مجلة الرسالة/العدد 292/كيف نعالج الفقر؟

مجلة الرسالة/العدد 292/كيف نعالج الفقر؟

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 02 - 1939


سؤال طالما وقع في رَوع النبيين والمصلحين والفلاسفة ممن يملكون القول والدعوة، ولكنه لم يدرْ أبداُ بخلد الأمير فلان والباشا علان والبيك ترتان ممن يملكون الفعل والتنفيذ. ومن بدائه العقل أن يفكر الأنبياء والحكماء في معضلة الفقر، فإنهم نشأوا في مهده الخشن، ودرجوا في فنائه الضيق، وعاشوا في مرعاه الجديب، ورأوا بأعينهم العَبْري أثقال العيش تنوء بالظهور الضعيفة فتسقط في طريق الحياة عرضة لزواحف الرذيلة وجراثيم المرض. ومن بدائه العقل كذلك أن تبقى معضلة العقر من غير حل يطهر الأرض من سمومه، وينقذ الناس من همومه؛ فإن أرباب الحكم والتشريع والتنفيذ هم من سلائل النعمة وكناز المال، فلا يخطرون ببالهم الفقر، ولا يحبطون في حبالهم الفقير؛ وهم يظنون إذا محا الإحسان الفاقة، ونفي التعليم الجهالة، أنهم لا يجدون الخدم ولا يملكون العبيد؛ والجاه من غير أذلاء زفة من غير نظَّارة، والمال من غير فقراء مُلك بلا رعية من أجل ذلك كان الفزع إلي الأقوياء والأغنياء من عوادي الفاقة تزييفاً على الطبع وتكليفاً بالمحال. ومن أجل ذلك كان تنظيم العلاقة بين القوة والضعف، والغنى والفقر، عملاً من أعمال الله وحده، يرفِّه عليه النفوس، ويرفع به الإنسانية، ويجِّمل به الحياة. فإذا حاربنا الفاقة بسلاح الاقتصاد المحض كسنِّ النظم، وتوسيع الموارد، وتوزيع العمل، وأغفلنا أثر الحظوظ والميول والأحوال والأمراض في حياة المرء، قتلنا الفقر بقتل الفقير، كما يقتل الطبيب المرض بقتل المريض. إنما يحارَب الفقير بسلاح الدين ليس غير. وسلاح الدين في مجاهدة البؤس أنه يجعل للفقير في مال الغني حقاً معلوماً لا يصح إسلامه إلا باعتقاده وأدائه؛ وأنه يقوي الإنسانية في الإنسان حتى يشعر بالأخوة لكل مسكين، وبالرحمة لكل بائس. وبقوة الإنسانية وحدها في الدول المتدينة كإنجلترا وأمريكا أوشك البؤس أن يزول، فوجد كل مريض مستشفى، وكل هَرِم ملجأ، وكل يتيم مدرسة. وقد بلغ ما أنفقته الحكومة الإنجليزية على أعمال البر في سنة من السنين ثلاثمائة مليون جنيه، ولا يقل ما يتبرع به الشعب البريطاني للمستشفيات وحدها عن خمسين مليون جنيه في العام!

الدين هو الطب الوحيد لأدواء المجتمع؛ فإذا غرستموه في قلوب النشء، وقويتموه في نفوس الشباب، جعل من الأمة أسرة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، يعين سعيدها الشقي، ويحمل قادرها العاجز، حتى يقطعوا مراحل الحياة رافهين لا يمسهم نصب، و تجافي بينهم عداوة

مَن غير الله يستطيع أن يرقق هذه الكبد الغليظة في هذا الغني المبطان الذي غلا في الكبر، ولج في الهوى، ودلَّل نفسه على ذل الناس، وأمسك رزق الله في خزائنه فلا يطلقه إلا لشهوة أو نزوة؟

من غير الله يستطيع أن يقلَّب العَبر على عيني هذا المغرور فيريه بالشكل والمرض والهمم أن الراحة في النفس ألذ منها في الجسم، وأن الجمال في الرحمة أسمى منه في الجبروت، وأن السعادة في الإعطاء أعظم منها في الأخذ، وأن خير ما في الدنيا هو ما انتقل معه إلى الآخرة؟

هيهات أن يكون في الأرض إيمان ما دام في الأرض فقر. فإن أسباب الفقر ممدودة من الطمع والشح والأثرة؛ وهذه الخلال السوء لا تطمئن عليها نفسٌ مؤمنة. وإن من ضلال الإفهام أو الأقلام أن نعالج الفقر على أنه ناجم من ندرة العمل في البلد أو قلة الخير في الدنيا، فإن العمل ميسور للقادر، ورزق الله موفور للحي. وإذا شكت الأمم اكتظاظ المعامل ونضوب الموارد وضيق الرقعة، فإن مصر الجديدة البكر بينها وبين هذه الشكوى أن تمصِر المصانع والمعامل والمتاجر والمصارف والشركات، وما بالقليل ذلك

لا تطلبوا من الفقير العمل قبل أن توفروا له القدرة عليه. إنه جاهل فاشرعوا له منهل العلم؛ وإنه عليل فانهجوا له سبيل الصحة؛ وإنه معدم فدبروا له رأس المال. ومن بلادة الحس أن الغني يسمعك وأنت تقرأ هذا الكلام، فلا يظن المخاطَب به أحداً غير الحكومة، فيشارك في النقد، ويسرف في الإنكار، ويلح في الطلب، لأن الحكومة في رأيه يجب أن تلبي كل نداء، وأن تؤدي كل واجب. والحكومة لو درى هذا المتواكل القدم لا تتسع مواردها بكل رغبة؛ فإنها لم تجبُ منه ومن أمثاله إلا حق العمارة والأمن؛ أما حق الله عنده فقد وكلت أداءه إلى ضميره، يعطيه من يشاء متى يشاء وكيف يشاء؛ ولكن الضمائر نامت على هدهدة الشهوات، والعواطف قست على جفاف المادة؛ وبين غفوة الضمير، وقسوة العاطفة، ذهب وازع الدين فلم يبق إلا وازع السلطان

فهل يفكر أولو الأمر أن يعالجوا الفقر بما عالجه الله به فيجبوا الزكاة وينظموا الإحسان؟ إنهم إن يفعلوا ذلك لا يجدوا في البيوت عائلاً، ولا في الطريق سائلاً، ولا في السجون قاتلاً، ولا في المواخير ساقطة!

احمد حسن الزيات