مجلة الرسالة/العدد 291/رسالة المرأة
مجلة الرسالة/العدد 291/رسالة المرأة
التربية العملية
أطفالنا
للآنسة زينب الحكيم
التربية العملية مسألة لا يجدي فيها ترقيع، ولا يفلح فيها النصح الكلامي كثيراً إذا فات أوانها، وأهمل شأنها في حياة الإنسان المبكرة. لهذا سأوضح ببعض الأمثلة كيف يمكن تنشئة الطفل منذ طفولته، ليتناسب مع الجماعة، ويشب على روح الفرد للمجموع، والمجموع للفرد.
(المحررة)
كلنا يُقرّ بشدة العناية التي تحيط المولود من يوم ولادته، تلك العناية التي قد لا يشابهها العناية بالملوك على عروشهم، ولا الجبابرة المتألهين على أقوامهم.
فالطفل، في مدى الخمسة عشر أو الثمانية عشر شهراً الأولى من حياته، تؤدي له جميع لوازمه، ولو ضحيت في سبيل ذلك صحة الكبار ولا سيما الأم. وكنتيجة لهذه المعاملة، وتلك الرعاية، يصير الطفل أنانياً بكل ما في هذا التعبير من معنى، خصوصاً بعد أن يقارب تمام السنتين من العمر.
وكلما بدأ الطفل يتحرر من طور العجز، أو الاعتماد المطلق على من حوله في الطفولة المبكرة، يبدأ ينازع رغباته ولوازمه من أجل اخوته وأخواته، ومن والديه والأفراد الآخرين الذين يحيطون به.
فرغباته الشخصية، وطلباته المضادة لطلبات المجتمع، يجب تعديلها بحكمة، وبهذا يبدأ حفظ أول درس صعب في الحياة. وبفهم هذه المتناقضات الأولية في حياة الطفل نتساعد على فهم سلوك الأطفال بوجه عام. . . ومِن ثمًّ نرشد إلى أمثل الطرق لتربيتهم، وأحسن التدابير لتنشئتهم.
أما جعل الطفل مناسباً لبيئته، وتهيئة البيئة نفسها لمناسبته، فعقدتان تستلزمان مجهوداً عظيماً، لأن كل فرد منا يفهم ويقدر أن للجماعة في أي بيئة مطلبين ضروريين: 1 - أن يعيش الإنسان مع آخرين من نوعه، لأجل حماية الجماعة. . . ولأنه اجتماعي بطبعه، ولأجل إيجاد إلف له
2 - أن يقف كفرد يدافع عن سلامته الشخصية، وأن يستطيع جذب رفيق له.
ومن هذا نرى، أن له عدة حقوق خاصة واضحة، وعليه واجبات لنفسه كفرد، ولكن مشكلته العظمى هي معرفته كيف يوفق شخصيته ورغائبه لاحتياجات الجماعة.
لقد كان الإنسان الأول في طفولته يعرف هذا التوفيق بالصدفة، أي بطرق عرضية مطولة ملفوفة، بينما نصل إليها الآن بطرق مباشرة مختصرة قليلة الالتواء إن وجد، لأن الدراسات الحديثة قد أفادتنا كثيراً، ودلتنا على أن في نفس الطفل غرائز وميولا وطاقات كامنة، وهو مهيأ لكيفية تنميتها - إذن ما علينا إلا أن نترك له القيادة، فيفصح لنا عن نفسه؛ وعملنا نحن هو أن نوجهه ونرشده إلى أحسن السبل ليهيئ نفسه لبيئته، مع مراعاة أن ضروريات الجماعة ومستوياتها دائمة التغير.
فالسلوك الخلقي لجيل ما، يعتبر دائماً السلوك غير الخلقي بالنسبة للجيل الذي يليه. وإذا افترضنا أن على الطفل أن يستمع ويخضع لأوامر اخوته ووالديه، وجدوده ومعلميه فعلينا أيضاً أن نفترض له منفذاً لرغباته حتماً.
وهنا يتحتم على الوالدين واجبان: -
1 - أن يعلما الطفل إلى أي حد يجب عليه أن يخضع رغباته واحتياجاته لرغبات واحتياجات الجماعة.
2 - عليهما أن يعلماه إلى أي حدّ يمكنه أن يشبع رغباته، وإلى أي حد يجب أن يدافع عن حقوقه، وإلى أي حدّ يعتد بنفسه، ومتى يخضع لأوامر الغير، ومتى يعدل رغباته نزولاً على إرادة الجماعة.
الطفلة (جميلة) نشأت وهي صغيرة في مزرعة، وأحاطها أمهات وآباء محبون جداً لها، ولم ينقص حب الخالات والعمات لها عن حب الجدات والجدود.
وطفلة في مثل هذه البيئة، وهذا الجو، أحست بأهميتها، وبالغت في إملاء إرادتها فكانت إذا أرادت شيئاً ما يحضر لها، ما كان عليها إلا أن تبكي بصوت مرتفع، ولمدة كافية حتى تحصل على ما تريد. وأحياناً كانت تبكي على أشياء لا يمكن أن تعطى لها، كأن تريد القمر مثلاً. وكانت تبكي أحياناً أخرى بدون سبب
ففي هذه الأوقات التي لم يمكن فيها إجابة طلباتها، أو الصبر على تدليلها إشفاقاً عليها من كثرة البكاء - كان يقول أحد من بالمنزل: (خذوا جميلة إلى الحديقة وأركبوها الحصان - قد يهدئها ذلك) أو يقول آخر في مناسبة أخرى: (خذوها إلى شارع المحطة لترى القاطرة الكبيرة وهي مارة - قد يهدئها ذلك)
وإذا لم تفلح هذه الطرق معها، كان يعطى لها قطعة من الحلوى لكي تهدأ. ولقد استمر هذا النوع من المعالجة، حتى أتى على أفراد الأسرة يوم نضب فيه معين حيلهم مع هذه الطفلة لتهدئتها كلما بكت فمرة من تلك المرات ظلت تبكي وترغي وتزبد مدة طويلة ولم يلتفت إليها أحد. فما كان منها إلا أن نادت بأعلى صوت قائلة: (أعطوا جميلة قطعة من السكر - ذلك قد يهدئني) دهش كل فرد حولها لما حدث منها، وحار الجميع كيف يجاوبونها، وتأملت هي طويلاً ثم قالت: (خذوني إلى الحديقة لأركب الحصان - ذلك قد يهدئني) واستمرت تبكي
هنا وهنا فقط فطن الوالدان وكل أفراد الأسرة للدرس المهم الذي أعطته لهم هذه الحادثة، ونبهتهم إلى تلافي الغلطة التي كانوا يقعون فيها في تربية الطفلة؛ ومن حسن حظها أن غيّر الجميع خطتهم معها تدريجياً، وعدلوا مجاوبتهم لبكائها
من هذا يرى أنه إذا سمح للطفل أن يصير أنانياً، بحيث يطلب كل ما يريد غير ناظر إلى حقوق الغير، فإنه سيبقى طول حياته على خلاف ومنازعات مستمرة مع الناس الآخرين، ويشعر غالباً بأن الناس لا يعدلون في معاملته أبداً. وكثير من الأفراد لا يحصلون على ما يشعرون أنه من حقهم، ذلك لأنهم ينتظرون أكثر مما يستحقون من الحياة، ويتطلبون من الناس أن يتنازلوا لهم ويؤثروهم على أنفسهم بحالات لا يمكن تحقيقها
وهذا هو السّر في سوء حال الشبان الذين لا تقدر على ترويضهم عائلاتهم ولا مدارسهم ويضج منهم المجتمع. والكل يشكون ويتأففون من فساد المجتمع، ولكن ليس الذنب كله ذنب المجتمع، فلو لم توجد عندنا حالات عامة شائعة في بيوتنا المصرية من أشباه التربية الخاطئة، لما سمعنا بحوادث الأولاد الذين يتهجمون على آبائهم بالضرب أو القتل، أو تنكيد حياة الأم لشدة هياج ابنها العصبي وغير ذلك في كل وقت. والحقيقة أن لا عصبية هناك ولا جنون، وإنما هو سوء التربية المبكرة وخطؤها الذي يجعل من الطفل شخصية غير شخصيته، ويجعل حياته كلها تصنعاً والتواء.
إن سلطة الوالدين والمربين على الطفل هي التي تعلمه حقوق الجماعة. ولكن ليحترس من استعمال السلطة بغلظة وجهل معه، فإنه إذا حصل ذلك ولم يكن لدى الطفل المخارج الكافية لنزعات نفسه، فإنه يصبح شغوفا قلقا خجلا في غير موضع الخجل، عنيدا ينكر كل شيء، ويشاغب حيث لا سبيل إلى الشغب، ويصير أشد ميلاً للتأثر بغير بيئته التي باتت غريبة عليه. وهذا دون ريب مالا نقصد إليه. إذن يجب أن تخدم السلطة الوالدية غرضين:
1 - أن تكون وسيلة يتعلم بها الطفل كيف يوفق نفسه للجماعة. . .
2 - أن تكون وسيلة يتعلم بها الطفل أيضاً إلى إي حد يمكنه أن يعبر عن رغباته واحتياجاته.
ذلك لأن كثيراً من الضغط على الطفل يتعين خطؤه وضرره إذا ما كلفنا أنفسنا مشقة إيجاد المخارج الصحيحة التي يعبر الطفل فيها عن نفسه؛ ويظهر لنا تعسف أوامر النهي التي نضايق الطفل بها والتي يستغني عنها تماماً، إذا اتبعت طرق التربية الصحيحة، التي تمكن الطفل من إشباع ميوله دون إزعاج الآخرين.
ولا يصح أن نتصور أن الطفل إذا خالف قانوناً أو نظاماً يجب أن يسامح، لا بل يجب أن يعاقب. وكل ما نرمي إليه هو أنه يمكن أن نعلم الطفل دائماً، ونعوده التعبير عن رغباته وإشباع ميوله، دون مضايقة الجماعة.
زينب الحكيم