مجلة الرسالة/العدد 295/من برجنا العاجي

مجلة الرسالة/العدد 295/من برجنا العاجي

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 02 - 1939



هل ينتظر اللغة العربية والأدب العربي الحديث في مصر مستقبل سعيد؟ لقد بدرت البوادر بشروع بعض الأجانب في الإقبال على تعلم اللغة العربية والاهتمام بمعرفة كتاب مصر البارزين. من رأيي أن الحياة لن تدب في هذه اللغة وهذا الأدب إلا إذا ظفر بقراء كثيرين من هذا العنصر النشط المثقف. وإني لأتخيل اليوم الذي يتم فيه ضم أجانب مصر أو أغلبهم إلى حظيرة قرائنا في لغتنا. هؤلاء الأجانب الذين يعدون القراءة غذاء ذهنياً له ضرورته في حياتهم اليومية، شأنهم في ذلك شأن الحاجات الأولية؛ هؤلاء الآلاف القليلة من الأجانب الذين استطاعوا أن يكفوا لرواج حوانيت الكتب الأجنبية التي لا يخلو منها شارع كبير في أي مدينة كبيرة من مدن هذه الدولة العربية اللغة؛ هؤلاء النفر الذين استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم صحفاً ومجلات بلغاتهم المختلفة وأن يضمنوا لها حياة وازدهاراً. ترى ما الذي يحدث لو أن هؤلاء فهموا أخيراً أن استقلال مصر وسيادتها معناه سيادة لغتها وآدابها وفنونها على الأقل فوق أرضها وفي حدود بلادها وأن الخير والكياسة والمصلحة تقضي عليهم أن يكفوا عن تجاهل لغة الدولة وأن يعيشوا بيننا كما يعيش كل أجنبي في دولة محترمة، يعني بتعليم لغتها والاطلاع على أدبها ومسايرة الحياة الذهنية والاجتماعية فيها؟ لا ريب عندي، لو وقع ذلك الحدث، في أن أدبنا سيتغير ويتطور في مثل لمح البصر تطورات تثير الدهشة والعجب. ليس فقط لأن نتاج فكرنا سيرتفع شأنه في السوق، بل لأنه سيرتفع في ذاته من حيث الصنف والقيمة. فإن القارئ الجيد يخلق الكاتب الجيد، و (الزبون) المحترم يوجد الحانوت (المحترم).

لكن. . . كيف نحمل الأجانب على ارتياد (حانوتنا) الفكري وأكثره قد

استقرت في نفسه بغير علة فكرة الاستخفاف بلغتنا؟ ما هي الوسائل

التي ينبغي أن نتخذها لنزع هذه الفكرة عنه وترغيبهم في بضاعتنا؟

هذا سؤال مطروح على القراء المثقفين

توفيق الحكيم

بين القديم والجديد لأحد أساطين الأدب الحديث

عاب الأستاذ الغمراوي على عميد كلية الآداب الدكتور طه أنه اختار في كتاب (حديث الأربعاء) مجموعة من شعر المجون العباسي، ولا أريد أن أتعرض الآن لهذا الاختيار بنقد مطول وإن كنت أعتقد أنه جعل الكتاب غير لائق إلا لقراءة المؤرخ الباحث في آداب الشعوب في العصور المختلفة، وأنه ليس للقراء عموماً؛ وهذا لم يكن رأي مؤلفه عندما ألفه، فإني أذكر أنه عاب على الشيخ الحضري حذفه المجون من نسخة الأغاني التي هذبها وقال: إن دارس الأدب لا بد أن يقرأ هذا الشعر كيلا يخطئ في الحكم على عصره. وكان الدكتور يجد له طلاوة خاصة يستحق من أجلها الصيانة. ولا ادري هل الدكتور لا يزال على هذا الرأي أم أن جلال المنصب قد حوره؛ لكني أريد أن استخلص من ذكر الأستاذ الغمراوي كتاب (حديث الأربعاء) حجة على الأستاذ الغمراوي؛ فالشعر الذي اختاره المؤلف فيه شعر عربي، والأستاذ الغمراوي يقول إن الأدب الأوربي هو الذي أفسد المذهب الجديد في الأدب بمجونه. فكأنما يريد الأستاذ الغمراوي أن يقول إن اطلاع الدكتور طه حسين بك على الأدب الأوربي هو الذي دعاه إلى اختيار شعر الحسين بن الضحاك وشعر أبي نواس وغيرهما. فإذا كان هذا قصده ومعناه فأن الأستاذ الغمراوي يكون على حد اصطلاح الأوربيين كمن يضع العربة أمام الفرس بدل أن يضع الفرس أمام العربة وهو الترتيب الطبيعي، لأن الدكتور طه قرأ الشعر العباسي قبل أن يقرأ الأدب الأوربي، وتأثر بالشعر العربي قبل أن يتأثر بالشعر الأوربي، وإني واثق أنه اطلع في الأدب الأوربي على الوقور وغير الوقور من الشعر. اطلع على شعر سوفوكليز ويوربيدس وإسكيليس. فهل يريد الأستاذ الغمراوي أن يقول إن اطلاع الدكتور طه حسين على شعر سوفوكليز مثلاً هو الذي أغراه باختيار شعر الحسين بن الضحاك؟ إنه إن قال هذا القول دل على أنه لم يطلع على شعر سوفوكليز وقس على ذلك غيره من الشعراء ولا أدري أي الشعراء الأوربيين هم الذين أوعزوا إلى الدكتور باختيار شعر مجان العرب. هل قراءته لشعر بودلير أم قراءته لشعر فرلين؟ إني لم أقرأ في شعر بودلير وفرلين (وقد قرأت بعضه) ما يماثل بعض شعر أبي نواس والحسن بن هاني في صراحته. ولا أظن أن الجمهور الأوربي كان يطيق من بودلير أو فرلين صراحة كصراحة أبي نواس والحسين بن الضحاك. إذاً يستحيل أن يكون بودلير أو فرلين هو الذي أغرى الدكتور باختيار شعر الحسين بن الضحاك أو شعر أبي نواس، لأن الأشد صراحة في المجون هو الذي يبيح ما هو أقل منه شدة. فأبو نواس هو الذي يبيح فرلين وبودلير، وليس بودلير هو الذي يبيح أبا نواس. وإذا عرفنا أن الدكتور تأثر بالشعر العربي الأشد صراحة في صباه ولم يطلع على الشعر الأوربي الأقل صراحة إلا بعد أن رسخ أثر الأول في نفسه علمنا أن ما زعمه الأستاذ من أثر الشعر الأوربي خاصة والأدب الأوربي عامة في التأثير على المؤلف وفي تعيين اختياره لما اختار في كتاب (حديث الأربعاء) زعم غير رجيح. وعلى هذا القياس يكون أيضاً زعمه غير رجيج في تعليل اختيار الدكتور طه حسين بك للقصص الفرنسية التي كان ينقلها إلى العربية، وكان ينشرها هيكل في السياسة الأسبوعية، وهي القصص التي يشكو منها الأستاذ الغمراوي فإنها مهما بلغت في صراحتها، أقل صراحة مما قرأه الدكتور طه في صباه من القصص العربية في كتاب (مصارع العشاق)، وغيره؛ وإذا يكون مثل الأستاذ الغمراوي في تعليله كمثل من يحسب السبب نتيجة والنتيجة سبباً، أو كمن يقوم بتجربة كيميائية في المعمل فيبدأ التجربة من آخر خطواتها سائراً إلى أولها. والحقيقة أن الأستاذ الغمراوي أحياناً في مقالاته يتخلى عن التعليل الطبيعي ويفضل التعليل المصطنع، ويتخلى عن ترتيب المؤثرات الطبيعي ويفضل الترتيب المصطنع. فهو مثلاً يقول إن في المذهب الجديد شططاً، وبدلاً من أن يعلل هذا الشطط التعليل الطبيعي القريب بما اكتسبته العقول والنفوس من شغف بتذوق التجارب النفسية والعقلية بسبب الحوافز الاجتماعية وغير الاجتماعية، وهذا الشغف قد يؤدي إلى الشطط؛ وبدلاً من أن يعلله بازدياد الحرية السياسية والقانونية وهي قد تؤدي إلى هذا الشطط؛ وبدلاً من أن يعلله بأنه من أثر نشر الطباعة العربية الحديثة للكتب العربية التي فيها أمثال ما يشكو منه كما علل المؤرخون الأوربيون بعض الشهوات في نزعة التجديد والإحياء في القرن السادس عشر في أوربا بطبع كتب الأدب الإغريقي القديمة - أقول بدل أن يأخذ بهذه الأسباب الطبيعية التي لها نظائر في التاريخ - والتاريخ يفسر بعضه بعضاً - تراه يغفل كل هذه الأمور ويقول: إن أعداء الدين الإسلامي من الأوربيين رأوا أنهم لا يستطيعون النيل من الإسلام قدر ما ينالون منه بمؤلفات الدكتور طه حسين ومؤلفات هيكل باشا القديمة قبل كتاب (حياة محمد) و (منزل الوحي). وقد يسيء القارئ فهم تعليل الأستاذ الغمراوي ويتساءل: هل يعني الأستاذ الغمراوي أن نزعة التجديد دسيسة مقصودة مدبرة؟ أرجو ألا يجسم الوهم المسألة للأستاذ إلى هذا الحد، فإنه عالم قد اختبر البحث العلمي، وهو كالعلماء لا بد أن يترك التعليل البعيد ما دام هناك تعليل طبيعي له شواهد ونظائر في التاريخ كما أوضحنا بذكر ما كان من الشطط في نهضة إحياء العلوم في أوربا في القرن السادس عشر. فلو أن مؤرخاً زعم أن الوثنيين خفية راموا القضاء على المسيحية ببثهم الشهوات والمفاسد في الكتب الإغريقية ما كان تعليله بعيداً عن طريقة الأستاذ الغمراوي في تعليل شطط النزعة الحديثة إلى التجديد. أو لو أن مؤرخاً زعم أن الفرس والروم في صدر الإسلام أرادوا النيل من الإسلام ببثهم المفاسد والترف حسداً وحقداً ما كان تعليله بعيداً عن تعليل الأستاذ. أو لو أن مؤرخاً زعم أن مفكري الإغريق حاولوا إفساد العقائد الإسلامية في عصر الدولة العباسية ببثهم روح التفكير الحر المطلق من قيود الدين حنقاً وحقداً على الدين الإسلامي ما كان تعليله بعيداً عن تعليل الأستاذ. والحقيقة أننا ربما نكون قد فهمنا من كلامه عن أعداء الدين الإسلامي ومحاولاتهم القضاء على الدين الإسلامي بنزعة التجديد ومؤلفات المجددين المصريين أكثر مما يقصد الأستاذ، لأننا لا نستطيع أن نتصور أن عالماً جليلاً كالأستاذ الغمراوي يريد أن يقول: إن بين الدكتور طه مثلاً وبين أعداء الدين من الأوربيين تفاهما واتفاقاً على الدين الإسلامي. إنما ينبغي ألا يترك الأستاذ لجمهور القراء موضع لبسٍ، لأن اللبس في هذه الأمور قد تكون له عواقب خطيرة. ولا أدري لماذا اعترف الأستاذ الغمراوي بما في الأدب القديم من مفاسد ولم يستطع أن يعترف بما لهذه المفاسد من أثر في الأدب الجديد، وما هذه إلا خطوة بعد تلك الخطوة، وهي نتيجة لها؛ ولا يستطيع أن يخطو خطوة إلا وهو ينظر إلى خطوته الثانية؛ وقد خطونا خطوتين فاعترفنا أن الأدب الجديد به عيوب وأن بعضها يرجع إلى بعض المؤلفات الأوربية؛ فالخليق بالأستاذ أن يعترف بأن بعضها أيضاً أو أكثرها يرجع إلى قدوة المؤلفات العربية؛ والخليق به أن يعترف أن ليس كل الأدب الأوربي من نوع القصص التي كان يشكو من نشر السياسة الأسبوعية لها، وأن يتعرف أنه إذا كان بعضها صريحاً في تصوير الشهوات فإن بعضها جليل؛ وأن الصريح منها أقل صراحة من بعض ما في كتب القصص العربية؛ وأن يعترف أن شاعراً كشكسبير لا خطر منه على الإسلام، فلا هو مبشر بالمسيحية ولا هو ملحد وداعية للإلحاد. وما يصدق في الكلام عن شكسبير يصدق في الكلام عن ألف شاعر وألف كاتب من شعراء الأوربيين وكتابهم. وخليق بالأستاذ أن يعترف أيضاً أن بين الكيميائيين وعلماء الطبيعة الأوربيين من هم أشد خطراً على الإسلام من كثير من أدبائهم، لا لأنهم يحقدون على الإسلام ويريدون الكيد له، بل لأن علمهم الطبيعي شط بهم عن الأديان. وأظن أن لنا بعض العذر إذا فهمنا بعض ما فهمنا من قول الأستاذ عن أعداء الدين الإسلامي من الأوربيين إذ قال أنهم أرادوا ألا يهاجموا مواجهة بل بحركة التفاف، وأن حركة الالتفاف هذه هي نزعة بعض الكتاب المصريين إلى التجديد، وذكر مؤلفات الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب ومؤلفات هيكل القديمة، فبالله كيف لا يكون للجمهور العذر إذا فهم من قول الأستاذ الغمراوي أن الدكتور طه حسين وهيكل من دعاة أعداء الدين الإسلامي ومن عمالهم السريين القائمين بحركة الالتفاف هذه بدل مهاجمة الدين الإسلامي مواجهة، وعلى فرض أن تأليف الدكتور طه كتاب (على هامش السيرة) وتأليف هيكل (حياة محمد) و (منزل الوحي) لم يقنع الأستاذ الغمراوي بخطأ رأيه فيهما ألا يقنعه تأليفهما هذه الكتب أنهما لا يريدان معاونة الحاقدين على الدين الإسلامي من الأوربيين للقيام بحركة الالتفاف كما يقول الأستاذ وأنه إن كان في تأليفهما القديم أو الحديث شطط فأسبابه ما أوضحنا من الأسباب الاجتماعية، ومن شغف جديد بالبحث قد يخطئ وقد يصيب، لا لأنهما يريدان معاونة الحاقدين على الدين في القيام بحركة التفاف. ولو أن كاتباً في أوربا في بدء نهضة الأحياء في القرنين الرابع عشر والخامس عشر اتهم رواد النهضة في أوربا بأنهم يريدون القيام بحركة التفاف معاونة لمن يكره المسيحية من المسلمين لما تعدى قوله قول الأستاذ الغمراوي. ولا أظن أن الأدباء في أوربا يسعون سعياً حثيثاً لمهاجمة الإسلام؛ وإن كان بعض الكتاب الأوربيين يفعل ذلك فإنه لا يفعله كأديب ولا كمفكر عالم ولكن كمبشر بدين آخر. وإذا كان بين أدباء المسلمين ومفكريهم وبين الأدباء والمفكرين في أوربا صلة فهي ليست صلة عداء لدين بل صلة بحث وتفكير قد يخطئ وقد يصيب. وبالرغم من أن الأستاذ الغمراوي قد فسر قوله (إرادة تغليب دين على دين) تفسيراً جديداً فإنه يحوم ويحلق دائماً في جو المعنى الذي فهمناه من قوله.

إن المؤرخين المعاصرين في أوربا يميل الكثير منهم إلى الاعتقاد أن النزعة إلى التجديد في أوربا في القرن السادس عشر كانت لا بد واقعة بمحاسنها ومفاسدها لأسباب أصيلة في دول أوربا حتى ولو لم يكن للعرب أثر فيها. وربما يدعونا هذا الرأي إلى بحث رأي يقابله والى أن نتساءل إلى أي حد كان التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحديث في مصر مؤدياً حتماً إلى النزعة إلى التجديد بمحاسنها ومفاسدها حتى ولو لم يكن للأدب الأوربي أثر فيها قل أو كثر وإني واثق أن الأستاذ لو بحث هذا الموضوع وجد في هذا الرأي من الحقائق ما يصح الاعتراف به حتى ولو لم يقره كله على علاته.

قارئ