطان فيهم قائم بالحق، وكل شرع نافذ بالعدل، وكل دعوة إلى حرية وثورة على ظلم، وانتصار للحق، وتمرد على الباطل - كل أولئك شعاع من هذا النور، أو قطرة من هذا الينبوع
ولست تتمثل هنا مجداً ولا سلطاناً ولا سؤدداً ولا علواً إلا تمثلته تواضعاً للحق، وبراً بالخلق، ورأيته سؤدد المساكين وسلطان المستضعفين. السلطان الذي يجمع الناس على شريعة من العدل والمرحمة والمودة والسلام.
موقف يتضاءل في جلاله كل جلال، ويصفو في جماله كل جمال. لمحات تطهر فيها النفس من أرجاسها، وتبرأ من أهوائها، وتسمو على شهواتها، وتخلص من أغلالها، فتستمد الخير والحق والعلاء والتقوى والحب والسلام وتَسَع السماء والأرض وكأنما تخلق خلقاً جديداً وتفتح في أعمالها صفحات جديدة. خسر من لم يطهره هذا الموقف، وخاب من لم ترفع نفسه هذه الساعة. هنا النفس المطهرة. هنا محمد بن عبد الله. هنا رسول الله. هنا خاتم النبيين. ثم هنا اثنان من صحبه وخلفائه: أبو بكر وعمر.
المسجد النبوي في شكله الحاضر بناه السلطان عبد المجيد العثماني، استغرقت عمارته 12 سنة بين سنة 1265 وسنة 1277 ولم تُبق من الأبنية القديمة إلا قليلاً؛ وهو جميل المنظر حسن الهندسة في سقفه قباب صغيرة منيرة مزينة تحملها عمد متقاربة صبغت لوناً أحمر وزينت بالتذهيب.
كان المسجد حين بناه الرسول سبعين ذراعاً في ستين وجدرانه من اللبن وسقفه من الجريد وعمده جذوع النخل، ثم وسّعه الرسول فجعله مائة ذراع في مثلها ثم توالى التوسيع والتعمير في أيام الخلفاء الراشدين فمن بعدهم حتى انتهى إلى شكله الحاضر. ولكن حدود المسجد القديمة معّلمة بالعمد كما حددت الروضة النبوية بين القبر والمنبر.
ولا ينظر الإنسان نظرة في هذا المسجد المبارك إلا وقعت على ذكرى كريمة من رسول الله وأصحابه. فهناك سارية عائشة، وسارية أبي لبابة الصحابي التي ربط نفسه بها، وآلى ألا يبرح حتى يتوب الله عليه، وخوخة أبي بكر.
وحول المسجد مواقع الدور التاريخية: دار أبي بكر، ودار عثمان وغيرهما.
وفي المدينة مشاهد كثيرة عظيمة لا يتسع المقام لتعدادها. وحسبي أن أذكر ما شهدت في يوم واحد يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من ذي الحجة: خرجنا إلى جبل أحد وهو شمالي المدينة قريب منها فمررنا بجبل سلع وسرنا حتى شهدنا مكان موقعة أحد ورأينا قبر حمزة أسد الله رابضاً في العراء وعلى مقربة منه جدار يحيط بمدفن شهداء أحد رضي الله عنهم.
وفي اليوم نفسه توجهنا شطر الجنوب إلى مسجد قُباء وهو أول مسجد أسس في الإسلام بناه الرسول ﷺ حينما هاجر من مكة فنزل في قباء على مقربة من المدينة في بني عمرو ابن عوف. وهو المسجد الذي ذكر في القرآن: (لمسجد أسّس على التقوى من أول يوم أحقُّ أن تقوم فيه. فيه رجال يحبّون أن يتطهروا. والله يحب المتطهرين) والمسجد كما يرى اليوم حسن المنظر عالي الجدران تتجلى فيه البساطة والنظافة وقد توالى عليه التعمير حتى انتهى إلى بنائه الحاضر. وفي صحن المسجد مكان يقال إنه مبرك ناقة الرسول صلوات الله عليه، وقد قرأت عليه بيتين باللغة التركية
وعلى مقربة من المسجد بئر أريس. وهي بئر عميقة ماؤها عذب غزير صاف وهي التي سقط فيها خاتم النبي من يد عثمان بن عفان أيام خلافته. ويستخرج الماء منها ومن آبار المدينة كلها بالسواني. ترى بكرات على البئر معلقة بها غروب كبيرة وتجر حبالها الدواب من الإبل أو البقر أو الحمير. وقد تجتمع الثلاثة معاً، تسير الدابة نحو البئر فيتدلى الغرب حتى يمتلئ ثم ترجع البئر حتى يرتفع الغرب. فإذا علا الحوض جذبته الحبال فينصب ماؤه في الحوض، فمسير الدابة أو السانية في طريق مستقيمة ذهاباً وجيئة.
والمدينة جيدة الهواء في الصيف معتدلة في الشتاء، وأرضها خصبة وآبارها غزيرة وبساتينها كثيرة، وفيها النخل والكرم والرمان والبرتقال والخوخ والموز والبطيخ وفواكه أخرى. وثمرها جيد جداً وأصنافه لا تعد.
ولكن الأرض في وقتنا هذا ليست مستغلة كل الاستغلال، ولا تفي بحاجات أهلها، ويعيش كثير منهم على التجارة، ويعوِّل فقراؤهم على جدوى المسلمين
ويظهر على دور المدينة وساحاتها الفقر. وفي ذمة المسلمين أن يبروا جيران رسول الله وأن يعمروا دار رسول الله. عليهم أن يغدقوا الخيرات، ويمدوا أيديهم للأعمال الدائمة المنظمة من بناء المستشفيات والملاجئ والمصانع والمدارس. وظني إذا استثمرت أموال المسلمين في أرض المدينة وغلاتها، زادت خيراتها أضعافاً مضاعفة ووفت بحاجات سكانها أو كادت.
إن الحرم المدني والمدينة كلها أهلها ودورها ومساجدها وطرقها وساحاتها، كل أولئك يدعو المسلمين إلى التعاون على الخير والاجتماع على العمل الصالح الذي يجعل طيبة بلداً معموراً آهلاً، منسّق الدور والطرق، ميسّر الطعام والشراب، موفور وسائل الصحة والعمل الصالح الذي يجعلها مباءة علم يؤمها بعض الطلاب من أرجاء الأقطار الإسلامية لتؤلف بينهم الثقافة الإسلامية المشتركة، أو تحفزهم إلى خير الإسلام والمسلمين الآراء المتداولة، ويدرسوا تاريخ الإسلام في مواقعه. وليت المدينة تصير مقصد المسلمين من أقطار الأرض يفرون إليها في الحين بعد الحين ليجدوا سلام أنفسهم وطمأنينة قلوبهم وصحة أبدانهم، فيذهب إليها أغنياؤهم وأمراؤهم كلما ملكوا الفرصة للاستراحة قليلاً من ضوضاء الحياة ومفاسدها
لن يبر المسلمون دينهم ورسولهم وأنفسهم حتى تسخو أيديهم بالمال وتجتمع عقولهم وأعمالهم على الإصلاح. والله يهيئ لهم من أمرهم رشداً ويديهم للتي هي أقوم.
عبد الوهاب عزام