مجلة الرسالة/العدد 292/من ذكريات لندن

مجلة الرسالة/العدد 292/من ذكريات لندن

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 02 - 1939



عربيد

للأستاذ عمر الدسوقي

في لندن للمصرين نَدِىّ، يختلف إليه الأخيار والأشرار؛ بعضهم لرؤية صديق، أو التزود من أبناء الوطن، أو الاستجمام من عناء الدرس؛ وبعضهم لقتل الوقت في لعب الميسر واللهو في غير كرامة ولا وقار

وكانت لنا فيه جلسات ممتعة، لمصر منها قِسط الأسد، ننتقد الساسة من غير تحرج ولا هيبة، ونضع خطط الإصلاح الجريئة، وتنفطر قلوبنا أسى ولوعة على مصر وما تعانيه، ونحتدم في جدال عنيف كله لمصر ولخير مصر

وفي ذات مساء، بينما نحن جلوس حول المدفأة، ندفع بحر ناره زمهرير الشتاء، نجول ونصول كعادتنا، في السياسة تارة وفي الأدب أخرى، إذ دخل علينا فتى في شرخ الشباب، رَبعةَ عريض المنكبين، غائر العينين بارز الجبهة، أسمر البشرة؛ فحيا بأدب، ثم اتخذ مجلسه بيننا، ينصت إلينا ولا يشاركنا، ثم بدا له فزج بنفسه في الحديث، وخب فيه ووضعن وبعد لأي قصّ علينا قصته، قال:

جئت ناديكم اليوم، أطلب الغياث والنجدة، فقد نزحت إلى لندن طلباً للعلم منذ شهرين، وأقمت مع زوجي وابنتي الصغيرة في منزل مؤثث؛ وفي ذات يوم تسلمت كتاباً من سيدة إنجليزية، تعرض فيه استعدادها لخدمتنا، مدة شهر الصوم، وتدعى أنها مسلمة من ذوات التقى والورع، وأن الذي حداها للكتابة إلينا، إشفاقها علينا، فخدعنا بكتابها المعسول، وبرحنا منزلنا إلى منزلها؛ وقضينا اليوم الأول لا نلاقى إلا كرماً وأريحية، فذهبت الوحشة واطمأنت النفوس؛ وخرجت في اليوم التالي مبكرا، وأُبت متأخراً، فوجدت زوجي تبكي وتنتحب، وقد ضمت طفلتها إلى صدرها، فسألتها، ما بالُها؟

- لقد مر بنا يوم عبوس قمطرير، قَفَّت فيه أوصالنا من القر، وجمدت أطرافنا من البرد، وجاعت فيه الطفلة حتى أشرفت على الموت، واستغثنا بربة البيت مراراً، فلم يزدها نداؤنا إلا إعراضاً عنا وازوراراً. ذهبت إليها استعطفها وأسترحمها، فأرتني وجهاً كالحاً كئيباً، وأسمعتني من هجر الكلام ما تعافه آذان الأحرار، وها أنت ذا تراني أعاني والطفلة السغب والبرد، وأضمها إلى صدري لعلها واجدة فيه دفئاً أو سلوى

- ويل لها من كذوب ماكرة! هكذا قلتن وأنا أنتفض غيظاً وْموجدة، وبودي لو أذهب إليها فأحطم رأسها أو أهشم عظمها، أو أمزّقها إرباً، ولكن عَّن لي أن أستعمل الحيلة حتى اخلص منها لا على ولا لي. فغادرنا المنزل تواً، وتركنا متاعنا إلى الصباح، ثم أرسلت من يحضره، فأبت أن ترد إلينا. فقلت: يا لعجب! إني قد وقعت منها على داهية؛ وأسرعت إلى منزلها غضبان أسفاً، فاستدرجتني حتى دخلت إحدى الغرف، ثم أوصدت الباب وأحكمت رتاجه، وأخذت تهدد وتتوعد، وتبرق وترعد. وتقول: قد أتلفتم أثاث المنزل ولن تبرح حتى تنقدني عشرين جنيهاً، أو تكتب بها صكاً؛ فكتبت ما شاءت فداءً لنفسي، وإبقاء عليها؛ وخرجت لا ألوي على شيء، وذهبت من فوري إلى محل الشرطة، وذكرت ما عانيته منها، فصحبني أحد رجاله؛ وما إن رأته حتى أصفر وجهها فرقاً ورعباً؛ فسألها عن الصك فأنكرته. فقال: إني على ذلك شهيد، وأخرج أمتعني عنوة، وحذرها بالعقاب الأليم إن هي فكرت في إيذائي. فانطلقت شاكراً له، وحمدت الله على أن نجوت من مخالبها

ولكن وا أسفاه! قد طاردني شرها في كل مكان، فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت؛ إذ أنها كتبت للإرسالية تصمني بالعربدة؛ ومرضت زوجتي وطفلتي من أثر ذلك اليوم المشئوم؛ وقد نصحني الأطباء ألاّ أبقيهما يوماً واحداً في لندن حيث لا يعين جوها على البرء والشفاء؛ فودعتها والدموع تنهمر، والقلب ينفطر وسافرا إلى مصر على ما بهما من مرض، وعدت أدراجي إلى منزلي وحيداً غربياً، لا أجد مواسياً أو حبيباً

وهأنذا يا سادتي، أناشدكم أواصر الوطنية ولإخاء، إلا أقلتموني من عثرتي، وانتشلتموني من وحدتي. فقد حجب الحزن بصري عن النظر، وغشىّ الأسى قلبي عن التفكير، وكل ما أبغيه أسرة تحنو عليّ، وتأسو ذلك الجرح حتى يندمل، وتعيني بعطفها على الدرس، وبحسن معاملتها على السلوى

فحركت مأساته الأفئدة رثاءً له وحدباً عليه، وعلت الآهات، والزفرات توجعاً لمصابهن وأخذنا نقدح زناد الفكر حتى اهتيدنا إلى سبيل نزود به وحشته، ونخفف كربته، فقلت:

- إني أقيم في أسرة أحلتني مكاناً علياً، وأنا عندهم ملء السمع والبصر، أتقلب في أعطاف الهناءة والدعة، فإن شئت أن تشاطرني ما أتمتع به من الراحة والطمأنينة، فلن تزيدني إلا سروراً

- شكراً لك، ثم شكراً؛ إني محتاج ليد قوية رشيدة في هذا البلد الغريب تهديني سبيل الحق حتى أقف على أسراره وعاداته، ولن يسعني حيَال هذه السماحة إلا القبول، والثناء العاطر، والاعتراف بالجميل

- هيا بنا الآن أريك المنزل وأقدمك للأسرة، وكن واثقاً بأنهم سيضعونك في منزلة العزيز المكرم

أخذت ألمح له أثناء الطريق بما يؤهله لاكتساب محبة الناس في هذه البلاد، وأننا هنا رسل الدعاية لمصر البائسة، فلزام علينا أن نتحاشى السفاسف والدنايا، وأن الأسرة التي سيقيم فيها، تربا بمنزلها أن يدنس، أو يكون موئلاً للفحش والخنا، أو يكون ضيفها عربيداً ماجناً، وخليعاً مستهتراً؛ لأنها متزمتة وقورة، وربها أستاذ كبير في الموسيقى، ولم ير مني إلا كل ما يشرح صدره، ولم اعهد عليه إلا التفاني في سبيل راحتي

بدت على محياه إمارات الارتياح، وأكد لي أنه سيكون مضرب الأمثال في نبل الأخلاق والرجولة، وأني سأكون فخوراً بصحبته تيّاهاً بخلاله وسجاياه

قدمته للآسرة وزكيته وأطنبت في مديحه، وقصصت ما لاقاه من عنت وإرهاق، فرثوا لحاله ورحبوا به، واخذوا يبعدون من مخيلته هذه الصورة المزرية عن بلاد الإنجليز وخلال أبناء التاميز، بحديثهم الحلو ومداعباتهم الطريفة

مضى على صاحبنا أسبوع، بدا فيه نموذجاً عالياً للأدب والظرف والدماثة والوقار، فزدنا في إكرامه والاحتفاء به. بيد أنه أخذ يتخلف عن جلسات السرة بعد العشاء، ويلزم الصمت أثناء الطعام، ثم يفر إلى غرفته فرار الظليم، فرابنا أمره وخشينا أن تكون قد حلت به كارثة، فتبعته مرة، وطرقت باب غرفته، فلم يجب، فواصلت الطرق فترة غير وجيزة، وأنا أناشده الله إلا أفضى إليّ بدخيلته، وبدواعي وجومه وعبوسه؛ ففتح بعد لأي، وشرر الغيظ يتطاير من عينيه، وفي وجهه اكفهرار وامتقْاع ويداه ترتعدان كالمحموم، وابتدرني قائلاً بصوت متهدج يفصح عن الوجل والحنق:

- ماذا تريد؟ لن أسمح لك بدخول حجرتين، اقصر عطفك على نفسك، فلست حدثاً غِراً!

- أسف يا هذا! فلم يدر بخلدي أن مثلك، وقد كان بالأمس سمحاً وديعاً، سيظهر اليوم سافلاً وضيعاًن ما حفزني للمجيء إليك إلا عطفي عليك، وظننت أنك تقاسي همَّاً دفيناً، وأنك ستهش لحديثي وتبش، وقد جئتك لأسري عنك، أما وقد طرقت أذنيَّ كلماتك البذيئة، فأعد نفسي متطفلاً وأنت وشأنك

انطلقت إلى غرفتي، موهماً الأسرة أني لا أزال عنده وأخذت أفكر فيما عساه يكون سره، ولم حرص جد الحرص على عدم السماح لي بدخول مخدعه، ولكن أعياني الفكر، فلم أهتد إلى إجابة مقنعة، بيد أن الشك أخذ يساورني، ويخيله إليّ شيطاناً مريداً، قد أتى أمراً إداً، ورغب في إخفائه عنا

جاءتني ربة المنزل بعد يومين وأنا أتناول طعام الفطور وقالت:

- إن صاحبك هذا مأفون معتوه، فقد خرج بملابس النوم في الطريق لابتياع إحدى الصحف، ولا ريب أن هذا مخل بالآداب في عرفنا وتقاليدنا، وأخشى أن يراه رجل الشرطة فيقبض عليه تركت الخوان مسرعاً؛ وهرولت وراءه، وحاولت أن أرده إلى صوابه، وأبين له أن خروجه هكذا خطل سيعرضه للبرد القارس، والانتقاد المر؛ وتدخل رجال الأمن، وأن إنجلترا ليست كمصر فوضى لا يعرف الناس فيها نظاماً للأزياء

- لقد نهيتك من ذي قبل ألا تُعنَى بأمري، وأن تدعني وشأني، فأنا أعرف بآداب اللياقة منك

- إننا أبناء وطن واحد، وما يلحقك من العار والمهانة سيلحقني كذلك؛ لن يتحدث الناس هنا بأن فلاناً أخطأ، بل سيقولون: أحد المصريين أجرم؛ فرفقاً بسمعتنا، وتقبل نصحي، فقد مضى عليّ بهذه الديار أمد غير قصير

عاد إلى المنزل وهو يزمجر كمن أخذته العزة بالإثم، وكبر عليه أن ينصاع لطلبة غيره

عزوت كل هذه التصرفات لجهله بعادات القوم، فلم آبه لتعنيفه وتقريعه، وأخذت أتلمس العلل والمعاذير لكل ما يصدر عنه فعال يندى منها الجبين خجلاً أمام أناس لا يذكرون عن مصر إلا المشوه من الحقائق. ولكن صاحبنا ظل سادراً في غوايته لا يستمع لموعظة، أو يتعلم من تجربة؛ فجاء ربة البيت في ظهيرة أحد الأيام، وطلب منها أن تطهي له دجاجة على الطريقة المصرية، فاعتذرت بأنها لا تعرف قليلاً أو كثيراً عن الطعام المصري، وأولى له أن يباشر طهيها بنفسه، إن كان لا يزال على رأيه.

فأخذ يكيل لها السباب، ويؤول رفضها بامتهانها له، وعدم تقديره، ولج في وقاحته وسلاطته حتى أبكاها.

فذهبت محنقة تتميز من الغيظ، وانتظرت مقدمي على أحر من الجمر، وما أن دخلت المنزل حتى قصت على قصته منفعلة، وأصرت على طرده من المنزل، لأنها لم تسمع مثل هذه البذاءة طوال حياتها؛ فأخذت أهون عليها الأمر، وأعذر تصرفه هذا لشدة حساسيته، شأن كل غريب في بداية حياته ببلاد لم يألف طباع أهلها.

ضقت بهذا الغبي ذرعاً، ولعنت الساعة التي لاحت فيها طلعته الكئيبة علينا؛ وأعملت الفكر عسى أن أوفق إلى سبيل أصرف به هذا الوباء، وقد أصبح كالدمل الممد، أحمله في رقعة من جلدي، ينغص عليّ هناءتي، ويكدر راحتي. أي شيطان رجيم سول له أن يطهى دجاجة على الطريقة المصرية؟ ذهبت علني أجد عنده جواباً شافياً، وطرقت بابه بشدة وغضب، وفي عزمي أن أعطيه درساً لا ينسى؛ فسمعت همس سيدة من الداخل تحذره من الفضيحة إن استجاب لقرعي، بيد أنه فتح الباب على مصراعيه، وقال بصوت المستهتر الماجن المجازف، الذي غاض الحياء من وجهه وكان يترنح سكراً، ويبتسم ابتسامة داعرة:

- هذه فلانة، وقد كانت هنا حينما أنبتك في المرة السالفة على طرقك بابي، وأبيتُ أن أدخلك غرفتي؛ ولا يعنيني الآن، أن تطلع على ما كنت أخفيه، فسوف أنتهج طريق العربدة، ولا أعيرك أو غيرك التفاتاً.

- لكنك رجل متزوج، ولك طفلة، وهذا مُزْرِ بك، محط لقدرك، وسيلهب أهل المنزل عليك سخطاً وغضباً؛ ثم إن ما تأتيه من المنكر، مخالف للقانون، فليس هذا بيتاً من بيوت الخنا والدعارة، ويخيل إلى أن رفيقتك لم تبلغ بعد سن الرشد، وسيكون جزاؤك، إن فضح أمرك، السجن أو الطرد من هذه الديار، فعجل بإخراجها، وإلا داهمك رجال الشرطة.

- هاها. . . هاها. . .! نعم أنا متزوج ولكني أرسلت زوجتي إلى مصر تخلصاً منها، لا لمرضها كما أخبرتك كذباً؛ ولست أعبأ بما يحط من قدري في هذه البلاد، فقد استمرأت هذه الحياة بمصر وأنا لا أزال عزباً؛ أنا مستعد لأذكر لك تاريخ حياتي، إني رفعت راية الشر والفسق عالية خفافة، وما تزوجت رغبة في الزواج، ولكن طمعاً في مال من تزوجتها؛ وقد تنازلت لي الساذجة عن كل ما تملك، فليس ثمة حاجة إليها بعد ذلك، بل إني أريد أن أبين منها إلى الأبد، حتى أكون حراً طليقاً. نحن نختلف، يا صديقي، في نظرتنا إلى الحياة؛ ولست أخشى رجال الشرطة، فما أتت هذه الفتاة إلا طواعية واختياراً؛ ولن أترك المنزل، بل عليك أنت أن تغادره، إذا كان مقامي به يزعج وقارك وتزمتك. لِمَ لا أنهل من مورد اللذات وأثمل، أينما شئت وكيف شئت؟ أليست هذه بلاد الحرية كما ينعتها قاطنوها؟ ليست هذه أول فتاة وليس ما ترى أول كأس من الخمر أحتسيها، افعل ما شئت!!

- أيها الوغد الدميم، إنك تبحث عن حتفك بظلفك، ولن تجد مني بعد الساعة هوادة في التنكيل بك، تطهيراً للمجتمع من حثالاته، وعبرة لأمثالك الطائشين، الذين لا أخلاق لهم، ولا ضمير يعنفهم، ولا شرف يردعهم.

أخبرت ربة البيت بكل ما حدث، فاقشعر بدنها هلعاً وقطبت أساريرها احتقاراً، وعدت ابنتها تنادي رجل الشرطة؛ ولكن الطير قد أفلت من سجنه، فلم نقف للفتاة على أثر، وطرد العربيد شر طردة، ووضع تحت مراقبة شديدة صارمة.

هجر لندن بعد أن سدت في وجهه المسالك أنىّ ذهب، وأقام في إحدى ضواحيها غير متوان عن الغواية والضلال.

علم أترابي الذين سمعوا قصته الأولى بما آل إليه أمره، وما أقترف في حق مصر من الآثام، وما لطخ به سمعتنا من الوصمات، فعزموا على شكايته للقنصلية المصرية، حتى تقصيه، ولكن رقت قلوبهم فلم يفعلوا، وإن كان عجبهم قد بلغ أشده، حينما علموا أنه من أعضاء البعثات، وأنه طلق زوجه في النهاية.

ليت شعري لِمَ يُوفد مثل هذا؟ أليكون سبة وعاراً علينا، ومثلاً حياً متنقلاً تقذي منه العيون، ويعافه المجتمع، ويلعنه الناس أينما حل، والبلاد التي لفظته، والأمة التي ينتمي إليها؟؟

عمر الدسوقي