مجلة الرسالة/العدد 292/استطلاع صحفي

مجلة الرسالة/العدد 292/استطلاع صحفي

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 02 - 1939



الأندية الأدبية في مصر

نادي الحلمية

لمندوب الرسالة الأدبي

مقهى ضئيل المنظر، تافه الموقع، يطل على ميدان ضيق محدود، يعج بالسابلة، ويضج بالحركة، وترتفع فيه أصوات الترام والسيارات منحدرة من القلعة وصاعدة إليها، فلا رواء فيه ولا بهاء ولا شيء مما يبعث الشعر ويهز الفكر ويحبب إلى الأدب، ويغمر النفس بشعور الرضا والأطمئنان؛ ولكنه على الرغم من هذا كله فهوى الشعراء والأدباء، ومراد الأفكار والآراء، وله في ذلك عمر طويل وتاريخ حافل

ترى ما الذي حبب هذا المكان إلى إخواننا الأدباء وهم طلاب الهدوء والسكون، وعشاق المناظر الشعرية اللطيفة؟! أهي تلك الدرجات الأربع التي يصعدها الداخل إليه فتشعره بالرفعة والصعود والعظمة! وحب العظمة! وحب العظمة شيء في نفوس الأدباء؛ أم هي تلك الديمقراطية الصريحة التي يتميز بها ذلك المكان، إذ يجلس القوم في غير كلف، والتملص من الكلفة شيء محبوب لدى الشعراء؛ أم هي قلة النفقة، والأدباء لاشك قروشهم معدودة، وجيوبهم مكدودة، فهم يرتاحون إلى قلة المصاريف وعدم التكاليف؟!

أنا والله لا أدري السبب في ذلك. ولقد سألت إخواننا الأدباء أنفسهم فما وجدت عندهم شيئاً من علم ذلك السر، بل لقد ذكر ليَ الشاعر (الأسمر) أن أدباء الحلمية تمردوا منذ سنوات على ناديهم، وحالوا أن يكون مجلسهم في مقهى فخم بميدان الأوبرا حتى يليق بمكانتهم، ولكنهم فشلوا في تمردهم، وعادوا إلى مكانهم صاغرين! حيث مازالوا يصعدون الدرجات الأربع! وقد يكون للمسألة تعليل من التاريخ، فلنرجع إلى التاريخ

إن نادي الحلمية يتصل بحي الحلمية، وحي الحلمية حي يتميز بطابع خاص، وينفرد بتاريخ حافل، وهو أول حي أسس في مصر على طراز منظم، وقد كان موطن الأسر العريقة والسلالات التركية التي تحكم البلد، وتملك ثروته؛ وقد كان لهذا الحي ناد يشرف على شارع محمد علي في مواجهة جامع قوصون، وكان يختلف إليه كثير من الكبراء والأدباء الذين يقطنون ذلك الحي، فكان يجلس فيه المرحوم حسين باشا رشدي، والمرحوم شوقي بك قبل أن ينتقل إلى المطرية، وحفني ناصف، وإبراهيم هلال، وحافظ إبراهيم، والشيخ عبد المطلب، وأحمد نسيم، واحمد الزين، وبيرم، والهراوي، وعماد، والسيد حسن القاياتى، وكان يتردد عليه المازني أيام كان يسكن بالإمام؛ وقد أخبرني الهراوي أنه لا يذكر أدبياً في مصر لم يتصل تاريخه بذلك النادي القديم، وإنه ليتحدى من ينكر الجميل على أصحابه، وإنه على استعداد لأن يذكر من لا يذكر ماضيه!

وقد ظل ذلك النادي قائماً أيام الثورة المصرية، فانتقل إليه الشيخ مصطفى القاياتي رحمه الله، وكان الشيخ القاياتي عنصراً قوياً من عناصر الثورة، وكانت له حاشية حافلة بالشباب المفكر الجريء أمثال الشيخ عباس الجمل، والشيخ الجديلي، والشيخ البنا، والأستاذ إبراهيم عبد الهادي، وإضرابهم، فاختلط الأدب بالسياسة بين جدران النادي، فكانت تنطلق منه التدابير المفزعة والقوافي المقذعة، فضاق به الإنجليز، وأطلقوا عليه الرصاص؛ وللهراوي في ذلك شعر. . .

فلما كان سنة 1926 مات صاحب المقهى، فانفض السامر، وانقطع الزائر، وبطل الندى الحافل، وقام مكانه مطعم للفول ومستخرجاته، والعدس بجميع ألوانه؛ وراح الأدباء يتلمسون المكان الذي يجمعهم، فتأخروا خطوات عن جامع قوصون إلى جهة القلعة فوقعوا على النادي الذي هو مجمعهم اليوم والذي هو موضوع حديثاً في ذلك المقال

ولقد غدا النادي الجديد صورة كاملة للنادي القديم، فحفل بالأدباء والشعراء، وعمرت مقاعده بمجالسهم في الليل والنهار، وقصده الكبار في الأدب والصغار!

فكان يجلس فيه الشيخ عبد المطلب شاعر البادية، والحاج محمد الهراوي شاعر الأطفال والرجال، والأسمر أديب القبلتين وشاعر الأزهر، والزين شاعر دار الكتب، وحسين شفيق المصري الشاعر الحلمنتيشي المعروف، والدكتور زكي مبارك عبقري سنتريس ومعبود باريس، والسيد حسن القاياتي شاعر النبل والورع، و (مجنون) إحسان. وكان ينضم إليهم كثير من شباب الأزهر ودار العلوم وغيرهم ممن يشدون بالأدب ويعملون في الصحافة؛ وكان حافظ رحمه الله يتردد عليهم من وقت لآخر خصوصاً في الفترة التي أحيل فيها على المعاش؛ وبين جدران ذلك النادي نظم قصيدته الطويلة في هجاء صدقي باشا التي لم ينشر منها في الديوان إلا أبيات. . .

ولقد استبدت تكاليف الحياة ومطالب العيش بكثير من الأدباء فألهتم عن مجالس السمر، وحرمتهم من ذلك المجلس الطيب الشهي، ولكن ما زال النادي عامراً بأبنائه المخلصين، وما زال المتخرجون فيه يهبطون عليه بين وقت وأخر حتى الذين يسكنون في الضواحي على بعد الشقة وكثرة الكلفة. ويا له من حنين طيب ووفاء عجيب! وقديماً قيل (ما لحب إلا للحبيب الأول) ويعتبر الهراوي في هذه الأيام عميد نادي الحلمية، أو عمدة مصطبة الحلمية كما يقول صديقنا الدكتور زكي مبارك، أو شيخ السقيفة على حد تعبير المهدي مصطفى الشاعر الظريف

فالهراوي من الجلساء المخضرمين أدرك النادي السابق وكان من رجاله، وأسس النادي اللاحق وآثره بكثير من عطفه وإخلاصه، فقل أن يتغيب عنه في يوم من الأيام ودائماً يحلو له أن يأخذ مجلسه عند المدخل على سفح (الدرجات الأربع) ومن حوله الأسمر والشيخ عبد الرسول ومرتضى الخطاط، أجزاء لا تتجزأ وعصبة لا تفترق

وأدباء الحلمية نمط واحد وطراز متفق، ولهم ذوق عملت فيه الثقافة العربية أكثر من أي شيء آخر؛ وهم يعشقون الديباجة القوية السليمة، ويطيرون بالأساليب المشرقة المونقة ويذكرون شوقي وحافظ وعبد المطلب بالخير والحمد، ويترحمون على المنفلوطي والرافعي وإضرابهما؛ والزين لا يعدل بالزيات أديباً في مصر بل في الشرق. وهم يضحكون من أولئك الشعراء والأدباء المستغربين الذين يذكرون جوتة وشكسبير ولا يعرفون المتنبي والبحتري وشيخ المعرة، ويسميهم الهراوي بدجاج القريض، وفي رواية أخرى يغاث الشعر.

وكثيراً ما يدخل أدباء الحلمية في مناقشات حادة، وجدال عنيف، يصل ضجيجه إلى الشارع، ويطول فيه اللسان ويسفه، ولكنهم دائماً خلصاء أصفياء على الكراسي متقابلين.

ويجري أدباء الحلمية في فنون وأمشاج من أحاديث الأدب والنقد والدعابة، فإذا كان الحديث في ذكريات الماضي، فالهراوي فارس الحلبة، يزكيه الشيخ عبد الرسول؛ وإذا كان القول في أخبار الأدباء والشعراء فالحكم للزين والويل لمن يعترض؛ وإذا تكلم القوم في الشعر رأى الأسمر أن يخرج من وقاره فيخب ويضع؛ فإذا انتهى القوم إلى الدعابة حاولوا جميعاً أن يمدوا ألسنتهم؛ ولكن لا يلبث الشاعر الحلمنتيشي أن يضع يده على رؤوس القوم وأن يجرفهم بتياره الزاخر، حتى يقول كل منهم لصاحبه:

انج سعد فقد هلك سعيد.

وقد يبتدئ القوم حديثهم في شيء يهمهم، أو في مشكلة تعينهم، ولكنهم سرعان ما يخلعون عليه ثوب الأدب ويجعلونه حديث السمر.

فهذا الشاعر الأسمر قد جاء في أمسية يشكو إلى إخوانه أمر ساعة أهدها إليه صاحبه الهراوي فأتعبته وصارت تمشي كما يقول الأسمر تارة (عربي) وتارة. (إفرنجي) وتارة لا عربي ولا إفرنجي أما الدكتور حسين الهراوي فتناولها ثم جس نبضها وقال:

هذه (عندها ضغط دق) وهي (تحتاج إلى الراحة التامة).

وأما الدكتور زكي مبارك فنظر إليها ثم اندفع ينشد:

واها لبعض الهدايا ... بعض الهدايا رزايا

ساعات باريس عندي ... لها جميع المزايا

تدق دقاً لطيفاً ... كمثل همس مُنايا

وساعة الهراوي ... أولى ببعض التكايا

تدق دقاً عنيفاً ... كما تدور رحايا

وأراد أن يسترسل في إنشاده فهدده الهراوي بإهداء (منبه) إليه، فامسك وجبن

وأما الأستاذ حسين شفيق المصري فقال: (دي ساعة دايرة على كيفها) و (ماشيه مشى مسخرة) و (قلبها فاضي) و (عاوزة بوليس يضبطها) و (الساعاتي لما يشوفها قلبه يدق) و (أنها الساعة التي هي أدهى وأمر. . .)

وكان مجلس طيب لم يسع الهراوي نفسه إلا أن يسجله بالشعر فقال:

وساعة أهديتها ... إلى الأديب الأسمر

حسبتها في مخبر ... كما لها من مظهر

فظرفها من معدن ... مرقش منمّر

فمن بياض فضة ... إلى سواد عنبر

وعقربا مينائها ... من النضار الأصفر أحجارها كأنها ... من لؤلؤ وجوهر

فلم يكن كمثلها ... هدية من موسر

ولم يكن كمثلها ... من بائع لمشتري

وليس من تقدم ... فيها ولا تأخر

تمشي عليها الشمس في ... عطاردٍ والمشتري

وقد ظننت أنه ... بمثلها لم يظفر

حتى احتوانا مجلس ... يزخر بالتندر

فمن طبيب ماهر ... إلى أديب عبقري

وكاتب مفكر ... وشاعر مصورّ

فجاءنا الأسمر في ... زمجرة الغضنفر

ثم رمي بساعتي ... بهيئة المسنتكر

وقال فافتح محضراً ... واذكر وقل في المحضر

بأنني من ساعتي ... ومنك في تحيّر

فإنها تذبذبت ... من سنةٍ فأكثر

فتارة تَقَدُّمٌ ... إلى مدىً لم يحصر

فتسبق الليل إلى ... صباحه المبكر

وتارة تأخُّر ... لغاية لم تقدر

والآن فانظر ترها ... في وقفة المستكبر

وإن ما ذكرته ... دون الذي لم أذكر

فقلت مهلاً يا أخي ... فضحتني في معشري

فانهمرت نكاتهم ... مثل السحاب الممطر

فقائل: حق نشِو ... ق لفقيه أزهري

وقائل: محبرة ... من اختراع (بَركر)

وقائل: رقاصها ... يحتاج للمجبر

وقائل: قوموا بنا ... نسأل عنها السمكري فقلت كفوا ساعة ... عن ساعة لم تستر

أليس منكم عاذر ... حتى أخي لم يعذر

إن قصرت فإنها ... في زمن مقصر

آليت لا أهدي لكم ... شيئاً - يمين منذر

ومن أراد ساعة ... فليشتر أو يكتر

وكم في (نادي الحلمية) من مثل هذه المجالس الطيبة لو حفل أديب بتسجيلها لحفظ للناس كثيراً من السمر الطيب والدعابة الحلوة والأدب الرائع. . . ولكن هيهات

م. ف. ع