مجلة الرسالة/العدد 296/حياة محمد

مجلة الرسالة/العدد 296/حياة محمد

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1939



باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية

للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد

ترجمة الأساتذة

عبد الفتاح السرنجاوي

عمر الدسوقي

عبد العزيز عبد المجيد

لم أقصد بكتابة هذا الفصل أن أضم إلى البحوث الكثيرة التي عالجت موضوع السيرة بحثاً جديداً، وإنما قصدت دراسة حياة محمد في مظهر واحد من مظاهرها، هو الذي يتمثل لنا فيه رسولاً يدعو الناس إلى دين جديد. ومن الطبيعي أن نتوقع في حياة منشئ الإسلام والداعي له عرضاً للوضع الحقيقي لما اقترن من النشاط بالتبشير بالدين الجديد، ولو أننا اعتبرنا حياة النبي معياراً خلقياً لما يجب أن يكون عليه المؤمن العادي، لحق أن تكون حياته كذلك معياراً لما يجب أن تكون عليه الدعوة الإسلامية، وما دامت حياة النبي عنواناً للدعوة الإسلامية، فإنا نتطلع إلى معرفة شئ عن الروح التي استولت على من يأخذون مأخذه ويستنون بسنته، وعن الوسائل التي قد يعمدون إليها في سبيل تحقيق أغراضهم، ذلك لأن الروح التبشيرية في الإسلام ليست فكرة متأخرة في تاريخها، وإنما نذهب إلى أنها تقترن بالدين منذ نشوئه الأول. ونود في هذه العجالة أن نبين ما ذهبنا إليه، ونوضح كيف أن محمداً النبي (ص) مثال للمبشر الإسلامي، ونحن بغض النظر عن معالجة حياته الأولى أو العوامل ذات الأثر في حياته حتى بلغ رجولته، أو دراسة حياته باعتباره سياسياً أو قائداً حربياً، نعني العناية كلها بدراسة حياته كمبشر ونذير.

ومحمد ما لبث بعد اضطراب وكفاح نفساني طويلين أن اقتنع بصحة رسالته السماوية، وكانت أولى جهوده أن دأب في إقناع أهله بذلك الدين الجديد القائم على وحدانية الله، وإنكار عبادة الأوثان، ووجوب أن يخضع الإنسان لمشيئة الخالق، تلك هي الحقائق المجر التي دعاهم إلى الإيمان بها. فكان أول من آمن به زوجه الوفية المخلصة خديجة التي تزوجت قبل هذا بخمسة عشر عاماً من قريب لها فقير كانت قد استخدمته في تجارتها، فصيَّرها أجدى عليها وأربح، تزوجته بهذه الكلمات:

(يا ابن عمي، إني قد رغبت فيك لقرابتك ووساطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك فانتشلته بهذا من الفقر ومكنته من العيشة في المستوى الاجتماعي الذي يليق بنسبه، ولكنَّ هذا كله يسير إلى جانب ما بدا من وفائها وإخلاصها إذ شاطرته اضطرابه الفكري وغمرته بعطفها وشملته برعايتها في ساعة الشدة. أتاه الوحي مرة وهو في الغار فآوى إلى خديجة، وقد شمله الفزع واستولى على قلبه الاضطراب، فآمنت خيفته وأذهبت عنه الروع وقالت تخاطبه:

(أبشر يا ابن عمّ واثْبُت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ووالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلَّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)

ولقد بقيت حتى وفاتها سنة 619 م أي بعد خمسة وعشرين عاماً في حياة الزوجية تفيض عليه دواماً من حنانها وعزائها وتشجيعها كلما أصابه من أعدائه الأذى أو ساورته في نفسه الشكوك، وفي هذا يقول ابن إسحاق:

(كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به عن الله تعالى، وآزرته على أمره فخفف الله بذلك عنه، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من قومه من رد وتكذيب إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهوِّن عليه أمر الناس)

هذه خديجة يقدم لنا التاريخ في سيرتها أروع الصور في الحياة الزوجية وأنبلها.

ومن بين السبَّاق في الإيمان بدعوة محمد اثنان كان قد تبناهما هما زيد وعلي، ثم صديقه الحميم أبو بكر الذي قال فيه النبي فيما بعد:

(ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوةٌ ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر، ما عَكم عنه حين ذكرت له)

وكان أبو بكر تاجراً على سعة من المال، يحترمه قومه احتراماً شديداً لكرم خلقه وذكائه وكفايته، أنفق بعد إسلامه الجزء الأكبر من ثروته في شراء الأرقاء المسلمين الذين اضطهدهم مواليهم لاعتناقهم تعاليم محمد. وحين أسلم أبو بكر دعا إلى الله فأسلم بدعائه خمسة نعتبرهم في عداد السابقين في الإيمان، هم سعد بن أبي وقاص الذي فتح فيما بعد بلاد فارس، والزبير بن العوام الذي اشتهر بالكفاية الحربية، وعبد الرحمن بن عوف التاجر الثري، وعثمان ثالث الخلفاء الذي تعرض للأذى والاضطهاد منذ إسلامه، فقد أخذه عمه فأوثقه كتافاً وقال له:

(ترغب عن ملة آبائك إلى دين مستحدث! فوالله لا أحلك أبداً حتى تدع ما أنت عليه). فقال عثمان:

(والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه)

فلما رأى عمه صلابته في التعلق بدينه أطلق وثاقه وتركه. واستطاع النبي أن يجتذب إليه طائفة أخرى أكثر أفرادها من الموالي والفقراء، وبذلك نجح في أن يجمع حوله فئة قليلة من التابعين خلال السنوات الثلاث الأولى من الدعوة. وكان التوفيق الذي أصابه محمد في هذه الجهود السرية مشجعاً له على أن يوسع نطاق دعوته ويجهر بها، فدعا عشيرته فاجتمعوا فقال لهم:

(يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟)

وهنا صمتوا جميعاً ولم يتكلم غير عليّ في حماسة الصبي فقال:

(أنا يا رسول الله)

وما كاد علي يفرغ من كلامه حتى علا ضحك القوم ساخرين مستهزئين. ولم يكن ذلك الإخفاق ليصد محمداً عن تبليغ رسالته فدعا الناس في مناسبات أخرى، ولكن دعوته لم تلق منهم غير السخرية والتحقير

وحاولت قريش أكثر من مرة أن تغري عمه أبا طالب باعتباره عميد بني هاشم الذين ينتمي إليهم النبي كي يردعه عن سب آلهتهم وعيب دينهم ودين آبائهم، وهددوه وقالوا إما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فنصح أبو طالب لابن أخيه أن يبقى على نفسه وعليه وألا يحمله من الأمر مالا يطيق، فأجابه النبي: (يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته)

فتأثر أبو طالب وقال له:

(اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً)

ولما ضرب الإخفاق على هذه المحاولات السلمية اشتدت موجدة قريش وتضاعف احتدامهم وأيقنوا أن انتصار ذلك الدين الجديد معناه القضاء على دين بلادهم وعلى ما يمتازون به بين العرب من السيادة القومية، ثم هم فوق ذلك يخسرون الثروة والجاه اللذين يستأثرون بهما عن طريق سدانة الكعبة الشريفة. أما محمد نفسه فقد كان برغم ما تعرض له دواماً من بذاءة القوم وسفاهتهم في ذمة أبي طالب وذمار بني هاشم الذين منعوه وحالوا دون أي اعتداء على حياته؛ يحفزهم على هذا ما جبل عليه العرب من قوة العصبية، مع أنهم لم ينعطفوا نحو الآراء التي دعا إليها. أما الفقراء والرقيق الذين لا ملاذ لهم ولا جوار فلم يجدوا مخرجاً من طائلة الاضطهاد الغليظ، فكانوا يحبسون ويعذبون كي يفارقوا عقيدتهم. وكان أبو بكر يشتريهم ليخلصهم من العذاب، فقد اشترى بلالاً ذلك العبد الأفريقي الذي كان محمد يطلق عليه (أول ثمار الحبشة) والذي لقي من ضروب الامتهان ما لم يلقه أحد، فكان يلقى في الرمضاء وقت الظهيرة وقد حميت الشمس ثم توضع على صدره صخرة ثقيلة ويقال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وترجع إلى عبادة الأوثان، وبلال لا يجيب على ذلك إلا بقوله:

(أحدٌ أحدٌ). وهلك شخصان متأثرين بما أصابهما من الاضطهاد وما ألم بهما من نوازله القاسية. ولما أن رأى محمد ما نزل بالمسلمين من الأذى مع عدم قدرته على تخليصهم مما هم فيه نصح لهم بالهجرة إلى الحبشة، فخرج في السنة الخامسة من النبوة (615 م) إلى الحبشة أحد عشر رجلاً وأربع نساء، وهناك رحب بهم ملكها النصراني. وكان فيمن هاجروا مصعب بن عمير، وفي سيرته يتمثل أقصى ما أصاب المؤمنين من بلاء ومحنة، فقد أبغضه من أحبهم ومن كانوا من قبل لا تقصر قلوبهم عن الولوع به. أسلم بعد أن تفهم تعاليم الدين الجديد في بيت الأرقم، ولكنه أخفى إسلامه لما كان له من مقام كبير في قومه، ولما كان له من حب جم في قلب أمه، وأمه لا تقل عن قومها كراهية للدين الجديد. ثم ما لبثت هذه الحقيقة أن تبدت للناس وذاع إسلام مصعب، فأطبقوا عليه وسجنوه، ولكنه استطاع الهرب وخرج مهاجراً إلى الحبشة وسار حقد قريش في إثر المهاجرين إلى الحبشة فأرسلوا وراءهم بعثة من رجلين يطلبان إلى النجاشي أن يسلمهم إليهما ليردوهم إلى قومهم، ولكن النجاشي سأل المسلمين عن أمرهم، ولما أن علم منهم الخبر اليقين أبى أن يسلمهم وقد جاوروه ونزلوا بلاده واختاروا حمايته، قال المسلمون للنجاشي عندما دعاهم وسألهم عن أمرهم ما يأتي:

(أيها الملك، كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وألا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام، فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا؛ فتعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك) فقبل النجاشي رجاءهم ورد رسولي قريش خائبين

في ذلك الوقت بذلت جهود جديدة في مكة لإغراء محمد بالجاه والمال على أن يكف عن الدعوة إلى دينه، وضاعت كل هذه الجهود عبثاً. فلما عادا رسولا قريش إلى مكة يعرضان نتيجة سعيهما ضد المهاجرين إلى الحبشة، وكان قريش يترصدون خبرهما ويتحينون عودتهما، حدث حادث خطير، هو إسلام شخص كان من قبل أشد وأغلظ أعداء محمد، وكان يعارضه بحماسة وحّدة لا يحدهما الوصف، وكان المسلمون يعتبرونه بحق أقوى خصوم الإسلام وأشدهم، وأصبح بعد إسلامه من أعظم الشخصيات وأنبلها في الصدر الأول من تاريخ الإسلام، ذلك هو عمر بن الخطاب

حدث يوماً وهو في نوبة غضب على النبي أن خرج ومعه سيفه يريد قتله، فلقيه رجل من أقاربه فقال له:

(أين تريد يا عمر؟) (أريد محمداً الذي فرَّق أمر قريش وعاب دينها وسبَّ آلهتها فأقتله!)

فقال له: والله لقد غّرتك نفسك، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟

قال عمر: (وأي أهلي؟)

قال الرجل: (خَتَنُك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة زوجهُ، فقد والله أسلما!)

فرجع عمر إليهما وعندهما خباب يقرئهما القرآن، فلما سمعوا صوت عمر أخذت فاطمة الصحيفة فألقتها تحت فخذيها، وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال:

(ما هذه الهيمنة؟)

قال: (ما سمعت شيئاً)

قال: (بلى، وقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه)

وبطش بخَتَنِه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجعها، فلما فعل ذلك قالت له أخته:

(قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما شئت)

ولما رأى عمر ما بأخته من الدم في وجهها ندم وقال لها: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء به محمد. وبعد تردد أعطته الصحيفة وفيها (طه) فلما قرأ بعضها قال:

(ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!)

وانشرح صدره للإسلام وما لبث أن قال:

(دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم)

(يتبع)