مجلة الرسالة/العدد 294/أين أنا؟

مجلة الرسالة/العدد 294/أين أنا؟

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 02 - 1939



للأستاذ محمد سعيد العريان

(أين أنت يا صديقي؟ منذ كم ألتمس لقياك فلا أجد سبيلاً إليك!)

هكذا سألني صديقي وقد لقيني على الطريق منطلقاً لبعض شأني على غير ميعاد. . . فأخذت أسال نفسي سؤاله إياي: (أين أنا؟)

هأنذا واقف بازائه على حيد الشاعر استمع إليه وهو يفيض في الحديث سائلاً ومجيباً، وعاتباً وعاذراً؛ ولكنني مع ذلك لسن هنا!

أن نفسي هناك. . . بل أنني على التحديد لا أعرف أين نفسي!

في هذا المكان الذي يجمعني وإياه، كنت وكان، ولكني مع ذلك لا أكاد أشعر أنني وإياه في ذاك المكان!

(أين أنت يا صديقي؟)

عجباً؛ أنه ليراني بازائه لأراه، وأنه ليعرف مكانه من نفسي؛ وإن الحب الذي وجد بين قلبينا لخليق بأن يلهمه الجواب ولكنه مع ذلك يسأل، ولكنني مع ذلك لا املك الجواب!

(أين أنا؟)

لقد اخطر هذا السؤال في بالي معاني وصوراً جمة، تذكرني حيث كنا. . . ويوم كنا. . . وتنشر على عيني صحائف من ذكريات الماضي ومشغلة الحاضر وأماني المستقبل!

هأنذا واقف بازائه على حيد الشارع جسداً إلى جسد، فإنني لمعه، ولكنني لست في هذا المكان! وإنني لبعيد عنه، ولكنه معي في سياحة فكرية طويلة تنتقل حيث شئنا في ذكريات الماضي الغابر ونطوي السنين في لحظات!

أتراه كان يراني؟ أتراه كان يعرف أين مكاني؟ هل كان بازائه في تلك اللحظة إلا جسداً وصورة؟

أنه ليسألني: (أين أنت؟. . .) وإنني لأسال نفسي. . .

هل كنت معه؟ هل كنت بعيداً عنه؛ هل كان يجمعني وإياه مكان؟ هل لقيني جسداً أم لقيني فكراً وعاطفة؟ هل كان الذي معي هنا على حيد الشارع هو الذي معي هناك في وهمي وفي ذكريات أين كنت وأين كان؟ أين وأين؟

ليت شعري ما الحقيقة؟ وما الخيال؟ أين يلتقيان وأين يفترقان؟ وأين الحد الذي يفصل بين دنيا المنظور ودنيا التصور؟

هانذا ما أزال أسال نفسي: (أين أنا؟) وهذا سؤال صديقي ما يزال يرن في أذني: (أين أنت؟) وما تزال يدي في يده، وما زلنا واقفين جسداً إلى جسد على حيد الطريق!

وتحدث صديقي إلى ما شاء وتحدثت إليه، وهم أن ينصرف لشأنه وهممت؛ وعاد يسألني:

(وأين ألقاك بعد؟)

أين يلقاني وأين ألقاه؟

ها هو ذا يوليني ظهره ماضياً إلى غايته، ولكنه معي، ولكنني معه، ولكنه يسألني: (أين ألقاك؟)

أتراني وإياه الساعة على فراق أو على لقاء؟

منذ لحظة كان وكنت وأنه ليسألني: أين أنت؟ وأنه ليسألني الساعة أين ألقاك! وما افترقنا بعد!

أتراني معه هناك أصحبه في طريقه أم تراه هنا يصحبني؟

جسدان كانا معاً منذ لحظة فافترقا ومضى كل منهما على وجهه، ولكنه ما زال معي يصحبني في طريقي وما أزال أصحبه لا ريب

أأنا الذي معه هناك يناجيه في طريقه أم أنا الذي هنا؟

أهو الذي معي الساعة أتحدث إليه أم هو الذي مضى وخلفني؟

اثنان هنا: أنا وهو، واثنان هناك: هو وأنا، واثنان كانا جسداً إلى جسد يتناظران على حيد الشارع منذ قليل. . .!

أي هؤلاء أنا وأيهم هو؟. . . أينا الحقيقة وأينا الخيال؟. . .

أأنا واحد أم اثنان؟. . . وهو، ما هو؟ وكم هو؟

أنني أنا مع نفسي الساعة لا ريب، فمن ذاك الذي يزعم صاحبي في وهمه أنها يماشيه ويسر إليه النجوى؟

وإني لأشعر أن صاحبي هو معي الساعة؛ فمن ذاك الذي مضى بعيداً؟ أترى ذاك الذي مضى بعيداً يعرف هذا الذي معي أو ينكره؟

أم تراني أعرف ذاك الذي يماشيه صديقي ويزعم أنه أنا وما هو أنا؟

يا عجبا! أنني لا أكاد أنكر نفسي!

ها هنا أصل وصورة؛ فمنذا يمايز بينهما؟

ها هنا حقيقة وظل؛ فأي الاثنين أنا؟

. . . وطال علي الطريق وما ظفرت بجواب؛ وبرمت بصاحبي الذي كان يماشيني وأناجيه فأنسيت ذكره؛ وأحسب صاحبي الذي هناك قد مل ملالتي فأنسى ذكرى. . . . . .

وشعرت فجأة كأنما ثابت إلى نفسي. . .!

وكأنما كان جزء مني بعيداً عني فآب أليّ!

وأحسست إحساس الحي بوجوده!

ووجدت بعد لأي جواب ما سألت نفسي!

(هأنذا. . . هانذا. . . أنني أنا هنا!)

أين كنت؟ ومن أين عدت؟

وهل كنت شيئاً قبل له كيان وله مكان؟

سل الطفل ساعة مولده: أين كنت أيها الوليد قبل أن تصير جنيناً في بطن أمك؟)

فلو عقل لسؤال وعني الجواب لما أطاق

سله أولاً: هل كنت؟ قبل أن تسأل: أين كنت؟

أنا ونفسي شيء واحد: لو انفصل منهما شي عن شيء لما كان ثمة شيء!

ما أنا؟ حين يكون خيالي بعيداً عني؟

ما أنا؟ حين تتعلق أوهامي بما ليس في يدي؟

ما أنا؟ حين تمضي بي الذكريات إلى غير عالمي وتحاول أن تعيش بي في غير أيامي؟

ما أنا؟ حين أفكر فيك، أو فيه، أو فيها وأغفل عن حقيقة نفسي؟

ما أنا حينئذ بشيء؛ فلا أنا هنا ولا أنا هناك ولكنني أشلاء!

نحب الشيء ونتمانه، ونتخيل ساعة الظفر به؛ فنحس في أعماقنا ساعة نحب ونتمنى ونتخيل - أننا لا نشعر بوجودنا الكامل في أنفسنا؛ لأن الشيء الذي يكمل وجودنا ليس في يدنا؛ ثم نظفر بما كنا نحب ونتمنى ونتخيل، فلا نشعر حينئذ بوجودنا الكامل في أنفسنا؛ لأن الشيء الذي يكمل وجودنا لا يمكن أن يأتي من خارج انسفنا!

ونأسى على ما فات، ونتلهف على سوالف اللذات، ونتخيل عودة الماضي إلينا أو رجعتنا إليه؛ فما نحس ساعة نأسى ونتلهف ونتخيل أننا إحياء لنا وجود محدود بزمان ومكان؛ ولكننا فكرة أو حلم أو أمنية: صورة ما لها مثال، ووهم ما له حقيقة!

. . . ولكن الإنسان على ذلك لابد له من أمل يسعى إليه، أو ماض يحرص على ذكره؛ أفيكون ذلك لأن الله الذي برا الخلق حين منح الإنسان نعمة الوجود قد حرمه نعمة الشعور بالوجود؟

إلا الطفل: أنه هو وحده الذي يعيش في حقيقة الوجود، ليس له ماض وليس له أمل؛ أنها هو نفسه شيء واحد منذ كان إلى أن يأذن الله! ولكنه لا يدري! ولكنه لا يدري!.

تعاليت يا رب! شهدت أن لا إله إلا أنت؛ لأنك أنت وحدك الموجود؛ وكل ما عداك ظلال وأوهام وأباطيل!.

(شبرا)

محمد سعيد العريان