مجلة الرسالة/العدد 29/الفن المصري القديم
مجلة الرسالة/العدد 29/الفن المصري القديم
- 1 -
تمهيد
تؤلف الكتب، وتحبر الأوراق، يتبارى في آخراجها أبناء الأمة ذات الفن أو التاريخ. ومصر، أم التاريخ، التي نهل منها جميع الوجود، ومصدر الفن والذي غذى بنعمته ونوره العالم من مبدأ الحياة. مصر، التي هي البقعة الوحيدة التي هبط عليها طائر الفن الجميل، ونزل على أرضها وحي العظمة والعرفان، أفقر الأمم جميعا. اعتزازا بفنها وتاريخها.
وكم مجهود من مجهودات المصريين الحاضرين بذل في سبيل تحقيق تلك الغاية وتمجيدها؟! وكم هو عدد المؤلفات التي وضعتها أيدي مصرية عن الفن المصري القديم؟! وهذه جهود الإفرنج تملأ مصر بحثا ودرسا، وتغشى أرضها تنقيبا واستكشافا. ثم هذه مؤلفاتهم عن الآثار المصرية وما فيها من فن وقدرة وجمال تغمر الدنيا جميعا. بل إن في متحفنا المصري وحده مكتبة تجمع نحو تسعة عشر ألفا من بعض الكتب التي وضعت بلغات مختلفة عن آثار مصر.
الأجانب هنا وهناك، هم الذين يأخذون وحدهم بشؤون تاريخنا. وهم الجادون في دراسة حضارتنا القديمة، ينشرون بحوثهم فيها على العالم ما كان لمصر في التاريخ القديم من فضل. ونحن، نحن الذين كنا أولى من غيرنا بتلك الدعاية واجدر من كل الناس دراسة لآثارنا وأخذاً لمعالم تاريخنا، لا نتقدم إلى الميدان بأقصر يد. ولا ننهض لاعتزاز بمجدنا بأيسر حال.
أليس هذا من بواعث الأسف؟ ثم أليست حالنا في ذلك أدعى إلى النقد والسخرية؟
نعم هناك بعض جهود مصرية، لا ننكرها. وبعض أيادٍ وطنية، على التاريخ المصري، لا يجب أن نجحدفضلها. ولكنها بضعة ضئيلة. أملنا أن تتجسم وتتضاعف، حتى تفيض على الناس خيرا.
ولعلنا جميعا، نوقن في أنفسنا بأننا مهما بذلنا في خدمة وطننا الجهود، ومهما ملأنا الأرض جدا وسعيا، ووصلنا أركان القطر ذكريات وأثارا، فلن نبلغ إلى غاية الخلود والعظمة ما بلغ أجدادنا المصريون القدماء، الذين بهروا العالم إعجاباً وإعجازاً ولقد نفخر بهم، ونعتز بمخلفاتهم، ونشير إليهم كلما أعوزتنا الحقيقة إلى إثبات شخصيتنا، وأخذتنا النشوة بالتيه. نفخر بهم، ونتحدث بمجدهم، ولا نخجل من أنفسنا لا يكون لنا، نحن أبناء الحاضر، في ذلك فضل. بل نقف موقف الغراب الذي لبس ريش الطاووس فما كان ذلك يرفعه عن أن يظل غرابا. . .
أولئك الأجداد العظام النابهون، لهم علينا ذمة، ما أحرى بنا أن نفى دينها، ونؤدي حقوقها. فهم لم يتركوا لنا ما تركوا ليلزمونا الفخر بهم جزافا، ونحن قعود. ولكن لنكون جديرين بأن نرث عنهم ذلك المجد، وبررة بجميل ذلك التراث الموهوب فحبذا لو نعمل جميعا لوصل حلقات هذه العظمة، واضعين نصب أعيننا دائما هذه العبارة الخالدة
إن سئلنا ما تركنا ... بعدهم ماذا نجيب؟
مصدر المدنيات
كان فريق من علماء الغرب ينسبون الأسبقية في تاريخ الفن الجميل إلى الإغريق. وإنها المصدر الذي تدرجت عنه ثقافات البشر وقلما كان يعترفون بفضل لمصر.
وبالرغم من إن البحوث الأثرية والاستكشافات قد نشرت على الأفكار نورا بان الإغريق إنما أخذت قسطا كبيرا من ثقافتها عن مصر التي سبقت حضارتها حضارة الإغريق بأكثر من ثلاثة آلاف عام، فان بعض آراء المتعنتين نحو مصر ظلت إلى حين، على نكران فضل مصر وعدم اقتباس الأمم عنها.
وقد يكفي أن ندلل على ذلك بتلك الكلمة النزيه التي انصف بها مصر (السير دنيسون روس) مدير مدرسة العلوم الشرقية بانجلترا، في الكتاب الذي قدمه علماء الإنجليز إلى حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر، بأسم (الفن المصري في جميع العصور، والتي دحض بها تلك الآراء العتيقة. حيث قال: - (مصر هي مهد الفنون. ولولا بقاء كثير من آثارها الأولى حتى يومنا هذا، لقامت معلوماتنا عن التاريخ الأول للفنون على الحدس والتخمين. وكلما زدنا علما بأعمالها الجليلة تبين لنا ما تدين به الفنون المتآخرة لمصر، وزاد جلاء، خذ مثلا الأبحاث الأخيرة التي جرت في صقارة، فإنها أثبتت نهائيا إن العمود المزماري (الذي يشبه الناي أو المزمار) - تطور ووضعت فكرته بواسطة الفنانين المصريين (1) ومن جهة أخرى فان تأثير مصر في آراء البشر وأفكارهم ليس اقل شأنا من تأثيرها في عالم الفنون وسجلاتها تعتبر اقدم كنز في تاريخ الإنسانية بأجمعها (وحينما بدأت مصر تسترعي انتباه الغرب كان شارحو مدنيتها هم رجال اللغة والمؤرخون. وأما قيمة آثارها، وما فيها من معان، فكانت من الأشياء التي تكاد لا تعرف. وقد حلت رموز الكتابة الهيروغليفية وقرأت. ولكن ما كان عندنا من تعصب موروث من ثقافتنا القديمة وتفكيرنا الحديث، عاقنا عن أن نقدر فنا كهذا الفن، كل ما فيه غريب علينا. ولقد كان حتما على عالم الفنون أن يجاهد زمنا طويلا، كي يتخلص من براثن الفكرة الإغريقية، ويقترب من آثار الفراعنة البديعة، ويلقي عليها نظرة بريئة خالية من التحيز).
وإليك كلمة أخرى، للأميرة بيبسكو، وقد يذكر القراء اسم سموها حيث تردد ذكره في مؤتمر الطيران الذي عقد بمصر أخيراً. وهي عقيلة رئيس المؤتمر - في رسالة لها بعنوان (يوم مصر) ' إذ قالت عند ذكرها للعمود المزماري في سقارة الذي سبق الكلام عنه:
(لقد وجدت مهد الفن الإغريقي. فان (إمحتب) وهو مهندس الملك (زوسر) أول من استعمل الحجارة الرملية في مصر). وجاء بين كتابات المصريين القدماء إن هذا الفنان رفع إلى صفوف الآلهة لقيامه ببناء الهياكل. وليس هناك ما يدعو للدهشة في ذلك، لان عليها مسحة قدسية، ولأنها اجمل بكثير من تلك المشاهدة في الاكروبول، التي تشابهها. وقد تفوقها من أنها أتم تهذيباً. ويرجع تأريخ هذه الأعمدة المصرية إلى ما قبل (فدياس) بثلاثين قرنا. (وإني لاحس، عندما انظر اليها، بذلك الصلف الذي كان يركب رؤوس ما سبقونا. وها مصر قد فازت أخيراً بقصب السبق. أما هؤلاء الذين تحيزوا للفن الإغريقي ضد الفن المصري، فيجب أن يخفضوا رؤوسهم من الخزي بعد استكشاف أعمدة صقارة).