مجلة الرسالة/العدد 291/بيني وبين نفسي

مجلة الرسالة/العدد 291/بيني وبين نفسي

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 01 - 1939



للأستاذ على الطنطاوي

نظرت اليوم في سجل ميلادي، فوجدتني على أبواب الثلاثين فتركت عملي وجلست أفكر. ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين يا أسفي! لم يبق إلا ذكريات واهية تحتويها بقية قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق، ومسارب الأعظمية في بغداد، وغابات الصنوبر في لبنان. . . إي والله، وعلى طريق الأهرام في مصر، وضفاف (الشط) في البصرة، وحوائط النخيل في يثرب أشلاء من قلبي وأشلاء. . . فماذا أفدت من عمري الضائع وشبابي الآفل؟ لا شيء! لا مجد ولا مال ولا بنين. لم أفد إلا اسماً مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح والذم، والتمجيد واللعن. ولكني كنت في معزل عن هذا كله فلم ينلني منه شيء.

إن اسمي ليس مني. إنه مخلوق من حروف، ولكني إنسان من لحم ودم. فهل تشبعني الشهرة، أو يكسوني الثناء؟ ولم أملك إلا قلباً أحبّ كثيراً، وأخلص طويلاً، ولكنه سقط كليماً على عتبات الحب والإخلاص، ورأساً حشوته بما وجدت من العلوم والمعارف فأثقلته علومه عن التقدم، فاحتلت مكانه الرؤوس الخفيفة الفارغة. . .

فيا ليتني علمت من قبل أن الحياة مثل اللجة، يطفو فيها الفارغ ويرتفع، وينزل الممتلئ ويغوص

إني لأتصور الآن كيف كنت أنظر في طفولتي إلى أبناء الثلاثين، أولئك الشباب الكمّل الذين بلغوا قمة الحياة وعرفوا الاطمئنان والاستقرار، فأجد بيني وبينهم بوناً شاسعاً، وأرى أني لن أبلغ الثلاثين أبداً. . . ذلك لأن كل ما أعلمه أني ولدت وأنا أبن أربع سنين. فأدخلت المدرسة. فكنت أعيش فيها سنة لأنجح في الامتحان، وأرتقي من صف إلى صف، وأستمتع بالعطلة. فلما أكملت دراستي العالية ولم يبق من مدرسة، ولم يبق امتحان وقفت فلم أتقدم، وفقدت غايتي فلم أعد أحس أني أعيش؛ ثم تلفتّ إلى الماضي أعيش بذكراه، فأصبح كلما انقضى علىّ عام رجعت فيه سنة إلى الوراء، فأنا أصغر كلما كبرت، وأدنو من الطفولة كلما نأيت عنها. فمتى أبلغ الثلاثين، وأين أحط رحالي بعد هذا المسعى؟

وغشيت قلبي غاشية من غّم، فأشعلت عوداً من الكبريت لأوقد دخينة، وكنت في ذهلة فسرت النار في العود ثم تأججت وتوقدت، وأنا أنظر إلى اللهيب جامد العين محدقاً في عالم بعيد الغور حتى أحسست بحرارة النار في يدي، فانتبهت وألقيت العود، فإذا هو قد استحال إلى فحمة سوداء ضعيفة تطير مع النسيم. . . فقلت: هذه هي الحياة. إن الألم الذي أحسسته يلذع نفسي هذه العشية كلذع النار أصبعي، سينتهي بي إلى مثل هذا المصير. سأمضي كما مضى هذا العود، ولكني لا أخلّف ورائي شيئاً. لن أدع مالاً ولا جاهاً ولا عملاً، لأني اشتغلت وا حسرتي بالأدب. .

ويا ليتني تفرغت بعد الأدب، ولم يستغرق حياتي الكدح للعيش. . . إني لم أعمل شيئاً. إن في رأسي وقلبي شيئاً كثيراً، ولكن قلمي مكسور، ودواتي جافة، ولساني مشدود بنسعة، فأنا لا أستطيع أن أقول. . .

عندي ألحان كثيرة، فأنا أحب إن أغني، ولكن الغناء يستحيل من الضيق إلى زفرات تخرج مقالات فيحسبها الناس ألحاني كلها، إلا أن ألحاني لا تزال في صدري لم يسمعها بشر.

وماذا ينفعني أن يسمعها الناس فيطربوا ويصفقوا وأتفرد أنا بالخيبة والألم؟ إن الناس لا يألفون إلا الأغاني الفارغة المدوية، فلتبق أغاني العذبة في صدري، أسمعها وحدي من غير أن يتحرك بها لساني، لأن لساني مشغول بإلقاء الدرس!

كل ما أكتب زفرات متألم وإشارات أخرس، فهل يأتي اليوم الذي تنحسر فيه الزفرات عن الأغاني والإشارات عن الألفاظ والمعاني. . .؟

على أن هذه الزفرات وهذه الإشارات عزاء نفسي، فكم لهذه (الرسالة) من فضل عليّ، وكن من الفضل لهؤلاء الأدباء الذين يستطيعون أن ينقلوني من دنياي هذى الضيقة، إلى دنيا واسعة تطير روحي في أجوائها حرة طليقة! فهل يدري الزيات، أو هل يدري معروف الآرناؤوط، أني طالما أحييت الليالي الطويلة في فرتر وروفائيل وسيد قريش وعمر بن الخطاب، وأني طالما لجأت إليها أقرع بابها وأتواري وراء سورها في جنان سحرية لا أستطيع أن أصفها بأكثر من إعلان العجز عن وصفها؟ فأي عالم في رأس معروف، وأي دنيا في صدره؟ وأي نبل وسمو في هذه اللغة، لغة معروف ولغة الزيات ولغة الرافعي هذه التي تتيه بجواهرها ولآلئها على حين تمشي لغات كتاب العصر بأسمالها البالية ومزقها المخرَّقة. . . لغة فخمة تشعرك بالسيادة والعظمة، لا كهذه اللغات الهزيلة العارية. . .

وكم من الفضل لهيكل عليَّ، فلقد سلخت في قراءة كتابه (منزل الوحي) أياماً كنت أعيش فيها في عهد النبوة، ولقد مررت بهذه البقاع التي يصفها، وأثارت في نفسي عوالم من الذكريات والآمال والخواطر، فإذا أنا أجدها كلها وأجد أكثر منها في كتاب هيكل. . .

هذه هي الواحات التي لقيتها في صحراء حياتي، في سفر الثلاثين سنة، فلولا عالم لإمرتين أنفذ إليه من خلال نفس الزيات ولغته البارعة، وأسلوبه السماوي الذي أسمع غناء كلماته وهتافها في كل جملة، حتى كأن كل كلمة يقرنها الزيات بأختها عروس تزف إلي بعلها؛ فأنت حين تقرؤه أبداً في عرس، تشم عطره، وتسمع غناءه، وتحسَّ في نفسك طربه. ولولا معروف وعبقريته، ولولا هؤلاء المؤلفين الذين قبست منهم السعادة والاطمئنان، كانت حياتي صحراء قاحلة، وما كنت أطيق الحياة. أفليس أكبر المكافأة للكاتب أن يعيش على آثاره للناس؟

يا رحمة الله على تلك الأيام. أيام كنت أغلق فيها بابي عليّ. . . ثم أقبل على كتبي أجالس فيها العلماء والأدباء، وأجد في حديثهم الصامت لذة ومتاعاً. كنت أقرأ لأني كنت أجهل الحياة، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة ولا بحثاً. ولماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً والحياة حرب على أهل العلم والفضل، والناس كالحياة لأنهم أبناؤها وتلاميذها

إلا يحيا الكاذب المنافق سعيداً موقراً، ويموت الصادق الشريق فقيراً محتقراً؟ ألا يصدق الناس الشيخ المشعوذ لأنه يدخل إلى نفوسهم من باب الدين ويكذبون العالم الفاضل؟ أليس طريق الشعبذة وادعاء الكرامات والمخرقة على الناس بعلم أسرار الحروف، واستحضار المردة، واستخراج الجنّ من أجسام بني آدم، آثر عند عامة الناس من العلم الصحيح والأدب المحض؟ ألا يتمتع هذا اللص بالثقة التي لا يحلم بها عالم متخصص أو باحث مدقق، وتنهال على يده الأموال، وتزدحم على يده الشفاه؟ إلا يبلغ المنافق ذو الوجهين أعلى المراتب وأسماها ويبقى الصادق الشريف في الحضيض؟ ألا يركب الجاهل في السيارة الفخمة، ويسكن القصر العظيم، ويحتل المرتبة العلمية العليا، ويمشي العالم إلى بيته الحقير لا يدري به أحد؟

أليست أسواق الرذيلة عامرة دائرة، وأسواق الفضيلة دائرة بائرة؟

إلا يظفر الكاذب المفتري بالبريء؟ ألا يغلب القوي الضعيف؟ ألا ينتصر المال على العلم؟ فلماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً؟

وقمت وقد صفيت حسابي مع الحياة، فإذا أنا قد خسرت ثلاثين سنة هي زهرة عمري وربيع حياتي ولم أربح شيئاً. . .

على الطنطاوي