مجلة الرسالة/العدد 289/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 289/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 01 - 1939



محمد شريف باشا

للأستاذ محمود الخفيف

كان شريف في عصره رجلاً اجتمعت فيه الرجال وكانت

مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال. . .

- 1 -

تحت هذا العنوان نضع أسم شريف، وفي هذا المجال نأتي بقبس من سيرته؛ ومن أولى من شريف أن يتبوأ بين الأبطال مكاناً عليَّا، إذ نحن ذكرنا رجال حركتنا القومية؟

ولئن كانت جهود شريف لم يفد منها غير وطنه، ولئن لم يدو اسمه في آفاق العالم كما دوت أسماء غيره من الأبطال، فكثير سواه كانوا في ذلك مثله، خطورتهم في أوطانهم فحسب، ومع ذلك فلم ينكر عليهم بطولتهم إلا ظالم أو ذو غرض. . . وما البطولة في جوهرها إلا أن يسمو الرجل على الحوادث ويقهرها إن غالبته، وأن يسخرها ويوجهها إن سالمته، فإن لم يتسن له هذا ولا ذاك كان في كفاحه ومقاومته وتعاليه عن أن يذل أو يذعن دليل رجولته ومقياس بطولته. وما كانت الشهرة من دلائل العظمة أو من بواعثها؛ فلكم تشهد الحياة من رجال يحسبهم الغافل من أوزاع الناس وإن لهم لنفوساً تنطوي على عناصر البطولة كأكمل ما تكون البطولة. . .

ولقد كان شريف عظيماً بنفسه قبل أن يكون عظيماً بمنصبه. كان رجلاً في عصر عزت فيه الرجولة وتطامنت فيه أقدار الرجال إما من شر يتقونه أو خير يرجونه. . . ولذا يعتبر شريف بحق خالق جيل وباعث نهضة، فهو في عصره كان الرجل الذي اجتمعت فيه الرجال، وكانت مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال. . .

وكان شريف تركي العنصر ما في ذلك شك، ولكنه لم يعرف له وطناً غير مصر ولا قوماً غير بني مصر. ولما بلغ أشده كان من رجال هذا الوادي في طليعة العاملين منهم والمجاهدين؛ يتلفت الرجال إذا حز بهم أمر أو أخذتهم حيرة فلا تستقر أعينهم إلا على شريف ولن يتقدم لنصرتهم في مواطن الخطر والشدة غ تم الأمر في مصر لمحمد علي، ذلك العصامي الفذ، وأثخنت جنوده في صحارى العرب وفي مطارح السودان، وتهيأت مصر لأن تستقبل على يد هذا البطل عصرً من عصور يقظتها كان الجيش فيه المحور الذي تدور عليه نهضتها. وفي صدر هذا العصر الفتي ولد محمد شريف، فكان مولده بالقاهرة في شهر نوفمبر من سنة 1826

وحمله أبوه، وقد انقضت مدة خدمته بمصر معه إلى الآستانة. وكان هذا الأب في مصر قاضي قضاتها، ولكنه لم يلبث في الآستانة إلا بضع سنين ثم اختير للحجاز، فمر بمصر ومعه ابنه؛ ووقعت عينا واليها على الغلام، وكانت عينا الوالي تلمحان النجابة في سرعة عجيبة، ولذلك طلب إلى أبيه أن يبقيه عنده ليقوم على تربيته. وكان محمد علي ويومئذ في ذروة مجده تهدد جيوشه عرش الخلافة وتحمل على الإعجاب به فرنسا، وعلى الحنق عليه إنجلترا؛ وكان همه منصرفاً إلى الجيش، فإذا بنى الرجال وأعدهم، فإنما يكون ذلك ليتخذ منهم دعائم جيشه

وبقي الغلام في القاهرة وأدخل المدرسة العسكرية التي أنشأها الوالي بالخانكة، فيمن أدخل من أبناء الأمراء ووجوه القوم؛ ومن ذلك الحين صارت مصر وطن شريف الذي لا يعرف له وطناً سواه

وهكذا نشأ شريف نشأة عسكرية؛ ولكن جيش مصر ما فتئت إنجلترا تعمل على القضاء عليه حتى تم لها ما أرادت، ولما يزل شريف في سن اليفاعة؛ واستطاع بالمرستون أكبر الكائدين لمحمد علي أن يرغم الباشا عام 1841 على (أن ينكمش في قوقعته الأصلية في مصر). وجاء في فرمان السلطان في تلك السنة للباشا المغلوب على أمره أنه (يكفي أن يكون لمصر ثمانية عشر ألف نفر من الجند للمحافظة في داخلية مصر ولا يجوز أن تتعدوا هذا العدد لأي سبب ما. . .) وأذعن الباشا ولم تغنه صلته بفرنسا ومظاهرتها إياه؛ فما كانت إنجلترا لتسمح بظهور مثل قوته في مصر وهي التي جعلت أساس سياستها منذ الحملة الفرنسية ألا يقوم في وادي النيل نابليون آخر

وكان الأجدر بالشباب بعد هذا أن يتجهوا وجهة غير وجهتهم العسكرية. لقد أوفدت الحكومة فريقاً منهم إلى فرنسا في عام 1844، وكان من هذا الفريق محمد شريف، فاختار أن يدخل مدرسة سان سير الحربية كانت هذه المدرسة التي التحق بها شريف من أشهر المدارس يومئذ؛ وإن في اختياره المدرسة الحربية في تلك الظروف لدليلاً على أن الجندية كانت توائم طبعه، ففي الجندية الصحيحة حياة الإقدام والهمة والنظام والطاعة، وتلك صفات امتاز بها شريف رجل السياسة فيما ظهر من أعماله بعد

قضى شريف في تلك المدرسة عامين تجلى فيهما ذكاؤه وطموحه، ثم انتقل بعد ذلك إلى مدرسة تطبيق العلوم العسكرية، فلبث بها عامين آخرين انتظم بعدهما في سلك الجيش الفرنسي كما تقضي قوانين تلك المدرسة ليأخذ قسطه من المران العملي؛ ثم تخرج شريف ونال رتبة يوزباشي أركان حرب في ذلك الجيش

ولم تله شريفاً شؤون فنه عن غيره من الفنون، فراح يقرأ التاريخ والسياسة، ولا يفتأ يستزيد من المعرفة، مستعيناً في ذلك ببصيرة نيرة كانت من أظهر مواهبه، وعزيمة صادقة كانت في مقدمة خلاله؛ وأتقن شريف الفرنسية وحذقها حتى لقد كان يعجل بها لسانه كأنه أحد أبنائها، كما درس شريف طباع الفرنسيين ووعى قلبه ظرفهم وأناقتهم، حتى صار بينهم وهو ذلك الفتى الشرقي وكأنه منهم، ولذلك لقب (بالفرنساوي) وصار يجري لقبه هذا على ألسنة معاصريه. . وليس معنى ذلك أن شريفاً قد جعل بينه وبين قومه سداً بما تعود من عادات الفرنسيين، فما كان مثله بالمتكلف، ولقد كان له من أصالته واعتداده بنفسه ما يربأ به عن ذلك العيب، وإلا فكيف أصبح حين عاد إلى وطنه أشد الرجال مقاومة للنفوذ الأجنبي؟

وولي أمر مصر عباس باشا الأول فأعاد أعضاء البعثات العلمية من الخارج، فعاد شريف فيمن عادوا عام 1849م. ولقد نستطيع أن نتصور ما تركته حال مصر يومئذ من أثر في نفس هذا الفتى الطموح، فلقد تعلم وتأهب ليعود فيجد المدارس تغلق أبوابها، والجيش يهلك عنه سلطانه بعد أن انهدت أركانه؛ ويجد مصر وقد ذلت بعد عزة، يبدو عليها مثل ما يبدو على ذوي القوة والبأس وقد جرد من حسامه، وعاهلها ناقم على العصر ومظاهر العصر ونافر من الأجانب وما يأتون به مما كان يعده من أنواع الغرور والبهتان

ضاقت مصر عن همة شريف وعن علم شريف ولكن أين يذهب وليس له غير مصر؟ وإذاً فليرض بأن يأخذ في الجيش المصري نفس الرتبة التي أخذها في الجيش الفرنسي فليس من هذا الرضاء بد. ولئن كان جيش مصر لا يعمل فربما أتت الأيام بما ليس يجري في بال أحد، فينصرف شريف من ميدان إلى ميدان إلا يكن فيه قتال فليس يخلو من نضال. . .

وفي مصر اتصل شريف بسليمان باشا الفرنساوي، وأعجب به القائد الكبير وأخلص له الود والمحبة. . . ألا ليت هذا اللقاء كان أيام نصيبين وكوتاهية، وإذاً لرأى التاريخ ماذا كان عسيا أن يأتيه شريف الجندي في ميادين البطولة والتضحية، ولكنه كان في تلك الأيام لا يزال طالباً يتطلع ويأمل

ولن يزال سليمان يوليه من عطفه وتأييده، ثم يلحقه بحاشيته الحربية في منصب (الياوران)؛ ويظل هذا عمله فلا يخوض معركة ولا يرسم خطة؛ وعباس في شغل عن الجيش لأنه في غنى عنه، ولكنه يضيق بما هو فيه ولا يطيق صبراً على إغفال عباس له وإن لم يقصد عباس هذا الإغفال، فيعتزل الجندية التي لم يكن له منها غير اسمها، ويكون هذا الاعتزال من جانب شريف أولى خطواته في الدفاع عن كرامته، ولسوف تكون له بعدها خطوات لن يخطوها إلا ذو عزة وذو نخوة. . .

ويلتحق شريف بدائرة الأمير عبد الحليم ردحاً من الزمن يشرف على أعمالها بما اشتهر به من فطنة وبعد همة. ولقد كان الأمير وهو نجل محمد علي من أقرانه في البعثة، فألان له جانبه وزاد في إكرامه وإعزازه. . . وشريف يقبل حياة الدعة على رغمه، ففي طبعه ميل إلى النضال والكفاح، وفي خلقه اعتداد يشبه الزهو، بل لقد كان يبلغ به الذهاب بنفسه أحياناً حد الصلف، وتلك خلة لا يسعنا إلا أن نعدها على شريف مهما تكن بواعثها

وأخذ سعيد الولاية بعد موت عباس، وكان لسعيد ولع بالجيش، وإن لم تكن به حاجة إليه، وحمله حبه للجيش على أن يشهد تدريبه بنفسه ثم بسط له يده كل البسط، فألبسه أحسن اللباس وأطعمه أجود الطعام، ومد له أسباب الترف والنعيم، حتى لقد كانت تقاس كفاية ذلك الجيش عنده بحسن مظهره ووجاهة رجاله. . . وكان شريف وجيه الطلعة جم الأناقة فضلاً عما كان يتحلى به من صفات الجندية؛ لذلك جعله سعيد من المقربين، ورقاه إلى رتبة (أميرألاي)، ثم ما لبث أن رفعه إلى رتبة (لواء) ووضعه على رأس الحرس الخصوصي؛ وهكذا يعود شريف إلى الحياة العسكرية وإن جاز لنا أن نسمي حياة كهذه حياة عسكرية. .

وازدادت عرى المودة توثقاً بينه وبين سليمان باشا فزوجه من ابنته، وفرح شريف بما ساقه القدر إليه من حظ عظيم، وكان اسمه قد أخذ ينتشر بين معاصريه من البعداء عن الحاشية ووجوه القوم، وعرف الناس يومئذ عن النزاهة والاستقامة، وأعجب من تسنى لهم رؤيته بما كان يبعثه مرآه في القلوب من هيبة وبما كان يشيعه في النفوس من حب. . . والحق لقد كان شريف على جانب عظيم من قوة الشخصية، شهد له بذلك الأجانب والوطنيون على السواء

وبدا لسعيد فمال به من الجندية إلى السياسة بعد أن وصل في الجندية إلى رتبة الفريق، وكان هذا التحول بدء مرحلة جديدة في تاريخ حياته، مرحلة حافلة بجلائل الأعمال سلكت شريفا في عداد الأبطال؛ بل لقد كان هذا التحول بدء مرحلة جديدة في تاريخ مصر؛ ولا غرو، فلقد عظم فيها خطر شريف حتى صار تاريخه تاريخ مصر في طور من أطوارها، وتلك منزلة لم يبلغها إلا أفذاذ الرجال، أولئك النفر الذين يتوقف مصير عصرهم على ما يعملون، أو الذين تجد فيهم الحوادث أدواتها الحية إذا ما تمخضت تلك الحوادث عن ثورات وراحت كل ثورة تبحث عن رجلها حتى تهتدي إليه فتستقر في رأسه وفي جنانه. . وأي دليل على العظمة أقوى من أن يكون تاريخ الرجل هو تاريخ عصر من عصور وطنه؟ على هذا الأساس قامت عظمة سعد في مصر الحديثة، وعظمة لنكولن في أمريكا، وبسمارك في ألمانيا، وفردريك الأكبر في بروسيا، وبطرس في الروسيا، وغير هؤلاء من الرجال فيما سلف من العصور وفيما اختلف من الأمم. . .

اختار سعيد شريفا ناظرا للخارجية، وهنا أخذت مواهب ذلك الجندي تظهر في السياسة فتبهر، وما لبث أن وجد شريف سبيله إلى قلوب من اتصلوا به فحمل أنصاره على محبته، وحمل خصومه وحاسديه على إكباره وإن لم يريدوا، وتهيأ لمصر في شخصه الرجل الذي لم تكن لها مندوحة عنه فيما هي مقبلة عليه من عظائم الأمور. . .

(يتبع)

الخفيف