مجلة الرسالة/العدد 29/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 29/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 01 - 1934



جراحة المخ

للدكتور فريدرك دامرو

استخلصها الدكتور احمد زكي

تقدمت جراحة الأبدان تقدما كبيراً ألفه الناس ففتر إعجابهم به إلا فيما تستجد الأيام منه، وكان طبيعياً أن يأتي دور الرأس، ذلك العضو المخوف المرهوب، لتظهر الجراحة فيه من المهارة والبراعة مثل الذي أظهرته في سائر الأعضاء.

وقد بلغ التقدم في هذه الناحية في العصر الحاضر مبلغا قمينا بإعجاب العلم، هواته ومحترفيه، إعجابا قد يبلغ حد الهلع إذا لمح اللامح بعينه داخل حجرات العمليات فرأى تلك الجرأة التي يأتيها الأطباء في تناول المخ الحي حتى كأنه بعض الأحشاء، ورأى كذلك شدة استمساك المخ نفسه بالحياة رغم ما تلعب به تلك الأيدي اللبقة وتقطع منه تلك (المشارط) و (المكاشط).

في عام 1931 بمدينة كليفليد بالولايات المتحدة، اقتطع الدكتور جيمس جاردنار النصف الأيمن كله من المخ، ومع ذلك صحت المريضة وقامت بعافية! وكانت امرأة في الحادية والثلاثين، ولها ولدان صغيران، عانت داء الصرع عشر سنين، وانتهى بها إلى أوجاع مريعة في الرأس، والى بصر اخذ يتضاءل، حتى أوشك يضيع، كل هذا بسبب خراج داخل جمجمتها كان ينمو فيزداد ضغطه فيكاد يقتلها ألماً. حلق النصف الأيمن من رأسها، ثم أزال الدكتور جاردنار جزءاً من الجمجمة قطره أربع بوصات ونصف، وقطع بطانة المخ فتراءى له شئ غريب نام كالقرنبيط، امتد وتفرع كالسرطان حتى عم النصف الأيمن كله من المخ. أما النصف الأيسر، فقد كان صحيحا سليما، وهو النصف الأخطر لاحتوائه مراكز الكلام والكتابة فضلاً عن سيطرته على النصف الأيمن من الجسم.

كان الدكتور جاردنار يعلم إن حذاقاً من الأطباء قبله حاولوا إزاحة النصف الأيمن من المخ لبعض المرضى، وان الموت كان نتيجة مؤكدة في كل حالة، ومع علمه هذا اقدم على ما اقدم عليه لانه كان المختص الوحيد الذي بقي للتعيسة المسكينة. وبيدين بارعتين لبقتين عقد الشرايين والأوردة باناشيط محكمة أوقفت نزف الدماء، ثم اخذ يكشط المادة المخية بما فيها الخراج حتى افرغ نصف الجمجمة، وعندئذ ملأ الفراغ بمحلول دافئ من الملح، ثم رد العظمة إلى موضعها، فسد الرأس. ثم أثبتها بالحرير ولم أطراف جلدة الرأس فخاطها، وانتهت العملية بسلام.

وبعد ساعات أفاقت المريضة فتعرفت أصدقاءها وتحدثت اليهم، واسرع شفاؤها، وكانت في نقاهتها تقرأ وتكتب، وذهبت عنها أوجاع الرأس ونوبات الصرع. مع وان ذراعها ورجلها اليُمنيين ظل بهما شئ من تيبس وصلابة، إلا أنها استطاعت أن تمشي، وبعد ثلاثة اشهر ونصف من يوم العملية كانت من الصحة بحيث استطاعت أن تعود إلى ما كانت عليه من العناية بولديها بنفسها.

إن من اغرب خصائص المخ الإنساني مقدرته على الاستفادة من عثرات تخال قاضية. اذكر حادثة من حوادث الحرب الكبرى: جئ بجندي من خط النار، وكانت مقدمة رأسه مرصعةبشظايا قنبلة، فأخرجنا قطعة منها قطرها بوصتان سكنت من المخ مسكنا عميقا بين فصيه الأماميين ولم نجرؤ أن نمس بقية القطع لتباعد ما بينها، ومع ذلك شفي المريض شفاء معجزاً. لم يشل. ولم تصب حواسه بسوء، وكل ما بقي عنده بطء في الكلام ونسيان للمواعيد.

وفي الرابع من يوليو عام 1930 وضع يافع في الثامن عشرة من عمره صاروخين مشتعلين في اسطوانة مضخة هواء من تلك التي تستخدم لنفخ إطارات العجلات، فانسفا بشدة عظيمة قذفت بعود المضخة الحديد في رأس الشاب، دخل من قرب عينه اليمنى واخترق مخه حتى برأ من ناحية الرأس الأخرى وجاءه الدكتور (جويل سوانسون) فأعطاه سمماً يقيه كزاز الفك وعقم مانتا من طرفي العود باليود، ثم انتزعه. واشتفى الشاب واستكمل سنة في دراسته الثانوية ولم يتأثر عقله من الحادث أي تأثر ظاهر.

وفي إحدى المصحات الأوربية تسجلت حادثة أخرى غريبة: رجل حذّاء انتابه جنون وفي أثناء إحدى النوبات أراد أن ينتحر فدق المسامير في رأسه وجيء به إلى المستشفى وبرأسه خمسة مسامير طول الواحد منها بوصتان كلها غائرة في المخ. فانتزعها الجراح فصح المريض بعدها وغادر موفور العافية. واغرب من هذا كله قصة فاعل عاش عشرين سنة من بعد أن نفذ في رأسه قضيب سمكه بوصة بسبب انفجار دخله من دون عظمة الصدغ الأيسر ومر في العين اليسرى ففقأها، وبجزء كبير من المخ فأتلفه، ثم خرج من قمة الجمجمة. استعاد هذا العامل صحته واستمر يعمل في الحقل حيناً ويشتغل حوذياً حيناً ويحيد في كلا العملين على السواء فلم تكن منه يوماً شكاة على اختلاف مستأجريه.

لقد أفادت هذه الحوادث العلم، وقعت اتفاقاً فأعانت الأطباء على تفهم هذا العضو الخطير من الجسم، فاخذوا شيئاً فشيئاً يجمعون عنه الحقائق بما يأتيهم عفواً من هذه الإصابات وبما يقصدون من دراسته في مرضاهم، وبتشريحه وفحصه بعد الموت إذا خاب العلاج، وكذلك بتهيجة مراكزه بتيارات الكهرباء في رؤوس القردة والكلاب.

في الحرب الفرنسية البروسية استخدم الكهرباء طبيبان ألمانيان (جوستاف فرتش) و (ادوارد هتسج) استخدماها في تنشيط أمخاخ الجرحى واحدثا لأول مرة حركة في الجسم الإنساني بواسطة التيار والجسم فاقد الشعور. مسا بقطب التيار موضعاً من المخ فتحرك الرجلان، ومسا موضعاً آخر فتحرك الرأس. ثم مسا ثالثاً فتحركت الأصابع. وزاد في إيضاح العلاقة التي بين مراكز المخ وأعضاء الجسد تجارب أمثال تلك، أجراها العلماء على الكلاب والشامبانزي، فاصبح الطبيب اليوم يستدل بأعراض الجسد على موقع الفساد في المخ فيشق الرأس حيث اصل الداء بلا حدس ولا تقريب، فجراحة الرأس لا تحتمل حدساً ولا تقريباً.

أنت نفسك تستطيع أن ترسم على رأسك خريطة تدلك على مواضع تلك المراكز. ابدأ بأصل انفك عند ملتقى الحاجبين، وارسم خطاً يمر بانتصاف جبهتك ويعلوا إلى أعلى جمجمتك ثم يمتد خلفاً إلى بصلة رأسك، بعد ذلك نصف هذا الخط، واذهب نصف بوصة وراء هذا المنتصف. ومن هذه النقطة ارسم خطين يميلان عن الخط الأول إلى جانب رأسك بزاوية قدرها سبعون درجة، وبذلك تكون انقسمت الرأس إلى خانات اربع، ففي الخانتين الأماميتين توجد المراكز التي تهيمن على الحركة في الجسم، في الخانتين الأخريين توجد المراكز التي تضبط الاحساسات التي يتعرض لها الجسد.

ووراء جبهتك توجد مراكز التفكير، فان كان هذا الموضع من رأسك عظيماً فاعلم انك مفكر كبير، وان وجدته في رأس غيرك صغيراً ضئيلاً فاعلم عكس هذا منه. وفي الإنسان المستوحش وفي البسطاء تتراجع الجبهة إلى الوراء. انضماراً لان هذا الجانب من المخ لديهم لا يستكمل نماءه. ومن العجيب المستغرب إن هذه المراكز إذا أصابها تلف بخراج أو سلعة نهض جانب آخر من المخ ليتولى التفكير مكانه.

ولقد ورث كثير من العبقريين رؤوسهم من بعد موتهم للعلم ليفحصها رجل الطب. من أولئك الكاتب الفرنسي الكبير اناتول فرانس، كانت لفات مخه عظيمة وخلاياه السمراء كبيرة كبراً غير عادي. كذلك لينين، مؤسس الجمهورية الروسية وواضع البلشفة، جزئ مخه 31000 جزءاً، فحصت جميعها.

كذلك (ترجوينف) الروائي الروسي كان له مخ من اكبر الأمخاخ المقيسة، كانت زنته اكثر من أربعة أرطال. ومع هذا فحجم الرأس ليس مقياساً دقيقاً مطرداً للذكاء، دليل ذلك إن من الأمخاخ المعروفة مخين زادا وزناً عن مخ (ترجوينف) وكان أحدهما لأبله. وإذا زاد مخ عن مخ فليس معنى هذا زيادة في عدد وحداته فالوحدات سواء وإنما تزيد الوحدة عن أختها حجماً ووزناً.

وفي النصف الخلفي للرأس توجد مراكز الإبصار، فإذا نمت فيها نامية أو أصابتها اصابة، سببت العمى. وجزء المخ المجاور للأذن يحكم السمع، وأمام الجزء الأسفل لمراكز الحركة يوجد مركز الصوت، فنحن نسمع الكلمات مقولة بجزء من المخ، ونراها مكتوبة بجزء آخر، ونقولها بجزء ثالث

وإذا حدث اضطراب لأي من هذه المراكز، حدثت أحداث غريبة. كان أستاذ يحسن اللغتين الإغريقية واللاتينية، فأصيب في حادث بضربة على رأسه فلما أفاق واشتفى مما أصابه وجد انه فقد اللغتين جميعاً وعبثاً حاولت أن تسترجع ذاكرته كلمة من ايهما، وذلك إن خلايا مخه التي تختزنهما أصابهما التلف لا إصلاح لها.

وفي حادث آخر انسد شريان دقيق يحمل الدم إلى بعض الخلايا المخية بمنطقة الإبصار من رأس امرأة مثقفة، وما أمسى الليل وانفلق النهار بالنور حتى وجدت هذه المسكينة أنها عجزة عن القراءة وأصبحت الكتب لا تحمل إليها من المعاني اكثر مما تحمله إلى الفلاح الأمي. كانت تنضر إلى الكلمة فتراها رسما لا صلة له باللغة. أصابها عمى الكلم وعلى هذا المثال يحدث صمم الكلم. تصاب الخلايا الخاصة به فيسمع المنكوب كل الأصوات، ويسمع الكلمات، ولكن خلوا من المعاني.

ومنذ اشهر قليلة حدث حادث عجيب في (لوس انجلس) بأمريكا الشمالية. فتاة مكسيكية دخلت مستشفاها العام للعلاج فقاس الأطباء فيما قاسوا درجة حرارتها فكانت 43 , 3والمعروف في الطب إن درجة 42 قاتلة. واستمرت هذه الحرارة عالية شهراً من الزمان. فحصها المختصون فاجمعوا على إن سلعة درنية نمت من مخها في المنطقة التي تضبط درجة الحرارة في الإنسان فساء ضبطها.

إن الجراح يستطيع اليوم أن يرسم خريطة للمخ كاملة يتبين فيها خلايا المخ وما تخص به من وظائف أعضاء الجسم المختلفة فهو إذا أتاه مريض عرف من أوجاعه وأعراضه أي مناطق الرأس اختل فيذهب إليها قدماً فلا ينحرف عنها قيد إصبع

اذكر رجل شفيناه من الصرع استهداء بتلك الخريطة كانت تبدأ الرجفة في وجهه فعرفنا من هذا إن اصل الداء واقع بمنطقة الحركة بمؤخر المخ. وأردنا زيادة التحقق ودقة في تحديد الموضع، فخرقنا ثقبين في مؤخر الرأس، وغرزنا في مادة المخ إبرتين جوفاوين ومصصنا من سائله بعضه، ثم ملانا الفجوة التي خلت بالهواء، ثم أخذنا صورة سينية أرتنا إن تلك الفجوة غير منتظمة وان شكلها استطال في ناحية وابعج في أخرى بسبب ضغط سلعة لم تتراجع مع مادة المخ تحت ضغط الهواء المحقون. . بهذا الكشف الجديد تعرفنا على موضع السلعة التي لكأنما رأيناها رأى العين، ثم أزلناها.

ويختلف حس المخ اختلافا كبيرا تبعا للموقع الذي يحصل الفساد فيه، فقد لا تتعدى البثرة رأس الدبوس حجما فتحدث أعراضا مريعة هائلة، ثم قد تبلغ في موضع آخر قبضة اليد حجماً قبل أن تحدث حدثاً خطيراً.

منذ أعوام جاءني صديق يهوى لعبة التنس يشكو من ذراعه انه لا يتجه بالكرة الجهة التي يريدها وانه عبثاً حاول استرجاع الأصابة التي كانت له منذ حين، وهذه كانت كل شكاته. فامتحناه فتبين إن سبب ذلك سلعة بقدر البندقة فأزلناها وبذهابها رجعت إليه رمايته الأولى. رجل مبخوت هذا الصديق الذي نحن بحديثه، فلولا ملاحظته الدقيقة لما فطن أحد إلى دائه الخبيء، ولزادت سلعته حتى لنشق استأصالها أو استحال. وقد اصبح أطباء العصر من اجل ذلك وأمثاله حريصين على تعرف السلع في المخ ولما تكبر ويستفحل أمرها منذ أعوام كانت خراجات المخ تحتسب من العلل الوبيلة التي لا رجاء فيها، وكانت جراحات المخ تنتهي بالموت بنسبة لا تقل عن 85 في المائة. أما اليوم فقد تحسنت طرقها واحكم تفصيلها وجد الطب في استبانة عللها قبل أن تشب، فزاد عدد الناجين من الموت الذي كان محققا بالأمس زيادة تطرد على السنوات.

وقد ثبت إن 10 في المائة من المجانين يختل صوابهم من جراء إصابات تقع لرؤوسهم. وقد ثبت إن رجالا محترمين موقرين استحالوا أشراراً مجرمين بسبب صدمة أو دقة على رؤوسهم آذت أمخاخهم. ومن الغريب إن نتائج هذه الصدمات قد لا تظهر إلا بعد أسابيع من وقوعها. مثال ذلك إن رجلا من أهل السواد أصابته رصاصة ضلت سبيلها ودخلت من مؤخر رأسه، فأسرعوا به إلى المستشفى وكان أول ما يعمل لفحصه بطبيعة الحال تصوير رأسه بأشعة س، ولكن كان وقع بالمستشفى حريق في أيام قريبة سابقة فقضى على جهاز الأشعة، فلم يجرؤ الجراح على سل مشرطه وهو لا يعلم موضع الرصاصة، فتركت حيث كانت وتعافى المرض ظاهرا وغادر المستشفى، ولكن بعد سبعة أسابيع اخذ بصره يضعف وآذن بالعمى، فعاد إلى المستشفى فصوروا رأسه فتراءى لهم إن الرصاصة صارت في المخ رويداً حتى حلت منه في موقع الأبصار، ولما انتزعوها عاد إلى الكفيف بصره

وغير هذا ما حكاه السير (وليم هويلر) الجراح الايرلندي الشهير، ذكر إن الرصاصة دخلت راس رجل وضلت هناك أربع سنوات حتى سكنت من المخ حيث تترابط الأفكار فأصابت ذاكرته وبصره وسمعه وأخرجت فعادت إليه كل هذه جمعاء.

ومن ذلك قصة طفل في الشهر الحادي عشر من عمره، سقطت على رأسه لَبِنة فكسرت جمجمته، فكانت تأتيه لهذا السبب ارتجافات عنيفة، ثم انقطعت. ولما بلغ عامه السابع عشر أخذ ينتابه صرع شديد اشتفى منه بإحدى براعات الطب أتاها الدكتور (شارل هرِس) من (تكساس) بأمريكا. ذلك أنه ارتأى أن الصرع جاء من ضغط العظم الصديع على المخ، ففتح الجمجمة فتحة أطالها وراء الرأس من الأذن إلى الأذن على شكل حذاء الفرس، ثم رفع الجمجمة، وقطع شريحة دهنية من فخذ المريض فوضعها تحت عظام الرأس حيث الصدع لتفعل فعل الوسادة فتلقى الضغط دون المخ. وقد نجحت العملية نجاحاً تاماً وزال الصرع وعاد الشاب إلى مدرسته يستعد للحياة استعداد أقرانه، ويأمل منها مثل آمالهم عمراً مديداً وعيشاً رغيداً.