مجلة الرسالة/العدد 290/المتنبي وسر عظمته
مجلة الرسالة/العدد 290/المتنبي وسر عظمته
للأستاذ عبد الرحمن شكري
بلغ المتنبي ما لم يبلغه شاعر آخر من الشهرة. وقد اهتم له النقاد الأدباء قديماً وحديثاً، وكتب عنه كثيرون من أفاضل الأدباء وأكابرهم في عصرنا هذا. وقد عني بعضهم باستنباط أخلاقه من شعره، وبعضهم أغرى بتتبع نسبه وتاريخ حياته وأسرارها وأسباب حوادثها، وبعضهم نظر إليه من حيث هو الشاعر الذي يمثل العرب خير تمثيل وينوب عنهم في الإبانة عن خصائص نفوسهم ونزعاتهم، وبعضهم عُني بحكمته ونظراته في النفس والحياة، ومنهم من راقته مبالغته التي اشتهر بها في المدح أو الفخر، ومنهم من راقته أساليب التشبيه التي أُغري بها أهل زمنه، وقدموه من أجلها في ظاهر ما يحسبون ويحسون. وإذا تأملت سبب إعجاب المعجبين به، وجدته يختلف باختلاف أذواق المعجبين به واختلاف نظرهم إلى الشعر كما تختلف أسباب المهتمين بدراسة سيرته، وإذا نظرت في شعر المتنبي وشعر غيره من كبار الشعراء وجدت شاعراً قد يماثله أو يبزه في صفة، ويماثله أو يبزه شاعر آخر في صفة أخرى من صفات الجودة، وهو بالرغم من ذلك أوفر نصيباً من الشهرة. وترى لغيره من الشعراء أبيات كثيرة في الحكم والأمثال والأقوال المأثورة، تدل على فطنة بالنفس، وخبرة بالحياة، وتوفيق في الصنعة؛ ولكنها لم تسرْ كما سيَّرَ المتنبي شعره في هذه المعاني. فالبحتري أكثر منه نصيباً من طلاوة الصنعة، وأبو تمام من أساليب البيان، والشريف من الوجدان وسلامة الفطرة، وابن الرومي من الأوصاف، والمعري من النظرات في الأخلاق والحياة، ولكن ما من دَويٍّ أثاره هؤلاء إلا ويخفت بجانب ما أثار المتنبي حتى ليصدق فيه قوله:
وتركك في الدنيا دَوياً كأنما ... تداول سمعَ المرء أنمله العشر
وقد تتبع النقاد قوله أحياناً بالتزييف، وإظهار السيئات من معاظلة والتواء في بعض قوله، وبالتقصي للسرقات والمآخذ، أو ما ظنوا أنه سرقات ومآخذ. حتى حاول بعضهم رد كل معنى من معانيه إلى شاعر سابق. وبعض النقاد أولع بإظهار ما في مغالاة مدحه من التهكم المقصود أو فساد الذوق غير المقصود. وبعضهم أظهر ما في مغالاة المدح من إلحاد أو شبه إلحاد، وما في استطالته بالفخر من كفر أو شبه كفر، واستشهدوا بقوله: وكل ما قد خلق الل ... هـ وما لم يخلق
مُحتقرٌ في هِمَّتي ... كشعرة في مفرقي
وقالوا إنه كان يظهر الشك بالبعث والحياة الأخرى كما في قوله:
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكَّرَ في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
وقالوا إنه تعدى منزلة الشك في هذه الأبيات الذي يشبه الإنكار المُقنَّع إلى منزلة إثبات النفي المُقنَّع في قوله:
تَمتَّعْ من سهادٍ أو رقادٍ ... ولا تأملْ كرى تحت الرجام
فإنَّ لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
وثالث المعاني التي يدركها العقل بعد معنى الانتباه ومعنى المنام هو معنى الفناء والعدَم. والمتنبي يلجأ إلى عقل القارئ في تأمله فهو إذا يريد المعنى ولا معنى غيره. وبعض النقاد أشار إلى شدة حقده على الناس وقسوته في قوله:
وكُنْ كالموت لا يرثي لِباكٍ ... بكى منه ويروي وهو صادي
وقوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس رَوَّى رمحه غير راحم
فليس بمرحوُم إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
ولكن كل هذا النقد لم يسقط الرجل من منزلته، فلأي أمر تبوأ هذه المنزلة؟ إنه لا شك في مقدرته في الشعر وإن له من صفاته باعا فيه، فهو بالرغم من معاظلته أحياناً يجيد أساليب البيان كأحسن ما يجئ به أبو تمام وأحياناً. يأتي بالأساليب الحلوة كأحلى ما يجئ به البحتري، وإن كان إتيانه بها عفواً من غير تعمد وتكلف، ولكن كل هذه القدرة في القريض وما عنده فيه من صفات الجودة جماعها أمر واحد وهو الروح الخاصة التي تظهر فيما له صلة من شعره بآماله وخيبتها وتفيض على ما ليس له صلة مباشرة بتلك الآمال، فتعم إذا هذه الروح كل شعره وتكسبه (جاذبية الشخصية) وجاذبية الاعتداد بالنفس والاعتزاز بها وجاذبية لذة البيان المُعبَّر عنها. ولأكثر الشعراء نصيب منها، ولكن نصيب المتنبي أو فر نصيب. وهي أيضاً التي بصرته بدخائل النفس الإنسانية وأسرارها وعيوبها كي يتخذ من تلك البصيرة بالنفس الإنسانية عامة سلاحا يساعده في الاعتزاز، والاعتداد بنفسه فاعتداد المتنبي بنفسه إذا سبب طلاوة شعره وسبب حكمه وأمثاله وسبب ما يشعر القارئ في شعره من القوة. وقد تكون روح الاعتداد بالنفس مصحوبة بالتقحم والإقدام والفخر والادعاء كما كانت في حياة بِنْفِنوتو سِلَّيْني المثَّال الإيطالي الذي كتب تاريخ حياته وهو مملوء بالمغامرة والمخاطرة والإجرام وبالفخر العريض والادعاء، ولكنه كتاب يستهوي القارئ بسبب ما أكسبه اعتداد صاحبه بنفسه من جاذبية وطلاوة وقوة في الكتابة. وقد تكون هذه الصفة عند رجل مفكر في نفسه غير مقتحم ولا مستطيل ولا مُدّع فتكسبه أيضاً صفات الكاتب الذي يستهوي قلمه القارئ، فإن اعتزاز مونتاني الكاتب الفرنسي بخواطر نفسه وحوادث حياته اليومية واللذة التي وجدها في قيدها ووصفها تستهوي القارئ بعدوى الشخصية ومغنطيسها. فعدوى الشخصية في نظري هي الصفة الغالبة التي ميزت شعر المتنبي، وهي التي ميزت ترجمة بِنْفِنوتو سِلِّيني لحياته وميزت مقالات مونتاني الفرنسي. ويشترط في وجود هذه العدوى أن تكون شخصية صاحبها ذات هبات عقلية ونفسية طبيعية، والعدوى قد تظهر بين الناس قي مقدار أقل حتى ولو كانت الشخصية المعتد بها المعتز صاحبها قليلة الهبات العقلية؛ وهذا أمر مشاهد في حياة الناس اليومية وتأثير بعضهم في بعض في أعمالهم وأخلاقهم وأفكارهم ومذاهبهم وصدقاتهم وعدواتهم، فالناس إذن خليقون أن يهتموا للشاعر أو الكاتب الشديد الاعتزاز والاعتداد بنفسه. وقد يهتمون له أكثر من اهتمامهم لشاعر أو كاتب آخر أقل اعتداد بالنفس وأكثر هبات عقلية ونفسية، فليس اهتمام الناس للشاعر أو الكاتب إذاً على قدر هباته العقلية وحدها كما يظن المعجبون به الذين يستهويهم اعتداده بنفسه، وللشاعر هيني الألماني كلمة حكيمة في هذا الموضوع وهي كلمة مأثورة في هذا المعنى فقد قال: (إن الإنسانية كالشجرة، فالشجرة لا تحفظ ذكرى الأيدي التي تعهدتها بالري والعناية وإصلاح التربة والصيانة من العواصف والأضرار والرياح، ولكنها تحفظ ذكرى اليد المعتدية التي تأخذ خنجراً وتحفر اسم صاحبها على ساقها بالنحت والتكسير من غلافها والسطو عليها، وكذلك الإنسانية قلما تحفظ ذكرى الذين ضحوا في خمول وسكوت لأجل رعايتها والعناية بها، ولكن الإنسانية تحفظ ذكرى الغزاة المدمرين الذين نقشوا أسماءهم على جبهة ذاكرتها بأحرف من نار وبالسطو عليها وبالإهلاك والتدمير وإراقة الدماء. وهذه شواهد متطرفة تدل على اهتمام الناس بالمعتد بنفسه. ولا نريد أن نقول إن الشعراء والكتاب الذين يبالغون في إظهار الاعتداد بالنفس هم مثل هؤلاء الغزاة المدمرين في شرهم، وإنما نعني أن ظاهرة الاعتداد بالنفس تستدعي اهتمام الناس في الحالتين. ومع ذلك فإن رجلاً كالمتنبي ما كان يتأخر عن إراقة الدماء والتدمير في سبيل تحقيق آماله كما يشهد الكثير من شعره. وقد صرح بذلك في أكثر من قصيدة كما قي قوله:
بكلِّ مُنْصلِت ما زال مُنْتظِرِي ... حتى أَدَلْتُ له من دولة الخَدَم
شيخ يرى الصلواتِ الخمسَ نافلةً ... ويستحل دم الحجاج في الحَرمَ
تُنْسي البلادَ بُروُقَ الجوِّ بارقتي ... وتكتفي بالدم الجاري عن الدَيمِ
وهنا تصريح ليس بعده تصريح. والحقيقة أن تقديس الإنسانية للاعتداد بالنفس حتى ولو بلغ الإجرام لا يقل في كثير من الأحايين عن تقديس الإنسانية للفضائل، بل قد يكون أعظم من تقديسها للفضائل، إذ أن تقديسها للفضائل كثيراً ما يكون نفاقاً ورياءً أو رغبة في الانتفاع من وداعة الفاضل واستكانتِهِ وترفعه عن الدنايا بينما يكون تقديس الإنسانية للاعتداد بالنفس ومظهره في غيرها عذراً لها في تقديس مظهره في نفسها وتقديس أثرتها، فتجمع بين لؤم الأثرة وقداسة العبادة بتقديس مظهر الاعتداد بالنفس في غيرها. وقد تحتال للجمع بين هذين المتناقضين بأن تنسب إلى المُعْتَدِّ بنفسه النبل والجلال وكرم الشمائل والمروءة، وهو قد يكون خلواً من هذه الصفات أو على الأقل يكون خلواً من مقاديرها التي تنسبها إليه كي تجمع بين لؤم الغريزة وتقديس الفضائل. وهذا أمر يشاهد كثيراً بين الناس، ولعل هذا الشرح يفسر كيف أن الناس كثيراً ما يحاربون الفضلاء وينتقصونهم مع معرفة فضيلتهم وهم يقدسون الفضائل في كلامهم، وكيف أن الناس كثيراً ما يجلون صاحب الرذيلة إذا لم يضطروا إلى مؤاخذته اضطراراً، وإذا كان معتداً بنفسه وكانت في لسانه خلابة أو له قدرة وسلطان. فإذا كان هذا شأن الناس مع من قلت فضيلته من المعتدين بالنفس، فكيف لا يكون إعجابهم أعظم بمن جمع إلى الاعتداد بالنفس فضائل وبياناً وفصاحة تستهوي القارئ؟ وكثيراً ما يضع القارئ نفسه في منزلة نفس القائل المعتد بشخصه ويشاركه في آماله وأطماعه وإحساسه واعتزازه بنفسه، ويشاركه في خواطر نفسه وحالاتها كما يفعل القارئ أيضاً عندما يقرأ قصة لكاتب فيضع نفسه في مكان بطل القصة الموصوف الذي يعجب به القارئ. وقد يفعل بعض القراء ذلك حتى في قراءة قصص مشاهير المجرمين الذين يعتدون ويعتزون بأنفسهم إلى حد الإجرام. وهذه شواهد متطرفة لهذه الظاهرة النفسية وجاذبية الاعتداد بالنفس تختلف باختلاف الكاتب وباختلاف نفوس القراء المتأثرين بها. وهذه الجاذبية كالمعدن السائل الذي يسيل بمقادير متفاوتة مع ماء الينابيع التي لا تتفاوت في مقادير مياهها السائلة؛ فالشعراء والأدباء لا يختلف مقدار نتاجهم مع اختلاف فيض ينبوع معدن الجاذبية في قولهم، وعلى قدر ما في قولهم من جاذبية وبيان الاعتداد بالنفس يكون قدر تأثر القراء بهم فإذا قرأ قارئ قول المتنبي:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا
وهكذا كنتُ في أهلي وفي وطني ... إن النفيسَ غريبٌ حيثما كانا
تلمس تلك النفس واكتسب شيئاً من إحساسها بالنفاسة والقدرة على الاعتزاز بنفاستها وأحس ما رأته النفس الموصوفة في حياتها من صفح وإهوان؛ وهو قد يكتسب كل هذا الشعور أثناء قراءته قول الشاعر من غير فطنة له، فهو في رحلة نفسية، إما مسالك العقل الظاهر وإما في مجاهل العقل الباطن. وكذلك إذا قرأ قول المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما مِنْ صداقِتهِ بُدُّ
خليلاي دون الناس حزن وعبرة ... على فقد من أحببت مالهما فقد
وأكْبِرُ نفسي عن جزاءٍ بغيبة ... وكل اغتياب جهد من لا له جهد
وأرحم أقواماً من العي والغبي ... وأعذر في بغضي لأنهم ضد
سافر سفرة في عالم التجارب النفسية وبين الأحياء ولو لم يكن على صفات الشاعر النفسية ويلتذ التجارب الخلقية بالتذاذ ما يعبر عنها من البيان. وكذلك إذا قرأ قول المتنبي:
إذا غامرتَ في شرف مَروُم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة في المرء تُغْنِي ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم أحس أن حكمة الشاعر في التمييز بين عقل العجز والجبن وبين عقل الفطنة المقرونة بالشجاعة والطموح ليست حكمة الشعر التعليمي أو الوعظي، وإنما هي حكمة الخبرة والتجارب والفطنة المقرونة بالطموح إلى الآمال السامية، وهو ذلك الطموح الذي كان من مظاهر الاعتداد بالنفس عند المتنبي، وهذا ما يلمسه القارئ في باقي حكمة المتنبي فيسلم نفسه للشاعر يتصرف بها أثناء قراءة شعره حسب بيان خبرته وحكمته وآماله وآلامه، وإذا قرأ قول المتنبي:
وخِلة في جَلِيِسٍ ألتقيه بها ... كيما يرى أننا مثلان في الوَهنِ
وِكلمةٍ في طريقٍ خفت أعربها ... فيهتَديَ لي فلم أقدر على اللحن
كم مخلص وعُلًي في خوض مهلكة ... وقتلة قُرِنَتْ بالذم في الجبن
لا يُعْجبَنَّ مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفيناً جودة الكفن
(البقية في العدد القادم)
عبد الرحمن شكري