مجلة الرسالة/العدد 296/حول كتاب (مصطفى كامل)

مجلة الرسالة/العدد 296/حول كتاب (مصطفى كامل)

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1939



مصطفى كامل والسيادة العثمانية

للأستاذ محمود العمري

في عدد الرسالة الصادر في 20 فبراير كلمة للأستاذ العقاد عن كتاب (مصطفى كامل) لعبد الرحمن بك الرافعي، لا يسع قارئها إلا أن يرى فيما جاء بها، حواراً طبيعياً بين مؤرخ (سعد زغلول) ومؤرخ (مصطفى كامل). وقد أوسع الأستاذ العقاد مجال المناقشة من الجانبين، إذ قال في آخر كلمته أن ليس للقارئ أن يطلب الحق كله من كتاب واحد لا سيما في تاريخ تختلف فيه الميول والآراء. وهذه دعوة ضمنية إلى طرح الموضوع على بساط البحث كيما يستنير أبناء الجيل الحاضر ممن تأثروا بحركة سعد زغلول دون حركة مصطفى كامل.

والمهم في هذه الكلمة أن الأستاذ العقاد يأخذ على عبد الرحمن بك أنه ظل غير متحيز في سلسلة كتبه عن الحركة القومية منذ الحملة الفرنسية إلى أن وصل إلى مصطفى كامل فتحيز له ضد خصومه.

ولأجل أن نبحث هذه الملاحظة لا بد لنا من الرجوع إلى السياق التاريخي لمنطق الوطنية المصرية منذ الحملة الفرنسية، لنتبين ما إذا كان هناك عدم تناسق في حلقاتها؛ وعندئذ نرى الحكمة الحقيقية فيما قاله عبد الرحمن بك في مقدمته: من أنه كان في أول الأمر يريد ترجمة سيرة مصطفى كامل، فأدى به البحث إلى أن يمهد لها بتحقيق تاريخ الحركة القومية منذ الحملة الفرنسية التي تعد بداية محاولة دول أوربا الاستيلاء على مصر بأساليب واحدة؛ إذ أن حركة مصطفى كامل لا يمكن اعتبارها من جانب المؤرخ الحقيقي إلا حلقة من حلقات سلسلة جهود المصريين للوقوف في وجه الفاتح الأوربي؛ كما أن تشابه الموقف في هذه الحلقات كان من شأنه أن أملي على المجاهدين في سبيل الاستقلال الحقيقي خطة واحدة. وما الشعور الوطني إلا غريزة الدفاع عن النفس، وهى غريزة طبيعية فطرية إذا كانت سليمة صادقة فرضت على النفوس منطقاً سليماً على اختلاف درجة تعمق الآخذين بها في مبلغ فهمهم إياها عن طريق العقل.

فالسلسلة التاريخية التي بدأت منذ قرن ونصف قرن تقريباً إنما هي عدة فصول في رواية واحدة يطلع عليها القارئ في سلسلة الحركة القومية بقلم رجل يجمع إلى صفاته كمؤرخ صفة أخرى وهي صفة المؤمن بتلك الحركة، وهذه مزية ضرورية لمؤرخ أي فكرة؛ إذ أن عبد الرحمن بك رجل يؤهله طول بلائه فيها لأن يفهمها بروحه ومزاجه فضلاً عن فهمه إياها كمؤرخ وكرجل يدرك المرامي السياسية عن طريق إلمامه بالقانون.

احتل نابليون مصر، وكانت تابعة لتركيا، وكانت إنجلترا منافسة له تسعى لإخراجه منها. وكانت حجتها في ذلك أن في هذا الاحتلال اعتداء على حقوق الدولة العثمانية التي لم يكن في حالة حرب ضدها بل كان متعهداً بسلامتها بمقتضى المعاهدات. فأخذت تحرض تركيا على التمسك بحقوقها، وتحرض المصريين على التمسك بعلاقتهم بها ما دام الاحتلال الفرنسي قائماً. وكان نابليون يسعى جهده لحمل تركيا على الرضا عن احتلاله لمصر نظير مزايا عظيمة في البلقان، كما سعى بوسائل شتى لحمل الزعماء المصريين على قبول الانفصال عن تركيا فبذل في سبيل ذلك جهوداً عظيمة، وأدى للشعب خدمات جليلة، ولكنه لم يفلح مع تركيا ولا مع مصر، ولذلك تم للمصريين ما أرادوا من عدم تمكن النير الأجنبي من أن يقوم على رضاهم بسند شرعي. ولو أنهم خدعوا بما أغراهم به نابليون باسم الانفصال عن تركيا لخلا الجو أمام احتلاله وهو الإهدار الحقيقي للاستقلال ولكانت مصر إلى الآن مستعمرة فرنسية. . .

أثبت التاريخ بعد ذلك أن مصر لم تكن بهذا السلاح السلبي تقصد التبعية لتركيا بدليل أنها ما كادت تتخلص من الاحتلال الفرنسي حتى أخذت تعالج مشكلة استقلالها مع تركيا وجهاً لوجه، فوضعت محمد علي على رأسها وحارت تحت قيادته المتبوع الأعظم وهزمت جيوشه؛ وذلك بفضل استقلالها الداخلي الذي مكنها من أسباب القوة القومية، وهذا لعدم توفر الركن الأساسي للتبعية الفعلية لتركيا وهو وجود جيش احتلال تركي في مصر.

لم يقف الجيش المصري الظافر على تركيا إلا تدخل دول أوربا التي لا تأخذ الواحدة منهن على المصريين تمسكهم بتركيا إلا عندما يكون هذا التمسك مقصوداً به التخلص منها. أما إذا كان مقصوداً به التخلص من دولة منافسة لها فإنه يصبح عندئذ أمراً منطقياً تمليه الوطنية الحقة ولا تعصب فيه للدين ولا للخلافة

ولم يقف الاستقلال الذي عملت له مصر في ميدان القتال عند الحد الذي رسمته معاهدة سنة 1840 إلا تدخل تلك الدول خشية فتح باب المشكلة الشرقية بما تقتضيه من التنافس على توزيع أسلاب الدولة العثمانية

وفي سنة 1882 احتلت إنجلترا مصر احتلالاً مؤقتاً بموافقة صاحبي الشأن في معاهدة سنة 1840 وهما سلطان تركيا وخديو مصر فعاد نفس الموقف الذي كان قائماً أيام الاحتلال الفرنسي. وبعد أن انتهت الحالة المؤقتة التي أدت إلى ذلك الاحتلال أصبحت فرنسا تطالب إنجلترا بالجلاء بنفس الحجة التي كانت هذه تتذرع بها أيام نابليون فسعت إنجلترا سعي هذا الأخير لإزالة العقبة القانونية التي تجعل احتلالها غير مشروع فأوفدت درامندو ولف إلى الآستانة للاتفاق على تبرير الاحتلال الدائم وهو الحماية ففشلت، وكان بعض فشلها راجعاً إلى سعي فرنسا التي حاربتها بنفس الحجة التي حوربت بها قبلاً وظلت تحاربها بها إلى أن اتفقت معها إنجلترا على إطلاق يدها في مراكش

لجأت إنجلترا أيضاً إلى مثل ما لجأ إليه نابليون من حمل الشعب المصري على المطالبة بالانفصال عن تركيا قبل أن ينجلي الجيش الإنجليزي عن مصر وقدمت في سبيل ذلك للشعب المصري خدمات اقتصادية وقامت له بإصلاحات إدارية كثمن لإلهائه عن الاستقلال فنجحت مع بعض الأعيان الذين كانوا يسمونهم أصحاب المصالح الحقيقية فراحوا يقولون إن الاستقلال هو الانفصال عن تركيا قبل الجلاء. وكانت الغاية التي قصد إليها الإنجليز أن تزول من طريقهم إلى الحماية الحقيقية تلك العقبة التي جعلت مركزهم غير صحيح. ثم شفع هؤلاء المصريون خطتهم بالمناداة بالاتفاق مع إنجلترا كما تنكروا لسلطة الخديو الممثل الشرعي للسيادة المصرية المقررة في معاهدة سنة 1840 حتى تنهدم المعاهدة المذكورة من ركنيها الخارجي والداخلي، هذين الركنين اللذين هدمهما الاحتلال

عندئذ قام مصطفى كامل فنهض نهضة استقلالية تامة لاشك في اتجاهها ومراميها، وقال مراراً إن مصر لا تريد إبدال متبوع بمتبوع، ولكنه احتاط عند تحديد المطالب السياسية فجعل هدفه الأول جلاء الاحتلال ووضع أمامه معاهدة سنة 1840 سنداً قانونياً سياسياً ضد الاعتداء الحقيقي على تلك المعاهدة

إن القول بأن استفادة مصطفى كامل بالعوامل الخارجة عن الجهود المصرية كان مناداة بالتبعية لهذه العوامل إنما هو قول بعيد عن الحقيقة التي لمسها معاصروه قبل أن يسلموا له بما اعترف به الأستاذ العقاد إذ قال عنه إنه زعيم الوطنية المصرية في ذلك العصر

استفاد مصطفى من خلاف فرنسا مع إنجلترا فظن بعض الناس أنه صنيعة فرنسا. فلما تنحت فرنسا عن قضية مصر استمر في جهاده بل ضاعف قواه. واستفاد من خلاف ألمانيا وحلفائها وأيد الخديو، حتى إذا خرج كرومر وتغير الحال أثبت مصطفى كامل أن انتصاره لسمو عباس حلمي باشا لم يكن إلا انتصاراً للسيادة المصرية لا لشخص الخديو وضاعف الهمة حتى زالت حجة المكابرين الذين قالوا بأنه صنيعة. وكذا كان شأنه مع تركيا شأن المستفيد من مصلحة مشتركة في موقف معين. وما قوله في شأن الخلافة إلا شأن فرنسا وإيطاليا مثلاً عند اتفاق مصالحهما بأن هناك رابطة لاتينية

ولما تولى الحركة فريد بك ازدادت خطة الوطنية وضوحاً لمناسبة الظروف التي استجدت فقامت الحرب العالمية وهو في تركيا فأفهم رجالها وهم على وشك الهجوم على مصر أن عدم مطالبة المصريين برفع السيادة التركية إنما كان لوجود الاحتلال الإنجليزي

اعترفت إنجلترا بأن تكييف مصطفى كامل للاستقلال كان تكييفاً صحيحاً كما اعترفت للمجاهدين ضد نابليون عندما كانت تريد إخراجه من مصر. ويكفي أن يطلع الإنسان على إعلان الحماية ليرى هذا الاعتراف إذ جاء فيه: (بما أن تركيا في حالة حرب مع إنجلترا فتزول من الآن السيادة التركية وتصبح مصر تحت الحماية البريطانية)

ولما انتهت الحرب العظمى لم يتمسك رجال مصطفى وفريد بالسيادة العثمانية، فهذا غير معقول، وإنما عملوا على ألا يتم تنازل تركيا عن سيادتها إلا لمصر لا لإنجلترا كما عملوا على احتفاظ مصر بما لها من الحقوق في معاهدة سنة 1840. ولذلك سافروا إلى أنقرة وإلى لوزان ولم يسع (الوفد المصري) إلا أن يبعث معهم بعض رجاله ويشترك معهم في هذا المسعى.

أما ما حصل بعد ذلك فيكفي أن تكييف مصطفى كامل قد سجل له التاريخ نتيجة واضحة وهي أن معاهدة سنة 1936 استنفدت برامج جميع الأحزاب ما عدا برنامج الآخذين بمبدئه.

محمود العمري