مجلة الرسالة/العدد 293/رسالة المرأة
مجلة الرسالة/العدد 293/رسالة المرأة
َالة المَرأة
بين المرأة والرجل
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
الشرق والغرب شرع واحد في المسائل التي تتناول الأحاسيس والعواطف، بل الحب - بنوع خاص - في مختلف أنواعه وحالاته، والمرأة هي هي في كل مكان وزمان. والتحليل الدقيق للقصص الأربع التي حضرة الأديبة الكبيرة محررة (رسالة المرأة) باستطلاع آراء القارئات فيها، يجعلني أردّ تصرفات المرأة في كلٍ منها إلى تلك الأصول البدائية التي ركزتْ في نفسها مركبات قوية متناقضة تكاد تكون من الغرائز النسوية لأنها اندست في أغوارها حقباً طويلة دون أن تدريها، فطبعتْ سمتها على حياتها وآرائها، ووجهتها إلى نواح متشعبة كانت مصدراً خفياً لأعمال تنفع وتضر على السواء. ولعلّ من أعظم هذه المركبات ما يسمى (مركب النقص) فإن المرأة منذ بدء عصور التاريخ البشريّ قد كانت في الغرب موضوع حب الرجال وإعزازهم، وكان التغني بمحاسنها والتشبيب بها موضوع قصيدهم وأناشيدهم، على أنهم رغم بلوغهم أوج التعبد لها، ما برحوا حتى العصور الوسطى بل والحديثة يوجسون خيفة منها ويعدونها بلاءً مقيماً وشراً مستطيراً. وكانوا إذا تفوقت إحدى النساء في ذكائها أو بسالتها يتهمونها بالسحر والشعوذة، ويجعلونها غرضاً لسهام طغمة كبيرة من رجال الدين. أما في عصور الوثنية والجاهلية في الشرق فقد أجلسوها على عروش الربوبية، وجعلوا من العذارى الجميلات كاهنات لمعابد أصنامهم، ثم بقيت من العصور الوسطى وما بعدها كأنموذج لحسنٍ ضائع، وكقنية ثمينة يدخرها الملوك والولاة في قصورهم، أو ملهاة جميلة يتسلون بها بعد عودتهم من غزواتهم ورحلات قنصهم، ثم اتخذوا منها إكليل الغار الذي يتوّجون به كل بطل صنديد مكافأة له على شجاعته، أو ثمناً لعبقريته ومواهبه. . . ولقد أدّى هذا كله إلى إشعار المرأة بعجزها ونقصها، ودفعها إلى تغذية رغبتها في الظهور أمامهم لا بمظهر الندّ والنظير فقط، بل محاولة التفوق عليهم وعدم الاستخذاء لهم، والجدّ في الظفر بإخضاعهم لنفوذها الآمر. وعندي أن هذا هو (مركب النقص) الذي يعدّه كثيرون من كتّاب المرأة غريزة أساسية من غرائزها، بل ميلاً قوياً من ميولها الفطرية التي تغريها بحب السيطرة في إيجاع وإي الرجل، ولكني أرى أن هذه الغريزة المزعومة ليست أصيلة في المرأة، بل هي في الحقيقة صورة ظاهرة من صور الحب التي مرجعها حب الذات، والتي تختصر تاريخ النزاع المديد الشديد الذي قام بينها وبين ذلك الرجل الذي ظل أحقاباً متعاقبة يقهرها ويحتجزها كغرضٍ من أغراض العاطفة الرخيصة. على أن ذلك النزاع لم يلبث أن استحال إلى حرب نظامية تطورت وصارت خطة سياسية أو وسيلة نسوية، أخذت الآن تتضاءل وتتقلص حتى لتكاد تختفي في أعلى طبقات السيدات تهذيباً وأرقاهن علماً وثقافة. .
أجل، هي صورة ظاهرة من صور الحب التي مرجعها الذات والرغبة في إثباتها بشكل أكمل وأوضح، وتحديد مكانها في حيز الوجود. بل هي مظهر راق لحب الذات مصدره إعجاب المرأة بالقوة، ذلك الإعجاب الذي ينسبه سبنسر فيها إلى نمو شعورها الديني، وحنينها إلى اللياذ بقوة أعظم من قوتها، فهي حين تظهر سيطرتها على الرجل، إذ تطالبه باستعراض مجازفات إقدامه وصلابة مكسره وصرامة بأسه أمام الملأ، إنما تريد أن تتبذخ بقوته، لأنها كما تقول الكاتبة الإنجليزية جورج أليوت: (لا تستطيع أن تتعلق بالرجل الخوار الهشيم). ثم إنها حين تستفز فيه روح المنافسة والغيرة، ولو عن طريق الخطار بحياته، تعمد إلى امتحان حبه، وتتطلع إلى مبلغ تهافته على الاستئثار بإعجابها، وإرضاء نزعات تدللها وتيهها، بطرائق تسير ذكرها في الآفاق، وتفشي تدلهه بحبها على الألسنة، وترجِّع صدى هيامه بها في المحافل، وتذهب سمعه في الناس، ولا تتوانى في سبيل سعيها لامتلاك قلبه عن إثارة زهوه بتقريظ شهامته وتملق رجولته وإطراء نخوته، فلا يتوانى هو بدوره عن حمل نفسه على المخاوف والمعاطب واقتحام الهلكات والمتالف.
ولكي نقرب من إنصاف المرأة مع ذلك، أصرح بأن ما يبدو منها من حب السيطرة، لا يمكن أن يؤخذ على معناه المطلق، لأنه لا يتجاوز ميلها الفطري إلى التسلط على قلب الرجل، ونيل الحظوة في عينيه. ولئن رغبت في أن تكون محبوبة منه بكل قواه، فإنما رغبتها الأولى أن تكون هي المحبّة. وأكبر اعتقادي أن ما تبذله من قبيل استمالته إليها، ليس إلاّ نتيجة لتلك الرغبة الملحة، وعلى كل حال فرغبتها ورغبته مترابطتان، والغالب أن يكون الحب متبادلاً بينهما. ولقد قدمتُ أن المرأة الراقية المهذبة، قد تمكنت بفضل العلم الناضج من معالجة (مركب النقص) الذي أذكته فيها سيادة الرجل في مثل البيئات والأحوال الخاصة التي سردتها حضرة الآنسة الفاضلة (زينب الحكيم) في قصصها، وأصبحت الفتاة اليوم تتوخى في عهد خطبتها وسائل متزنة للسيطرة على قلب خطيبها وشريك حياتها، فأبت أن تتبع ما كانت تتبعه أختها في العهد الماضي من ضروب إحاطته برعاية الأم الحانية على طفلها الرضيع بنواهيها العديدة، لأنها قد تحققت أن فتى اليوم، يكره القيود التي تغلّ الإرادة وتشلّ القوى، ويرفض الانصياع لمنْ تمخضه النصح على الولاء، بارتداء الملابس الصوفية إذا ما لاحت بوادر الشتاء، واستصحاب زوج إضافي من الجوارب السميكة إذا خرج لمباراة في لعبة الجولف ليتقي بها الأمطار في حالة هطولها، وأن يتعشى بفالوذج اللبن والبيض، وأن يعني بتهوية مسكن العزوبة المجدب من أناقة المرأة وعنايتها؛ لأن الحياة الرياضية، التي يحياها فتى اليوم، في فرق الكشافة والجوالة والتدريبات العسكرية، قد جعلته واسع الحيلة في شؤون المعيشة، شديد الاعتماد على نفسه، كبير القدرة على العناية بصحته وبمسكنه، وأصبحت فتاة اليوم تتجنب إظهار امتلاكها له أمام الناس، والتحدث بحقوق الاختصاص التي وضعتها عليه كما لو كان بعض الدواجن التي تدللها وتستصحبها معها في المنتديات العامة مباهية بسيطرتها عليه. وأصبحت تتجنب الاعتداد بنفسها، والاستعلاء عليه وإبداء البرودة نحوه والإكثار من معاتبته والتفلسف في تحليل كل صغيرة وكبيرة من تصرفاته ومحاسبته على كلماته والإغراق في أخذه بمغالبات جدلية ومناقشات منطقية، وإملاله بسرد النظريات العلمية والتخيلات الروائية، وإذاعة المعلومات وآخر النشرات الإخبارية الشائعة بين أفراد طبقتها، والظهور أمامه بمظهر الحزن والاكتئاب والتجهم ويقظة الضمير والإفراط في ادعاء الورع والتدين، وتحوير الأمور وتحريفها وقلب ظاهرها لباطنه؛ وأخذت تبدو أمامه على الدوام متهللة الغرة، قريبة منال البشر، طيبة النفس فكهة الأخلاق، في احتشام الفتاة، وخفر العذراء، وكرامة السيدة وجلالها وصراحتها وثقتها ومحبتها ووفائها وطاعتها. . ولعله يحسن بي أخيراً أن أنتحي ناحية الرجل فأقول إنه يستطيع تحقيق المثل الأعلى للفتاة كزوج حين تجتمع فيه أنبل ميزات الرجولة وأكرم أخلاقها وأمجد مناقبها، فتجد فيه القوّام المخلص العطوف المطاوع، والشريك الحازم الرشيد الأمين الكريم الذي يتفانى في توفير أسباب الراحة والطمأنينة لها، ويتعاون معها على إسعاد العمران، والسمو بالمجتمع الإنساني إلى مراقي الكمال المنشود.
الزهرة