مجلة الرسالة/العدد 291/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 291/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 01 - 1939



الفن الأمريكي

العمارة

للدكتور أحمد موسى

لا يرجع الفن الأمريكي المقتبس من أوربا لأكثر من وصول الأسبان إليها. وبدت أولى مظاهره في تشييد الكنائس التي تميزت بضخامة مظهرها وطرازها الباروكي مع بساطة الزخارف وقلة النقوش، على نقيض ما كان جارياً في تلك المرحلة الزمنية. كما أنها عندما شملت شيئا من التحلية كانت ضعيفة إلى حد لا يتناسب مع التصميم الإنشائي.

وأول المباني الضخمة (الثقيلة) كانت بسان فرانسسكو وتولا التي تمت بين سنتي 1540 و 1561 وبعدها كنيسة مريدا المقببة التي تم تشييدها سنة 1598، ثم الكاتدرائية الهائلة بمكسيكو (1573 - 1656) بمنارتيها اللتين بلغ ارتفاعهما نحو الستين متراً.

ولعل كنيسة لاجوس الباروكية الطراز (1649) وكنيسة شايهواهوا (1789) توضحان لنا أثر الفن الأوربي الإسباني وتطوره في أمريكا.

وبدأ تطور الطراز المعماري تطوراً شاملاً منذ القرن الثامن عشر، فاتجه الميل إلى إهمال الزخرفة واعتبارها عملاً يضيع الوقت والمال، وظهرت الرغبة في تبسيط البناء، إلا أنه بالنظر إلى اتساع الأراضي وقلة ازدحام السكان ورخص التشييد لخلوه من كثرة النقش والتحلية، فإن الضخامة والثقل ظلا على حالهما الأول وحافظا على مكانتيهما من نفس المهندس المعماري. وخير مثل نسوقه لهذا مباني سان فرانسسكو وساجراريو متزو بوليتانو في مكسيكو وكتدرائية ليون.

ولم يكن هذا المظهر منحصراً في الكنائس وحدها، بل كان شاملاً للمباني العامة والمباني العادية؛ فترى السراي الأهلية التي يرجع تاريخها إلى عام 1692 بواجهتها التي يبلغ طولها مائتي متر، وسراي البلدية (1720 - 1724) ومدرسة برج (1797 - 1813) في مكسيكو، خالية كلها من النقوش والزخارف التي تعتبر في (الدنيا القديمة) ضرورية لتجميل البناء وأهم كنائس جنوب أمريكا كنيسة كوسكو التي بدأ إنشاؤها سنة 1537 وكنيسة ريودي جانيرو، وباهيا، وبونس أيرس، وليما، وسانتياجو حيث توجد الكاتدرائية العظيمة (1647 - 1748)، واختلف المجموع الإنشائي في كل منها اختلافاً يحتاج إلى التفصيل الذي لا يتسع له المجال لاتصاله بأصول العمارة.

وقد لوحظ أن فن العمارة الذي انتقل من إنجلترا وهولندا إلى أمريكا كان أميل إلى الناحية العملية منه إلى الناحية الفنية لجملة أسباب؛ منها أن الذين هاجروا إلى (الدنيا الجديدة) كان معظمهم ممن ضاق بهم العيش في بلادهم، أو من الذين اتسع لهم مجال التبسيط على اعتباره تجديداً، فضلاً عن العطش والرغبة الصادقة في الاستغلال السريع. أما الأسبان الكاثوليك فقد ظلوا سائرين في اتجاههم المعماري الذي مال إلى الزخرفة والتنميق؛ فترى في المدن الجديدة التي منها سانتافيه أمثلة عدة تؤيد ذلك.

وبينما اتجه الفن المعماري في الجنوب اتجاه البلاد الكاثوليكية كما هو الحال في كاتدرائية نيو أورليانز (1792 - 1794) التي لا يخرج طراز بنائها عن كونه خليطاً من العمارة الكلاسيكية الفرنسية والعمارة القوطية إلماماً؛ نراه اتجه في الشمال نحو البعد عن الزخرفة والميل إلى تبسيط الواجهات. وهذا يؤيد ما يلاحظه المشاهد المدقق على كنيسة كرست في فيلادلفيا التي تم بناؤها سنة 1727 والتي يذكرنا مظهرها الإنشائي العام بالتصميمات التي حملت طابع المعماري الإنجليزي كرستوفرورين في لندن، وكذلك بيت البلدية في بوستون والبيت الأبيض في واشنجطون، كلاهما حمل مظهر البساطة والرغبة في جعل المباني عملية أكثر منها فنية، فكانت متأثرة بالفن الهولندي المجرد.

أما في القرن لتاسع عشر فقد كان تأثير العمارة الأوربية عم وأكبر، وذلك بالنظر إلى كثرة المعماريين الذين ذهبوا إلى أمريكا. وقد ظهر أثر الفن الكلاسيكي على أشده في البناء الرائع المسمى كابيتول واشنجطن (ش 4) الذي ابتدأ بناؤه سنة 1793 والذي جعلت أعمدته من الطراز الكورنتي والتي أقيمت فوق أعتابها القبة فارتفعت عن الأرض تسعين متراً. على أن هذا البناء ليس الوحيد من نوعه الذي حمل هذا الطابع وهذه الروعة؛ فهناك مشيدات أخرى مثل بيت الاختراعات في واشنجطون ودار الجمرك في بوسطن وفي نيويورك وغيرها في فيلادليفا، كلها شاهد على هذا الاتجاه.

ونجد أيضاً أثر الطراز الرومانتيكي ظاهراً في التكوين الشكلي العام للكنائس وغيرها من المباني الجديرة بالاعتبار. وهذا لا يمنع من أن تكون كاتدرائية باتركس في نيويورك على الطراز القوطي المتأخر وعلى جانب من عظمة المظهر، ولو أنها بدت في مجموعها نحيفة التكوين بالنسبة للمألوف في هذا الطراز. وعلى نفس المنهج بنيت كنيستا ترينيتي وتوماس وغيرها في نيويورك وكان الواضع لتصميمها المعماري الإنجليزي أبجون

ولا نذكر كنيسة كانت على جانب عظيم من روعة الفن الخالص سوى كاتيدرائية (جميع القديسين) (ش 2) التي كانت ولا تزال ضيقة المساحة، وهذه الروعة تتلخص في دقة التعبير عن الطراز القوطي المبكر.

ولعله جدير بالذكر أن المباني التي تجلى فيها الطراز الرومانتيكي هي كنيسة هولي كوميونيون في فيلادلفيا وردهة كاتدرائية ترينيتي السابق ذكرها، وكنيسة نيو أولد ساوث بمنارتها التي تأثرت بالفن الإيطالي فكانت مثلاً جيداً له في أمريكا.

أما في المباني العامة فبرلمان أوتاوا في كندا وكابيتول الدولة في هارتفورد والمكتبات في بورلنجتون ووبرن، وكاونتي كورت هاوس في بِتسُبرج، ومتحف الفن في سنسناتي، والناشيونال أكاديمي التي تذكرنا كثيراً بقصر الدوج في فينيسيا، ومتحف التاريخ الطبيعي في نيورك. . كل هذه آيات بينات لفن البناء الأوربي في أمريكا، كما أنها خير دليل على الغنى الفني المعماري والمقياس الصادق لتقدير الفن الخالص.

ومن الغريب أن أمريكا لم تقتبس من فن (عصر النهضة) شيئاً يذكر، ولكنه يخيل إلينا أن الرغبة العملية كانت لا تزال الحائل بين العمارة وبين الاقتباس. ولهذا السبب نجد أن الحلقة الفنية المعمارية ناقصة.

وذلك ما انبنى عليه عدم وجود الرابطة بين الطراز السابق اقتباسها وبين المسلك المعماري الذي مثل الضخامة والبساطة في المظهر.

وهذا بلا شك سبب جوهري في الانتقال المفاجئ من عمارة القرون الوسطى من حيث (الثقل والضخامة) كما هو الحال في كابيتول الدولة بنيورك إلى عمارة بيت البلدية في فيلادلفيا، التي كان المنهج فيها مشابهاً لما اتبع في بناء اللوفر، هذا فضلاً عن منارته التي تعد أعلى منارة في العالم. وهذا نفسه نعاينه في مباني بيوت الدولة والمكتبات والمحطات والمتاحف ودور التمثيل وغيرها من حيث اتساع مساحاتها وكبر أحجامها - ولكنها مع هذا الاعتبار ضئيلة القيمة المعمارية الفنية لما بدا عليها من مظاهر البساطة وقلة التنسيق.

وحتى القصور والفيللات في (الدنيا الجديدة) بنيت دون قيد فني أو شرط من شروط الجمال العام، فهي لا تخرج عن كونها خليطاً من طُرُز مختلفة تجاورت وارتفع بعضها وانخفض البعض الآخر فظهرت خالية من الجمال؛ هذا في بيوت شيدها عظماء البلاد الذين يظن غالباً أنهم أدرى من غيرهم بأصول الجمال، أو على الأقل ممن لا عذر لهم في وجوب العمل على تشجيع الفن أيا كان نوعه.

من هذه الاتجاهات المختلفة وعلى ضوء هذا الخلط وعدم التقيد بقاعدة معينة أو فن معروف بدأت فاتحة اتجاه جديد في أمريكا، هذا الاتجاه هو إشغال أصغر مساحة من سطح الأرض بأكبر عدد ممكن من طبقات العمارات والبيوت، وساعد على ذلك عدم إمكان التوسع في مساحة مدينة واحدة أكثر من المعقول، إذ لا يجوز أن تسافر ساعتين من طرف إلى طرف الآخر في بلدة واحدة، هذا إلى جانب نمو عدد السكان نموَّا هائلاً.

وأولى هذه العمارات بيت بيركشير في نيويورك؛ فقد بنى شاملاً لتسع طبقات، وتدرج الحال حتى وصل إلى مائة وعشرين طبقة وأزيد! ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ بل سار كل في اتجاهه حسبما أراد وتبعاً لما تسمح به دولاراته، فتجد إلى جانب بيت يناطح السحاب منزلاً لا يتجاوز خمس طبقات.

وبعد أن كانت أمريكا تقلد أوربا في أول الأمر، أصبحت أوربا تقتبس من أمريكا وتقلدها. وطغت هذه الموجة على القاهرة أيضاً فأصبحت ترى عمارات يبلغ عدد طبقاتها عشراً وثلاث عشرة بنيت كلها متلاصقة أو متجاورة لا ينفذ إليها نور ولا هواء، مع أننا لسنا في حاجة ماسة إلى مثل هذا المنهج السقيم، لا سيما وأن عدد سكانها ضئيل جداًّ بالنسبة إلى مدن أمريكا الكبرى، ومساحة القاهرة أكبر نسبياً من مساحة تلك المدن.

(له بقية)

أحمد موسى