مجلة الرسالة/العدد 294/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 294/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 02 - 1939



النظام الشمسي للمادة

كلمة لازمة قبل التعرض للحياة

للدكتور محمد محمود غالي

تجزئه المادة والرجوع بها إلى علاقات زمنية مكانية - الذرة

في المادة تمثل نظاما شمسيا - أمثلة من هذا النظام في المواد

المختلفة

يرى القارئ وهو يقلب صفحات هذا المقال أشكالاً تشبه الأشكال التي كان يحاول كل منا رسمها وهو على مقاعد المدرسة عندما ملك كل منا لأول مرة بركاراً (برجلاً) للرسم، وقد يعتقد القارئ بادئ الأمر أن هناك خطأ مطبعياً لورود هذه المنحيات المنتظمة التي حاولها كل منا في حداثته وسط مقال يتعلق بالمادة وبالحياة ويحاول كاتبه أن يجد تفسيراً لهما، وبدهى أن تتملكه الدهشة عندما يطالع في عنوان المقال (كلمة لازمة قبل التعرض للحياة)، ثم يتأمل هذه الأشكال: ترى ما العلاقة بين المادة أو الحياة وهذه الرسوم المنتظمة؟ أية رابطة بين الكائن الحي وأغرب ما فيه الإنسان المفكر، وهذه المنحيات والقطاعات التي تذكرنا بعبثنا في حداثتنا. . . هذا ما سيجده القارئ بين هذه الأسطر وفي المقال الذي يليه

كل ما في الكائنات في حركة دائمة - عندما ترى قطرة ماء صافية على ورقة من أوراق الشجر وسط حديقة في يوم هادئ خف نسيمه ووجم كل ما في المكان من كائنات، قد يخيل إليك أن كل ما هو حولك في هدوء تام، والواقع أن أياً من هذه الكائنات، حتى نقطة الماء، بعيدة كل البعد عن هذا الوصف من الهدوء، فلا نقطة الماء في سكون ولا ورقة الشجرة التي تحملها؛ إنما السكون جزئي بالنسبة إليك وليس بالنسبة للكون. نعود إلى نقطة الماء فكل جزء منها مركب من ذرات من الأكسجين والهيدروجين، كل ذرة من هذه مجموعة شمسية تشبه الشمس والأرض وسياراتها التسعة وأقمارها

ليتأمل القارئ معنا أصغر ما في هذه المجموعة وهو الإلكترون يجده يدور حول نفسه ث حول النواة مركز الذرة، كما تدور الأرض حول نفسها ثم حول الشمس، على أن هذه المجموعة من الذرات تكون جزءاً دقيقاً من الماء ذكرنا فيما تقدم أنه في حركة دائمة ذهاباً وإياباً، صعوداً وهبوطاً، بالنسبة لمجموعة الجزيئات الأخرى المكونة لنقطة الماء. هذه الحركة الأخيرة كبيرة جداً بالنسبة لحركة الإلكترون الدورية المتقدمة، حتى أننا نرى أثرها إن لجأنا إلى تلوين هذه النقطة بأية مادة كولويدية واستخدمنا الالترابيكروسكوب. على أن هذه الجزيئات المكونة للنقطة تدور مع الأرض حول محورها بل تدور مع الأرض حول الشمس - على أن الشمس بدورها تدور ومعها الأرض والسيارات التسعة دورة أخرى مداها حوالي 300 مليون سنة لتعود إلى وضعها الأول بالنسبة لمجموعة الشموس التي هي إحداها. على أن هذه المجموعة من الشموس ومنها شمسنا تبتعد في الحيز بالنسبة للمجموعات الأخرى المجاورة لها، وتبلغ سرعة ابتعاد بعض هذه المجموعات أو العوالم بعضها عن بعض 25 ألف كيلو متر في الثانية أي أنها تقطع في الثانية الواحدة مسافة كالتي تفصلنا عن الصين، وهكذا لو أردنا أن نبحث حركة الإلكترون، أصغر ما في نقطة الماء أو حركة جسيم آخر في الورقة الحاملة نقطة الماء، بالنسبة للحيز، لتملكنا الدهشة، ولأدركنا أن كل ما في الحديقة، على ما يبدو عليها من هدوء ظاهر، بعيد جد البعد عن السكون والراحة

إنما ذكرنا ما تقدم لأن العلوم اليوم تتقدم نحو مقصد جديد، ذلك أنها تحاول الرجوع بالأشياء إلى علاقات مكانية زمانية - وعندما يصل الإنسان إلى الرجوع بكل الظواهر إلى مثل هذه العلاقات، في الزمن وفي المكان، نكون قد اقتربنا من قمة العلم ونهاية المعرفة. أما وقد تعرضنا للحياة وهي التي تبدو لنا مظهراً من مظاهر المادة فلنحاول أن نعرف إلى أي مدى وصل بها العلماء في هذا السبيل.

قبل أن نتكلم عن المادة الحية كالخلية وجسم الإنسان ونبحث هل تمكن العلماء في تجديد جسيماتها بعلاقة مكانية زمنية يجمل بنا أن نشرح للقارئ إلى أي درجة وصلوا بالمادة الصماء (عادمة الحياة) إلى مثل هذا التحديد.

يتكون الجزئي للعناصر المادية كالحديد والذهب من مجموعة من الذرات وقد ثبت أن الذرة ليست أصغر ما في المادة، ذلك أنه أمكن عمليا فصل الإلكترونات عن الذرة وإثبات وجودها فيها، وقد تبين ذلك في بادئ الأمر أولاً لوجود ما نسميه الذرات المتأينة في المحاليل وهي ذرات فقدت أو اكتسبت إلكترونات وهذا ما يثبت وجود الإلكترون في الذرة؛ وثانياً لما يمكن أن تصدره الذرة من الإشعاع، وما دام الضوء موجات كهربائية فلابد أن هذا الإشعاع نتيجة لعملية كهربائية حدثت داخل الذرة نعلم الآن أنها حركة الإلكترونات أي ذرات الكهرباء داخل الذرة

ويطول الشرح لو أردنا أن نذكر للقارئ سلسلة التجارب الطبيعية التي تثبت ذلك. ولعل النتائج التي نشأت عن اكتشاف (بكارل) الفرنسي للنشاط الإشعاعي واكتشاف مدام كيري أستاذة السوربون للراديوم، لا تجعل اليوم مجالاً للشك في إثبات حقيقة تفتت الذرة الكيميائية وأنها تتركب من مركز رئيسي يسمى النواة ومن عدد الإلكترونات تدور حولها

هذا التركيب الذري كان وما زال هدفاً لسلسلة من الدراسات الطبيعية التي ترمي إلى معرفة النموذج الذي تتألف منه الذرة أي صورتها المكانية سواء فيما يخص النواة أو الإلكترونات التي حولها. ولقد كان للعالم الإنكليزي المعروف رذرفورد الخطوة الأولى لمعرفة هذه الصورة المكانية للذرة. وتنحصر دراسته الأولى في قذف الذرة أي ضربها بإشاعات مختلفة، ودراستها ودراسة هذه الإشعاعات بعد ذلك. وقد اثبت بهذا أن الذرة مجموعة لجسيمات منفصلة الواحدة عن الأخرى ولكنها مرتبطة بعضها ببعض بقوة جاذبية تعادل قوة دوران هذه الجسيمات حول الذرة وبعبارة أخرى اكتشفت (رذرفورد) في الذرة نظاماً شمسياً يشبه نظام مجموعتنا الشمسية، ولكن يختلف عنه في أن القوة الجاذبية في المادة قوة كهربائية بين شحنة موجبة وشحنة سالبة بينما القوة بين الشمس والأرض هي القوة الجاذبية النيوتونية أي بين الكتلة والكتلة

على أن نظريات (رورفورد) وغيره الخاصة بنماذج الذرات المختلفة لم يكن التقدم في كل حالة حليفها، فقد تقدمت تارة وعثرت أخرى، ونرى ونحن نطالع الآن اجمل باب تعثر عليه في فلسفة العلوم الطبيعية كيف اتخذ نظام رذرفورد الشمسي للمادة طريقاً متعرجاً غير مستقيم، وإن شئنا أن نسطر هنا ما صادف هذه الآراء من عقبات ووثبات لسطرنا نصف العلوم الطبيعية الحديثة، ولكن لا مناص من أن نلخص يوما هذه المسائل وهي من أبدع ما وصل إليه الفكر البشري من الجمال والتنسيق، عندئذ نذكر قصة بالمير ثم انتصارات بوهر الدنمركي الذي كان مساعداً لرذرفورد. فليست هذه من المسائل التي يجوز إغفالها، ونكتفي الآن أن نذكر أن الأخير وفق بين النماذج الشمسية لرذرفورد، وبين نظرية الكم للعالم الكبير بلانك ولبوهر تعزى فكرتان أساسيتان في الفلسفة الحديثة، الأولى تتلخص في أنه يجوز لنا أن نفترض كل الأقطار أي الأطوال في مسارات المجموعات الشمسية الخاصة بالعالم الكبير بينما لا يجوز لنا أن نفترض إلا أطوالاً معينة لمسار الإلكترونات. والفكرة الثانية: أن الإشعاع وفق آراء (بوهر) هو جهد حادث من وثبة للإلكترون حول النواة من مسار إلى مسار أقرب منه لها

إنما أذكر ذلك ليعلم القارئ أن النموذج الشمسي (رغم ما دخل عليه من تعديل بعد الميكانيكا الموجبة للعالم (دي بروي) لم يكن مجرد العلم التخميني أو النظري بل كان يتصل بكل الفروع الطبيعية الأخرى وبخاصة التحليل الطيفي، وعندما تتاح لي الفرصة لأطلعك على الانتصارات الكبرى التي حازها بوهر وغيره تصبح هذه الحركات الإلكترونية في المادة الصماء أمراً عند القارئ لا يقبل الجدل.

نعود للنموذج الشمسي ونترك البراهين عليها في الوقت الحاضر؛ فالذرة وفق (رذرفورد) مجموعة شمسية تتوسطها نواة كالشمس شحنتها موجبة وتدور حولها إلكترونات كالسيارات التسعة شحنتها سالبة، ويصح أن تحوي النواة عدداً من الوحدات السالبة تتعادل مع عدد من الإلكترونات، وكلما كانت النواة ثقيلة زاد عدد وحداتها الموجبة. وأخف ما نعرفه من النواة نواة الهيدروجين التي تحوي شحنة واحدة موجبة يدور حولها إلكترون واحد كالأرض يتبعها القمر. أما الهيليوم فلنواته شحنتان وبالتالي يدور حولها إلكترونان، ويحضر الذهن بعد ذلك في جدول العناصر الليتيوم الذي لنواته ثلاث شحنات ويدور حولها ثلاث إلكترونات كما هو مبين بالشكل (1)

ولقد أمكن البرهنة على أن واحداً من الإلكترونات الثلاثة لا يجتمع مع الآخرين في غلاف واحد (الغلاف الجزء المحدد بالمسار) وهذا الإلكترون الثالث يشبه في هذه لمجموعة الشمسية الصغيرة كوكب بليتون في مجموعتنا الشمسية الكبيرة، والذي ذكرنا أنه يدور بعيداً جداً عن الشمس ويتم دورانه في 252 سنة وهكذا كان لذرة كل عنصر عدد من الإلكترونات يتزايد من عنصر لآخر حتى نصل إلى الذرات العليا مثل الرصاص الذي يدور في غلافه 82 إلكترونا وهو بذلك مجموعة شمسية معقدة. كذلك الايرانيوم وتعد ذرته أثقل الذرات إذ يدور حول نواته 92 إلكترونا ولعل هذه الكثرة هي السر في عدم اتزانه وفي كونه المواد المشعة

وفي (الشكل 2) مثال آخر لنموذج ذرة النيون وهو الغاز الذي استعمله لأول مرة جورج كلود أستاذ كلية فرنسا والذي يكثر استعماله في الإعلانات في المساء فتملأ أنابيبه شوارع القاهرة. وفي هذا النموذج ترى للنواة مسارين لإلكترون وثمانية مسارات لثمانية إلكترونات أخرى

هذه هي المادة كما يراها العلماء وقد ذكرنا في مقالنا السابق أن المركبات المادية للكائن الحي هي ذرات كيميائية (الكربون والأكسجين والهيدروجين والأزوت) وإن العلماء يعتقدون أنه قد حدث في وقت من الأوقات أن مجموعة من هذه الذرات ترتب بطريق الصدفة بالطريقة الموجودة بها اليوم في الخلية الحية، وتساءلنا هل المادة الحية مجموعة من الذرات أو مجموعة من الذرات مضافاً إليها الحياة؟ وقد بدأنا اليوم بهذا الوصف للمادة وفق آراء العلماء، وبقي لنا أن نتناول المادة الحية ونعرف في أي الأوجه تختلف عما وصفناه

لقد اعتدت أن اعد القارئ في آخر كل مقال بما سأتناوله في المقال الذي يليه وإن ادله عند الوصول إلى خطوة بلغناها على الطريق الذي تبعها في استعراض هيكل العالم وسير الحقائق. على أني أتقيد هذه المرة بتناول موضوع الحياة بعد أن انتهينا اليوم من وصف المادة وصفاً كان لازماً لتناول مثل هذا الموضوع. وها قد وصلنا معاً إلى طريق وعرة ولكني سوف لا أدخل بالقارئ مكاناً أشعر انه لا يتعلم منه شيئاً جديداً. وإني أنتهز الفرصة لأقدم شكري للذين أرسلوا أليّ كلماتهم الطيبة بخصوص هذه الجولات، وسأواصل جهدي على صفحات الرسالة في تبسيط ما نصل إليه من المعرفة

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية، ليسانس العلوم الحرة، دبلوم المهندسخانة