مجلة الرسالة/العدد 291/عيد الفقير. . .

مجلة الرسالة/العدد 291/عيد الفقير. . .

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 01 - 1939


عيد الفقير! وهل للفقير عيد؟

نعم للفقير عيد إذا أردنا به الشعائر الدينية والقومية؛ فهو يصلي العيد، ويزور المقبرة، ويعيَّد على آله وصحبه، ويُكرِه السرور النافر على الإلمام ببيته وقلبه، ويجعل من المساجد والحدائق والميادين مظاهر إخلاص وشكر لوطنه وربه

فإذا أردنا بالعيد التقلب في وثير الفراش من غير صلاة، والتنافس في ذبح الكباش من غير تضحية، والتأنق في الزينة والثياب، والتفنن في الطعام والشراب، والتبسط في اللذة واللهو، والتهادي بين التيه والزهو، فذلك عيد الباشا والأمير، لا عيد المسكين والفقير

وا رحمتا للفقير قبيل العيد! يرى متاجر الملابس واللُّعب والحلوى قد ازَّينت واجهاتها البلورية بالعُروض الجذابة والنماذج المغرية، فينظر إليها نظر الراغب المحروم، ويذكر أطفاله الغارَّين في حنانه وهم يحلمون بالثوب الجديد واللعبة المسلية والأكلة الشهية والنزهة الممتعة، ويعتقدون أن أباهم قادر على أن يجعل عيدهم سعيداً وحلمهم يقظة، فيكرُبه الأسى وتصيح الحسرة في نفسه:

- حنانيك يا رباه! هذه نعمك واسعة سابغة، ولكن القدر لحكمة لا يدركها البصر المحدود جعلها لغيري لذة بالقدرة. ولنفسي ألماً بالعجز، ولأولادي شقاء بالحرمان. فليت القدرة تعرف الرحمة، وليت العجز يدرك المعونة، وليت الحرمان يخطئ الطفولة، وليت الأيام تمضي إلى غايتها من غير عيد ولا موسم!!

إن الأعياد مذلة للوالد الفقير وفضيحة للبيت البائس! ففي الأيام الأُخَر يستطيع العائل المسكين أن يغلق بابه على بؤسه، ويرَوُض أهله على مكروهه؛ ولكنه في العيد لا يستطيع أن يضرب على الآذان، ولا أن يختم على العيون، فإن المدافع تقصف في القلاع، والمزامير تعزف في الشوارع، والناس يزيطون في الملاهي، والأطفال في المراكب والمواكب يرفلون في الوشى ويلهون باللُّعب، فأولاده لابد سائلون:

يا أبانا، أين الثوب الذي نلبس، واللحم الذي نأكل، والقرش الذي ننفق؟ أهذا العيد لناس دون ناس، أم هو ذو وجوه شتى منها العابس والباسم، ومنها الدميم والحسن؟ ولَم آثرَنا نحن يا أبانا بهذا الوجه الشتيم الكالح؟

لو كان هذا الرجل في أمة مؤمنة محسنة لأجاب بنيه بقوله: صبراً يا بني، فعمَّا قليل يدخل عليكم باباكم (بيرم) أو عمكم (نويل) بالألطاف والحلوى والحلل من وقفية الباشا فلان، أو من جمعية كذا للإحسان؛ ولكنه يجيبهم بالدمعة البادرة، والزفرة المحرقة، والنظرة الحزينة، فلا يفهمون إلا أنهم أحقر من هؤلاء الأطفال، وأن أباهم أفقر من هؤلاء الرجال. أما علة هذا التفاوت وإلهنا واحد، وأبونا واحد، وملكنا واحد، ووطننا واحد، فعلْمها سيأتيهم مع الأيام إذا ما خرجوا بأنفسهم إلى الحياة فرأوا المكظوظ الذي غصب رغيف الجائع، والملفَّف الذي نهب كساء العاري، والمموَّل الذي سرق نصيب المحروم

حدثني رجل من ذوي هذه الحال أنه كان يشتغل مياومة في مصلحة من مصالح الحكومة؛ فلما قل عليه العمل استغنوا عنه؛ ولكنه لسوء حظه لم يستطع أن يستغني عن الأكل، ولا أن يقنع أولاده بالصوم، فراح يطلب العمل في كل مكان والمعونة من كل إنسان فلم يجد. ودخل عليه عيد الفطر من هذا العام وليس في يده ما يشتري به الكُسي لبنيه والسمك لزوجه وكان قبل نكبته بأسبوع قد وعد الكبار بالبِذَل والصغار بالهدايا، فسبحت أخيلة الأطفال في جو من الأحلام عجيب الألوان عبقري الصور؛ وأسرعت ألسنتهم الثرثارة إلى إشاعة ذلك في الرفاق والجيرة. فغُمَّ على الرجل الحال، واعتلج في صدره الهم، وأصبح حيران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل. تمنى الخروج من هذا المأزق بالمرض أو الموت؛ ولكن المرض أو الموت إذا أصبح أمنيَّة الفقير امتنع كالخير وعزَّ كالسعادة. فاحتال على العلة بالجوع، فصام النهار والليل حتى هجمت عيناه وانسرقت قواه وبانت عليه نهكة المرض

ودخل العيد بضوضائه وخيلائه على هذه الأسرة البائسة فوجدها عاكفة على سرير مريضها الموجَع، مضرَّمة الأنفاس، لهيفة القلب، لا أمل لها إلا أن يعافى عميدها ويحيا. فانكفأ العيد النشوان المرِح خجلان عن هذا المنظر الأليم إلى مجالي البهجة والنعيم في قصور الكبراء والأغنياء والسادة. ولولا هذه الحيلة التي أنقذت هذا التعِس بالمرض من غير موت، لأشفى به الخجل والهم على الموت من غير مرض

تباركت يا الله! لقد جعلت في عيد الفطر زكاة، وفي عيد النحر تضحية. فهل فهم ذوو القلوب الغُلف والبصائر العُمْي من شرعك العادل أن الفقير يزكي بقوَّته حتى يعجز، والمسكين يضحي بصحته حتى يموت؟؟

احمد حسَن الزيات