مجلة الرسالة/العدد 296/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 296/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1939



قصتان:

1 - الأميرة: للآنسة جميلة العلايلي

2 - كاهن آمون: للأديب أحمد صبري

- 1 -

هاتان قصتان، كانتا غذائي في يومين:

أما الأولى فقصة غرام عنيف عفيف، وهي كما تقول المؤلفة: قصة جمعت في فصولها تاريخ الحياة كلها، كتبت حروفها من نار العقل ونور القلب، فتصارع فيها اليقين والشك، والإيمان والإلحاد، والخير والشر، وظهرت فيها شخوص مختلفة من تهاويل المدنية الحادثة، وبساطة الطبيعة الخالدة، واصطدمت فيها التقاليد الصارمة بالعواطف اليقظة، وكان فيها ما كان من رغبة ورهبة، وثورة وخنوع، وألم وأمل، ثم انتهت عند حقيقة خالدة، وهي أن الرجل رجل والمرأة مرأة، ولن يكون الاتصال بينهما إلا على هذا الأساس الذي قامت عليه الحقيقة الإنسانية منذ الأزل

والآنسة جميلة أنثى، فأحسن ما فيها أنها تكتب بطبيعة الأنثى وميولها، فلا كذب ولا نفاق ولا تزوير، ولكنها الأنوثة الواضحة، والصراحة التي لا تتوارى، والعواطف التي تتدفق على وضع الطبيعة؛ ووضع الطبيعة في الأنوثة الكاملة هو الإعجاب، أو إن شئت فقل العشق للرجولة الكاملة، وإقراراً لهذا الوضع المقدس ضحت بالأوضاع والتقاليد في سبيل زوج لا تقدره لها الأوضاع والتقاليد. ولقد نجحت التجربة الجريئة، فكان لها برجولته وكبريائه واعتداده ملء القلب والبصر والسمع، وكانت له بأنوثتها ملاك الرحمة، ومثال التضحية، ورسول الحب!

والمرأة بطبيعتها - كما تعلم - رقيقة الإحساس، مرهفة العواطف، فإذا جمعت إلى ذلك موهبة الشعر كانت في خيالها وفي شعورها متوثبة، كأنها تريد أن تلتهم الدنيا بنظرة، وأن تزم البحر بشعرة، وهذا هو شأن الآنسة الفاضلة في قصصها: فهي تغرد على كل فنن تغريد الشاعر، وهي تجري وثباً وراء الخيال فتسبق الحوادث، وتستطرد من معنى إلى معنى دون أن تعني بالنسق القصصي، وما يسمونه بالحبكة الفنية، ومن ثم جاءت قصتها كما تقول هي: سلسلة حبائل كلها أقاصيص عجيبة، ولدتها قصة واحدة غريبة غامضة، فيها شئ من خلل السرد، وترتيب الوقائع، وكانت في حلّ (العقدة) قاسية، عفا الله عنها! فقد أغرقت تجارة وطوحت بعائلة كريمة في مهاوي الفقر والحاجة لأجل أن تصل إلى رجلها الذي رأت في الاتصال به اطمئنان النفس، وبهجة القلب، ويقظة الروح، على أنه لا يمت لأسرتها بصلة القومية كما تقول

وفي القصة ما أحب أن أنبه إليه الآنسة المهذبة، ولولا الرفق لحاسبتها عليه الحساب العسير، وهو الاستهانة في الأسلوب بحق اللغة وهو حق تجب مراعاته وإن تبجح في ذلك المتبجحون، ثم حق القوة البلاغية وهو أيضاً حق يجب العناية به لا للإفهام فحسب بل للتأثير الذي هو مهمة الفنان وغايته، ثم تلك الأخطاء المطبعية الشائعة التي إذا احتملها ذوق الرجل الجبار فلن يتحملها ذوق المرأة الدقيق الذي يغرم بالأناقة ويفنى في روعة التنسيق؛ وأخيراً بعض هفوات فاتت على فطنة الأديبة اليقظة، فما كان يصح مثلاً أن تصف الأعرابي بلبس حذاء لا يلبسه غير سراة العرب، ثم تعود إلى وصفه بعد صفحات فتصف حذاءه بأنه لا يلائم الرجل العادي على الأقل، وبعد هذا كله لا يصح من الآنسة الشاعرة أن تستهين في أناشيدها بعروض الشعر، ولعلها تهتم فتتلافى كل هذا في الطبعة الثانية للرواية، فإن في تلافيه الجمال والكمال

- 2 -

أما القصة الثانية فقصة مسرحية تقوم على حقيقة من حقائق التاريخ المصري القديم، وضعها مؤلفها الفاضل وهو في معزل على حافة الصحراء في جنوب القاهرة حيث امتلأت رأسه من صور الأجيال القديمة وأطيافها، وازدحمت عيناه بعبرات الجيل الحاضر وآلامه، فطالع التاريخ لهذه القصة ووضع صورتها التخطيطية الأولى، وعرف أبطالها وحلم بهم. ويا لنفس الفنان إذا اهتاجتها ذكريات الماضي وعبرات الحاضر! إنها تحترق في فكرتها، وتذوب في فنها فتأتي بكل ما فيه الروعة والجمال. . .

وتاريخ هذه القصة يرجع إلى عهد الملك إخناتون، وقد كان لهذا الملك مذهب ديني يدعو إلى عبادة قرص الشمس متمثلاً فيه جميع الآلهة، وقد كان متعصباً لمذهبه هذا تعصباً شديداً، فحاول أن يفرضه على الناس فرضاً، واندفع يغلق الهياكل ويطرد الكهنة، وانشغل عن أمور الدولة فسرح الجنود وأهمل الجيش، فكان من وراء ذلك أن انتقضت عليه المستعمرات المصرية، واستولى الحثيون على شمال سوريا كما استولى العبرانيون على جنوبها، ففزع المصريون لذلك، ونهضوا ثائرين عليه بتدبير الكهنة ورجال الجيش المعطلين، وفي مقدمة هؤلاء أوزيران كاهن آمون في معبد خناعي، وهو شيخ جليل خالف الملك في عقيدته الدينية ودعا إلى محاربته باسم الوطنية

هذه المبادئ التي أذاعها إخناتون ودعا إليها ما وسعه الجهد، وهذه الثورة التي أعلنها عليه المصريون لإنقاذ حضارتهم وغضباً لوطنيتهم وقوميتهم هو موضوع القصة، وغاية المؤلف التي يرمي إلى توضيحها. ولا شك أنه قد استطاع أن يشرح فكرته شرحاً فنياً قويماً، فلا فضول ولا ثرثرة، ولا اقتضاب ولا شذوذ في سرد الحوادث والانتقال من وضع إلى وضع، ولكنك تحس وأنت تقرأ أنك تجري في نسق طبيعي مطرد، يرسمه أسلوب حلو يفيض بحرارة الإيمان وحماسة الوطنية، وكأنها حماسة أمازيس إذ يقول: لقد فهمت وآمنت، سأعلمهم أننا ولدنا جنوداً، وأننا ما زلنا رغم العوادي أبناء هذا النيل، نحارب وننتصر، ونطوي العالم في نفوذنا من جديد. . .

ولقد ذكر المؤلف الفاضل أنه تقدم بقصته إلى الفرقة القومية فكان رأيها قاطعاً في عدم صلاحيتها! وأنا أستطيع أن أطمئن المؤلف الفاضل من هذه الناحية، فإن الفرقة القومية أصلحها الله لا تقدر الآثار إلا بأسماء أصحابها وما لهم من شهرة ودوي وطنين. ثم أن الفكرة في هذه القصة تقوم على الانتصار لتاريخنا وقوميتنا ووطنيتنا، هي غذاء لروحنا وعواطفنا بما يلائم روحنا وعواطفنا؛ ولكن الفرقة لا يهمها ذلك، فهي تحب أن تكون دائماً متطفلة على موائد الغرب، تذيع كل ما هو غريب عنا ولا يمت إلى روحنا بأدنى شئ. . .

نعم أنا أطمئن المؤلف من هذه الناحية، وأقدر فيه موهبته الفنية واستعداده للقصص، فإنه استعداد قوي كامل، إذا ما تعهده بالمران والصقل فسيكون له شأن أي شأن. ولو أنه رزق الدقة في الحوار، والوضوح في التعبير لكان فناناً من الطراز الأول، ولجاءت قصته وشأنها في الكشف عن عبقريته والإعلان عن مواهبه شأن (أهل الكهف) في الكشف عن صاحبه الأستاذ الحكيم وأحب أن أنبه الأديب الفاضل إلى ما أخذه عليه بعض الناس من غموض العبارة وخفاء المعنى في بعض جوانب الرواية، وليس بالعذر أن يقول إنه حاول أن يكون مفهوماً بالمعنى الذي يألفونه فلم يستطع، فإن اللغة أداة الإفهام، وعلى الفنان أن يُفهم وإلا كان قاصر الأداة، عاجزاً عن تصوير ميوله وعواطفه، وماذا يكون الفنان إذا عجز عن تصوير ميوله وعواطفه؟!

تلك ناحية ليست بالعسيرة ولا بالشاقة؛ وفي استطاعة المؤلف الفاضل أن يبلغها إذا اقتصد في ثورته وتمكنت عنده الرغبة في ذلك

محمد فهمي عبد اللطيف