مجلة الرسالة/العدد 289/شعر مهيار

مجلة الرسالة/العدد 289/شعر مهيار

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 01 - 1939



للأستاذ عبد الرحمن شكري

قال أبن خلكان في كتاب وفيات الأعيان (هو أبو الحسن مهيار بن مرزويه الكاتب الفارسي الديلمي الشاعر المشهور؛ وكان مجوسياً فأسلم. ويقال أن إسلامه كان على يد الشريف الرضي أبي الحسن محمد الموسوي وهو شيخه وعليه تخرج في نظم الشعر، وقد وازن كثيراً من قصائده). نعم أخذ مهيار عن الشريف الرضي وسلك مسلكه في فخامة اللفظ وقرب التشبيه والاستعارة ونغمة الوزن وتحكيم الوجدان والتباعد عن المعاني التي يمجها الذوق والوجدان إلا في القليل مثل قوله في الغزل:

غار المحبون من أبصار غيرهم ... ضَنّاً وغرت على لمياء من بصري

إذ أن هذا معنى غير مستقيم ولا يقبله الذوق وإن كان للشعراء مثله. ولا أذكر الآن هل للشريف مثله أم ليس له. ومن دلائل التكلف أحياناً في شعر مهيار أن له قصيدة في الرثاء بها يرثي أهل البيت رضي الله عنهم ومطلعها غزل وهو: (في الظباء الغادين أمس غزال) وجاء في غزلها ذكر الملال والدلال وما إلى ذلك. وهذه أقوال لا تستقيم مع الرثاء عموماً ورثاء أهل البيت خصوصاً. وعلى أي حال فإن أستاذه الشريف أكثر طبعاً؛ وإن كان الشريف أحياناً يقبل معاني الغزل المعتاد الشائع في عصره، ولكن نصيبه من عبث الحضارة أقل من نصيب مهيار، وأقل من نصيب غيره من شعراء الدولة العباسية. ومن أجل متابعة مهيار له سلم في أكثر شعره من هجنة الذوق الحضري العابث، ولكنه من أجل هذه المتابعة لم يُدخِلْ في العربية أثراً من الثقافة والنزعة الأدبية الفارسية. وكنا نأمل أن نجد لمهيار ابتكاراً بسبب جمعه بين الحضارتين الفارسية والعربية، ولكن طريقة الشريف كانت عربية بدوية أكثر منها حَضَرِيَّةً، فنزع مهيار هذا المنزع؛ ولم يكتف بذلك بل إنه بَرَّزَ في أبواب القول التي بَرَّزَ فيها الشريف مثل الغزل الوجداني الرقيق، والرثاء والإخوانيات والعتاب وشكوى الزمان وأهله؛ وبَرَّزَ أيضاً في المديح بحكم مهنته. وهو أحياناً يحتذي طريقة الشريف في المديح بوصف عادات البدو في معيشتهم فيقول:

ضربوا بمدرجة السبيل قبابهم ... يتقارعون بها على الضِيفان

ويقول: كأنَّ حديث من يُثْنِى عليه ... حديث القين عن نصل يماني

والمديح هو الباب الذي كان فيه مهيار أكثر استرسالاً من أستاذه بحكم منزلته وبحكم ترفع الشريف الذي يخاطب الخليفة فيقول له إنه لا فرق بينهما:

إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق

ويقل تبريز مهيار في أبواب الشعر التي يقل فيها تبريز الشريف، فلا ينتشي مهيار بما يصف كما ينتشي أبو تمام في وصف الطبيعة، وكما ينتشي البحتري وابن الرومي. ولكن وصف الشريف أقوى وأعرق في الشعر من وصف مهيار. أنظر إلى قول الشريف في وصف القلم:

وينطق بالأسرار حتى تظنه ... حواها وصفر من ضمير أضالعُه

أو قوله في وصف الذئب:

إذا فات شيءٌ سمعَهُ دل أَنْفُه ... وإن فات عينيه رأى بالمسامع

وهذه القصيدة تذكرني قصيدة البحتري التي مطلعها (سلام عليكم لا وفاء ولا عهد) وفيها وصف للذئب منه قوله:

كلانا بها ذئب يُحدِّث نَفسه ... بصاحبه والجد يُتْعِسُه الجد

وتُذْكِر أيضاً والشيء يذكر بالشيء أبيات الفرزدق في وصف الذئب الذي قراه وأطعمه بعكس ما فعل الشريف والبحتري، وهي التي مطلعها (وأطلس عسال وما كان صاحباً).

أما مهيار فله شعر كثير في الوصف أكثره في وصف الشمع أو السمك أو الطبل أو الإسطرلاب الخ. وهو ليس من الطراز الأول. وله أبيات في وصف السماء وهو موضوع كبير يشمل حسنها في مظاهرها المختلفة، ولكنه لم يوفه حقه. وله قصيدة في وصف آلات زينة صناعية في بركة، ولكنها على شهرتها لا تدل على أن الشاعر قد انتشى بموضوعه، فمهيار إذاً لا يُبْرِزُ في الوصف كما يبرز في الموضوعات الأخرى التي ذكرناها وبَرَّزَ فيها أستاذه

والذي جعلنا نأمل أن يبتكر مهيار وأن يدخل شيئاً من أثر الثقافة الفارسية هو ما رأيناه من ابتكار أبن الرومي وما لعله من أثر نسبه الدخيل، وإن كان ابن الرومي قد غلبت عليه النزعة العربية أكثر مما غلبته النزعة الرومية. ومهيار يفتخر بسؤدد الفرس فيقول: إنه جمع المجد من أطرافه (سؤدد الفرس ودين العرب) ويفتخر بفصاحتهم فيقول: (وفيهمُ أَلْسُنُ البيان) ويقول:

إنْ تُنْكِرِي قومي فعن ... دك من بقيتهم بيانْ

وقد نظرنا في شعر هذا الفارسي فوجدناه أكثر عروبة من شعر بعض الشعراء العرب من سكان العراق وفارس، وكان هؤلاء يتملحون ويتجملون بألفاظ فارسية في بعض الأحايين. ونحن لم نطلع على شعر لشعراء دولة الفرس قبل الإسلام، ولا نعرف إن كان شعرهم قد بقي، ولكنا أطلعنا على منتخبات لشعراء الفرس بعد الإسلام عندما استقلت فارس بسبب ضعف الدولة العباسية وسقوطها، وبعضهم أيضاً كان يكتب أيام حكم التتر، وهذه المنتخبات لعمر الخيام وحافظ الشيرازي والسعدي والفيروزي والجامي والنظامي وأنوري وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي وابن جمين لا تختلف كثيراً عن شعر شعراء الدولة العباسية من العرب إذا استثنينا ما في بعضها من قصص تاريخ الفرس القديم التي صارت في هذا الشعر أشبه بالأساطير الإغريقية في شعر هومير وغيره؛ وإذا استثنينا أيضاً الأساطير التي حاكها بعض هؤلاء الشعراء في موضوع حياة الطيور والحيوانات الخ على طريقة الخيال الآري. ولم أجد في شعر مهيار أثراً لذلك وإن كان يقرب من الحضارة الفارسية في وصفه بعض مظاهر الترف، لأن الحضارة العباسية العربية كانت شبه فارسية، إذ قد أخذ العرب في العراق وفارس من مذاهب الإحساس والفكر والحضارة الفارسية، حتى أن بعض المؤرخين سمى الدولة العباسية، بالدولة الفارسية العربية. وقد رد العرب هذه المذاهب المستعارة من مذاهب القول والإحساس والفكر إلى شعراء الفرس المسلمين الذين ظهروا عندما استقلت فارس عن الدولة العباسية؛ وهذه هي أسباب أوجه التشابه بين هؤلاء الشعراء وبين شعراء الدولة العباسية العربية. فمهيار لا يقترب في قوله من الثقافة الفارسية والحضارة الفارسية إلا من حيث اقترابه من نزعة شعراء العربية في الدولة العباسية. وهو كما أوضحنا غير مندفع فيها كل الاندفاع ولا منغمر فيها بسبب احتذائه طريقة الشريف في محاكاة النزعة البدوية؛ وهو مع ذلك له شعر في مظاهر من تلك الحضارة لم يطرقها الشريف كوصفه للخمر كما في الأبيات التي يقول فيها:

من فم إبريقها إلى شفة الكأ ... س عمود الصباح ممدود وقد أغرق في تحسين السكر في قصيدته التي يصف فيها آلات الزينة في البركة ومطلعها:

نديمي وما الناس إلا السكارى ... أدرها ودعني غداً والخمارا

وَعطِّلْ كؤوسك إلا الكبير ... تجِدْ للصغير أناساً صغارا

وقد أنقذته محاكاته للشريف من أن يكون أكثر شعره على هذه الوتيرة. وقد ذكرنا أن الوصف في هذه القصيدة لا يُحدث للقارئ نشوة شعرية، وإنما النشوة فيها نشوة مادية للشاعر بالخمر كما ترى. وعندي أن بيتاً واحداً في الوصف للمعري، وهو ليس من شعراء الوصف، قد يُحدث نشوة شعرية للقارئ أكثر مما تحدثه قصيدة في الوصف لمهيار. أنظر إلى قول المعري:

ليلتي هذه عروس من الزن ... ج عليها قلائد من جمان

وكلمة (هذه) في البيت لها أثر كبير في الوصف. وبعض وصف مهيار على سبيل الأحاجي والمعميات وهذا ليس من الوصف العالي

ويجوز لنا أن نقول أن منزلة مهيار من الشريف كانت كمنزلة البحتري من أبي تمام من حيث احتذاء الطريقة. وقد هجا ابن الرومي البحتري فقال:

والفتى البحتريُّ يسرق ما قا ... ل حبيب في المدح والتشبيب

كل بيتٍ له يُجَوِّدُ معنا ... هـ فمعناه لابن أوس حبيب

وهذه مبالغة المنافس القادح الزاري. إلا أنه مما لا شك فيه أن البحتري على عظم منزلته كان محاكياً أكثر من ابن الرومي. وقد وجدنا أن مهيار يعزب عن نهج الشريف في بعض قوله وروحه. ولا غرو فأن النبات إذا نقل من مكان إلى مكان كانت ثمراته شبيهة بثمرات نوعه من نبات المكان الثاني، وكذلك طريقة الشعر إذا نقلت من شاعر إلى شاعر، فهي يصدق فيها قول الشريف في الآمال:

وتختلف الآمال في ثمراتها ... إذا شرقت بالري والماء واحد

ولمهيار قصائد عديدة ذات نغمة موسيقية عذبة كنغمة قصائد الشريف العذبة، وهو لا يقل عن الشريف في هذه الموسيقية بل قد يزيد أحياناً، ولكن الوجدان الشعري في ثنايا موسيقية الشريف أكثر طبعاً وغزارة؛ وقد يقل الوجدان وتقل الموسيقية في قصائد مهيار المطولة في المدح على أناقتها، ولكن القارئ يشعر في بعضها إطالة الناثر القدير وتوقف الكاتب في تدبيج المديح أكثر مما يشعر من اندفاع السيل الشعري الأتَيّ؛ ولكن أسباب هذا الشعور أن مهيار كان كاتباً قديراً وأنه أوتَيَ سهولة كبيرة في النظم ونفساً طويلاً جداً. وفي بعض مدائحه يحس القارئ سرعة اندفاع الوزن ولكنه يحس أيضاً أن سهولة النظم وطول النفس قد سبقا شاعرية الشاعر. وهذه هي جناية المدح على الشاعر وجناية نظم الشاعر بالأمر أو الطلب أو للحاجة واكتساب الرزق، وهذا أمر يشترك فيه كثير من شعراء الصنعة مع مهيار، إلا أن ما أضر الشعر من ناحية قد أفاده من ناحية أخرى، فقد أصبحت قصائد الصنعة التي ليس فيها اندفاع سيل العاطفة الشعرية نماذج تحتذى في المدارس وفي غير المدارس لتقويم لسان الناشئين المبتدئين؛ ولكن الخطر قديماً وحديثاً هو إما أن يمل الناشئ اللغة بالرغم من طلاوة النماذج وأناقتها لافتقاده سيل العاطفة، وإما أن يظل طول عمره على النماذج الإنشائية لا يطلب وراءها روحاً أو معنى أو وجداناً. ولقد نجى الشريف من أن يكون بعض شعر المدح من شعره نماذج إنشاء فحسب أنه كان يترفع عن التكسب بالشعر أو كانت له عنه مندوحة. والشريف لم يكثر إكثار مهيار وإن كان الشريف مكثراً جداً إذا قيس بالمتنبي أو أبي تمام

وبالرغم من إطالة مهيار في القصيدة الواحدة إطالة كبيرة في المدح، وبالرغم من مؤاتاة سهولة الوزن له فقد كان يهذب ويشذب ويتأنق ويسيء بالإحسان فيها ظنا حتى يقتنع ذوقه بدليل قوله: -

وأُسيءُ ظنا وهي مُحسِنةٌ ... لا كالمسيء ويحسن الظنا

ولعل هذا سبب ولوعه بإطراء شعره في شعره فقد قال في قصائده:

لكنها من معدن لم يكن ... بِسرِّهِ ينبع إلا لِيا

وزاد على هذا فجاء بقول يشبه أقوال المتنبي فقد قال مهيار:

ظهرت بآيتي في غير قومي ... ولم أنظر بمعجزها أواني

أي ظهر قبل ظهور الجيل الذي يستطيع أن يقدره

ولقد قالوا أن الشريف قد اشترك في كتابة بعض ما ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب (نهج البلاغة) وهذا شيء لا يصدق لبعد التزوير من أخلاق الشريف الرضي. وعلى أي حال فليس في شعر الشريف ما يذكرنا بأنه كاتب ناثر، وإن كان له في النثر فضل كبير. وأحسب أن ابن الرومي لو شاء أن ينبغ في النثر نبوغه في الشعر لاستطاع لتقصيه الأجزاء وتتبعه، واتساق كلامه وربط بعضه ببعضه واستطراده وضربه الأمثال وإشاعته المعنى في أكثر من بيت، وما إلى هذه الصفات من صفات؛ ولكن الشعر ملك عليه وقته ونفسه وحاجات لبه وغلبت عليه سهولة النظم. ولم يصل إلينا شئ من نثر مهيار وإن كانت الكتابة هي الصفة المقدمة في كلمة ابن خلكان عنه. ولعل شعره في المدح وغيره من أغراض الأمراء والحكام يغني عن نثره لفظاً ومعنى. ولأناقة مهيار في أسلوبه سببان: الأول محاكاته طريقة الشريف الرضي، والثاني هو أن الدخيل إذا اعتنق لغة حتى تصير لغته واحتاج إلى النبوغ فيها والتكسب بها اضطر إلى التأنق أكثر من اضطرار الأصيل الذي يعتز بأصالته فلا يتعمد المغالاة في التأنق. ومن أجل ذلك كان مهيار أكثر أناقة في الأسلوب من كثير من شعراء العرب في الدولة العباسية ولاسيما شعراء عصره. وليست أناقته بمستحيلة إذ أن عمدة النحو العربي رجل فارسي مثله وهو سيبويه، وهو مثل آخر من أمثال هذه الظاهرة، وهي أن الدخيل قد ينبغ أكثر من الأصيل في لغة بسبب اضطراره إلى استبطان دخائلها، وهي ليست قاعدة عامة بل هي من الأمور الغريبة كغرابة إتقان الكاتب البولوني جوزيف كونراد للغة الإنجليزية وكتابة قصصه بها حتى صارت كتبه تعد من ذخائر الأدب الإنجليزي وحتى صار يعد أديباً إنجليزياً لا بولونياً

وقد أخذ مهيار عن الشريف سر الموسيقى الشعرية وهي لا تتوقف على الوزن وحده بل على الوزن وعلى أسلوب الشاعر في الإفصاح عن إحساسه. ومن قرأ قصيدة الشريف التي مطلعها: (ضَرَبنَ إلينا خدودا وِساما) أو التي مطلعها (أَرَاكَ ستحدثُ للقلب وجدا) أو التي مطلعها (اسلمي يا سرحة الحي) أو التي نطلعها (يا ظبية البان) وغيرها من أشعار الشريف ثم يقرأ شعر مهيار الموسيقي يحس كيف أتقن التلميذ سر تلك الموسيقى كما في قول مهيار:

أتراها يوم صدت أن أراها ... علمتْ أني منْ قتلى هواها

إلى أن يقول:

أُعْطِيَتْ من كل شيء ما اشتهت ... فرآها كل طرف فاشتهاها

أو قصيدته التي يقول في مطلعها: لواعج الشوق والغليلْ ... عَلَيَّ أحنى من العذول

أو التي يقول فيها:

آه على الرقة في خدودها ... لو أنها تسري إلى فؤادها

أو التي يقول فيها:

واذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رُبَّ ذَكرَى قَرَّبَتْ من نزحا

أو التي يقول فيها:

أأنتِ أمرتِ البدر أن يصدع الدجا ... وعَلَّمْتِ غصن البان أن يتميّلا

أو التي يقول فيها:

وهَبْكُم منعتم أن يراها بعينه ... فهل تمنعون القلب أن يتمناها

ولو أن أساتذة فن الغناء في عصرنا هذا شاءوا لوجدوا في شعر مهيار نبعاً لا ينضب معينه من الموسيقى والغناء. فيا حبذا لو لحنوا الكثير من قصائده الموسيقية. وقد نبغ مهيار أيضاً في الرثاء كما نبغ الشريف؛ ومن أكثر قصائده في الرثاء وجداناً قصيدة قالها في فتى كان قد تبناه ورباه وهي التي يقول فيها:

فُجِعْتُ به غض الشمائل والهوى ... مُسِنَّ الحِجَا والفضل مقتبل السن

على حين قامت للمنى فيه سوقها ... وحقت شهادات المخايل والظن

ومن قصائده البارزة في لرثاء القصيدة التي مطلعها (مَنْ حاكم وخصوميَ الأقدار) والتي مطلعها (نعم هذه يا دهر أم المصائب) ويقول فيها:

سلامٌ على الأفراح بعدك إنها ... وإن عِشت ليست إربة من مآربي

ومنها قصيدته في رثاء عبد العزيز بن نباتة السعدي اللامية التي يقول فيها:

أَفَلَم يَرُعها منك نَفس حُرَّة ... كنتَ الوحيد بها وأنت قبيل

وقصيدتاه في رثاء الشريف الرضي مشهورتان ولاسيما الدالية التي مطلعها (أقريش لا لفم أراك ولا يد). وقد نبغ مهيار أيضاً في شكوى الزمان والإخوان، وله في هذا الباب أشعار كثيرة مثل قوله:

وأخ مع السراء من عُدَدِي ... وعليَّ في الضراء والشر

مولاي والأحداث مُغْمَدَةٌ ... فإذا انتُضِين فَرَى كما تَفرِي تَعِبٌ بحفظ هَنَاتِ ميسرتي ... كيما يُعَدِّدَها على العسر

ومن شعره في هذا الباب قوله من قصيدة رائعة:

وقلوب أعدائي الذين أخافهم ... مغلولة لي في جسوم أحبتي

ولمهيار قصيدة في العتاب بلغت منزلة عالية وهي التي يقول في أول العتاب منها:

يا أهل ودي وما أهلا دعوتكم ... بالحق لكنها العادات والدرب

وفي اللغة العربية قصائد بارزة في العتاب يصح أن تكون في باب وحدها وإن تفاوتت مراتبها ومنها هذه القصيدة لمهيار وقصيدة البحتري التي أولها (يهون عليها أن أبيت متيماً) والتي مبدأ العتاب قوله (عذيري من الأيام رَنَّقْنَ مشربي) وقصيدة ابن الرومي التي مطلعها (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء) وقصيدة سعيد بن حميد التي مطلعها (أَقلِلْ عتابك فالبقاء قليل) وقصيدة المتنبي التي مطلعها (وا حرّ قلباه ممن قلبه شَبِمُ) وقصيدة الطغرائي التي مطلعها (على أثلاث الوادِيَيْنِ سلامُ).

وفي الهجاء يحتذي مهيار الشريف أيضاً. قارن بين قول الشريف الرضي (من كل وجه نقاب العار نقبته) وقوله (يَصْدَى من اللؤم حتى لو تُعَاوِدُهُ) وبين قول مهيار: -

وملثمين على النفاق بأوجه ... صم يصيح اللؤم من قسماتها

ولمهيار أبيات كثيرة ضائعة في ثنايا مطولاته وهي أبيات يصح أن تشتهر وأن يتمثل بها.

مثل قوله:

والشامة البيضاء تنعت نفسها ... لوضوحها في الجلدة السوداء

وقوله:

يقول المرء ما يهوى ويرجو ... ويفعل فعله الفلك المدار

وقوله:

يسمون عيشاً في الخمول سلامة ... وصحة أيام الخمول سقام

وقوله:

ونشتكي دهرنا والذنب ليس له ... والدهر مذ كان مظلوم ومتهم

وقوله:

تقام على الفقير وما جناها ... إذا وجبت على المثري الحدود وقوله وهو ليس من الهجاء بقدر ما هو حقيقة عامة في كل النفوس: -

يجهلني بديهة وإنه ... يزداد جهلاً بيَ كلما امْتحَنْ

عبد الرحمن شكري