مجلة الرسالة/العدد 296/رد على رد

مجلة الرسالة/العدد 296/رد على رد

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1939



بين القديم والجديد

لأحد أساطين الأدب الحديث

كنت أقرأ مختارات الشعر التي جمعها محمود باشا سامي البارودي الذي يعد زعيم المذهب القديم في الأدب في العصر الحديث؛ فوجدت أنه قد أختار في باب النسيب مجونا ليس بأقل من مجون الحسين بن الضحاك وأبي نواس الذي أختاره الدكتور طه بك في كتاب حديث الأربعاء بل بعضه أشد منه وبعضه مثله، فاختار لأبي نواس قصيدة قالها يتغزل في شاب جميل كان كاتبا في ديوان الخراج بدليل قوله في القصيدة:

ومر يريد ديوان ال ... خراج مضمخا عَطِرا

وكانت عادة الشعراء في ذلك العهد التغزل في ملاح كتَّاب الدواوين. وفي هذه القصيدة يقسم أبو نواس أن مُرَقَّشاً الشاعر العذري النزعة لو كان حيا لما أحب امرأة بل لأحب ذلك الكاتب المليح: وهذه هي القصيدة كما أوردها البارودي:

أما والله لا أشرا ... حلفتُ به ولا بَطَراً

لو آن مُرَقَّشاً حَيٌّ ... تعلَّق قلبه ذَكَرا

كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمرا

بوجه سابريٍّ لو ... تَصَوَّبَ ماؤه قَطَرا

وقد خَطَّتْ حَوِاضُنهُ ... له من عنبر طُرَرا

بعينٍ خَاَلطَ التَّفْتِيرُ ... في أجفانها حَوَرا

يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نَظَرا

واختار البارودي لأبي تمام قطعة قالها في غلام مملوك أهداه إليه الحسن بن وهب فقال:

قد جاءنا الرشأ الذي أهديته ... خَرِقاً ولو شئنا لقلنا (المركب)

والذي اختار هذا الشعر ليس الدكتور طه بك ولا هيكل باشا بل البارودي باشا.

وقد أوردنا قبل الآن اختيار البكري أشياء من مجون ابن الرومي ونشر الشيخ شريف مجونه أيضاً. ولكن الأستاذ الغمراوي ترك البارودي وترك البكري والشيخ شريف واختص الدكتور طه وهيكل. فإذا كان ذلك لأن البارودي عارض قصيدة البردة فقد ألف الدكتور طه على هامش السيرة وألف هيكل حياة محمد وفي منزل الوحي، ولا أظن أن أحدهما نشر شيئاً يقارب ما نشره البكري والشيخ شريف والبارودي

والفكرة التي يتبينها القارئ من كلام الأستاذ الغمراوي غير صحيحة، وهي أن المجون يعصم منه التدين فقد سمعنا في بعض حفلات إحياء المولد النبوي الكريم من التغزل في الذات النبوية من الشعر ما ينبغي أن ينزه عنه ذلك الحفل من ذكر الرضاب والريق والوصال الخ الخ على طريقة بعض الصوفيين.

وسمعنا بعض الأفاضل يختلفون في أمور ثانوية تافهة من أمور الدين، وكل منهم متدين، فإذا انصرف أحدهم ذكره مناظره بكل سوء وبالمجون واتهمه بالزندقة. بل رأينا أن أعظم سلاح شيوعاً في الدفاع عن الدين والفضيلة أو عن عقيدة الوطنية أو عقيدة سياسية هو سلاح المجون في القول وتهمه، وتعدى هذا السلاح هذه الأحوال إلى الدفاع عن النظريات العلمية والرأي يُرى في البحث العلمي. والحقيقة أن المجون مزاج لا دخل له بالتدين أو عدم التدين؛ وقد كان من أثر انتشار مزاج المجون أنك تقول قولاً سليماً تقصد به معنى نظيفاً فيكون أول ما تصنع عقول السامعين أن تفتش فيه عن تخريج إلى المجون، ولا فرق في ذلك بين المتدينين وغير المتدينين، ورأينا أناساً من المتدينين يدعوهم الحسد والحقد إلى اتهام كل من كان أغنى أو أعقل أو أنظف منهم بالمجون. ونعرف أن في علم النفس قاعدة تدل على أن بعض الناس حتى المتدينين منهم يتمنون لأنفسهم أماني المجون فيتلذذون بأمانيهم بنسبة ذلك المجون إلى غيرهم. وهناك طائفة من المتدينين صاروا ينافسون بعض رجال الصحافة والسياسة في سلاحهم السياسي ويحتجون باستعمال حسان بن ثابت هذا السلاح في الدفاع عن الدين، وقد فاتهم أن المسلمين كانوا في عهد قوله هم المضطهدين المشتومين وقد نالهم من أقوال خصومهم من السباب مثل ما نال المشركين من أقوال حسان بن ثابت. وفي يقيني أن النبي عندما دعا له أن يؤيده روح القدس وعندما نصحه أن يلجأ إلى أبي بكر الصديق لم يكن يريد أن يزيده سيدنا أبو بكر من شدة الهجاء فقد كان الشاعر به أعرف، ولكن النبي تحرج من الرمي بالباطل بالرغم من أن شعراء الكفار ما كانوا يتحرجون من ذلك. وقد ذهبت أقوالهم بعد ما انتصر الإسلام وبقيت أقوال حسان بن ثابت. ولو بقيت أقوال شعراء الكفار لدلت على ما أردنا إثباته وهو أن شعراء الكفار كانوا هم البادئين بتلك الطريقة في الهجاء. ومع ذلك فإن ديوان حسان بن ثابت خليق بأن يسمى ديوان العبر لأن سادة المشركين الذين هجاهم صاروا بعد إسلامهم سادة المسلمين، وفي هجائه بعض ما لا ينقصه الإسلام ولا يغيره. وهذا الديوان إذا أخذ على علاته دلّ على حالة خلقية لا يتوقع القارئ أن تكون في ذلك الزمن. والسير على هذه الطريقة من غير رقيب أو وازع هو من الإخلال بروح الدين في عصرنا وهو عصر ينقاد فيه السذج لمن يريد أن يشفى حقده أو حسده ممن لا دين له ولا خلق وإن تظاهر بالدين والخلق، وهذه حقيقة لا مبالغة في تعبيرنا عنها وقد لا يكون الأستاذ الغمراوي ممن يعرفها لبعده عن هذه الطوائف وبعده عن أحقادها وأقذارها ولكنها حقيقة يستطيع أن يراها في المجادلات السياسية وخصومات بعض المشتغلين بالسياسة والصحافة والأدب؛ فليس من العسير أن يفهم المفكر وجودها في بعض النفوس التي تتخذ السذج من المتدينين قنطرة للوصول إلى غرض شخصي، أو في نفوس بعض الذين لا يفهمون أن الدين ينبغي أن يترفع أنصاره عن المجون؛ لكن كيف تفهم ذلك نفوس مزاجها ذلك المجون. والمزاج لا يستطاع تجنبه مهما كان المرء متديناً. فالخطأ الذي وقع فيه الأستاذ الغمراوي عندما حسب أن شدة التدين تعصم من الانهماك في الشهوات، أو أنها تعصم من لذة قول المجون إنما هو خطأ الذي يحكم على غيره بحالة نفسه؛ فإذا وجد نفسه متديناً يكره المجون ظن أن التدين يعصم من المجون. وليسمح لي الأستاذ الغمراوي أن أقول بكل رعاية: إن هذا الظن يدل على أنه لم يدرس خصائص النفس الإنسانية عامة في نفوس الناس دراسة غير المتحيز وغير المتعصب لطائفة دون طائفة، فإنه لو فعل ذلك لعلم أن مقدار ما في نفس المرء من مجون لا يعينه مقدار تدينه، حتى ولو وجدنا أمثال الأستاذ الذين يعصم تدينهم من المجون. ونحن لا نريد التعرض لشواهد من شعر ونثر الأدباء القريبي العهد كرامة وصيانة؛ وأما من عداهم من المتدينين وغير المتدينين فما على الأستاذ إلا أن يخالطهم وأن يدرسهم من غير أن يشعرهم أنه يدرسهم إلا إذا كانوا يهابونه كل الهيبة فلا يظهرون أمامه حقيقة نفوسهم. والخطأ الثاني الذي وقع فيه الأستاذ هو ظنه أن الشكوك الدينية تمنع الاعتقاد. والخطأ الثالث حسبانه أن عجز الكاتب عن منع إذاعة هواجس نفسه يدل على أنها أكثر تمكناً من نفسه؛ ومثل الأستاذ كمثل الذي يرى صنبور ماء لا يقفل تماماً فيحسب أن ماءه أغزر من ماء غيره لأنه لا يستطاع إحكام حبس الماء من التسرب منه. وهذه الهفوات الفكرية هي التي وطدت السبيل لأن يفهم الأستاذ في النزعة إلى التجديد ما ليس فيها، ففهم أنها حركة التفاف يراد بها التعاون مع الحاقدين على الدين الإسلامي من الأوربيين. وقد أوضحنا للأستاذ بالشواهد التاريخية والأدلة المنطقية أن كل ما في هذه النزعة من محاسن ومفاسد كان من الممكن استنباطه من الآداب والعلوم العربية حتى ولو لم تتأثر النفوس بأدب اللغات الأوربية، وإنما كانت تحتاج إلى زمن أطول لاستخراج كل هذه الأمور لو لم تتأثر بأدب اللغات الأوربية. ولا أدري لماذا لم يتهم الأستاذ الغمراوي أبا العلاء المعري بأنه كان يريد أن يقوم بحركة التفاف وتطويق معاونة لأعداء الإسلام من الأوربيين

ومن رأيي أن الأستاذ الغمراوي يؤدي خدمة كبيرة للدين والفضيلة لو أنه ترك نزعة التجديد وحاول بغيرته الصادقة أن يطهر الشعور الديني من شوائب الأثرة والمجون في نفوس الناس الذين يعتقدون أن تدينهم صك يعفيهم من ضرورة تطهير أنفسهم من المجون ومن تهالك الأثرة وجشعها ووسائلها الخبيثة وأحقادها. وإذا كان شيخ الأدب القديم محمود باشا سامي البارودي لم يعصمه أخذه بالمذهب القديم من اختيار شعر أبي تمام في الغلام. فإن من الظلم يا أستاذ أن تلوم الدكتور طه وهيكل بعد ذلك على نشر قصص منقولة عن الفرنسية، وهي مهما كانت لا يبلغ بها المجون هذا المبلغ، وبعضها كان دراسات نفسية (سيكولوجية)، وإذا كان شيخ المعرة أبو العلاء المعري لم يرد أن يقوم (بحركة التفاف) لمعاونة أعداء الإسلام من الأوربيين عندما قال: (قالوا لنا خالق حكيم) إلى أن قال:

هذا كلام له خبئ ... معناه ليست لنا عقول

وعندما قال: (الموت نوم طويل لا انتهاء له)، وانظر إلى قوله لا انتهاء له، وعندما قال في إنكار البعث:

لو كان جسمك متروكاً بهيئته ... بعد التلاف طمعنا في تلافيه

ومثل قوله في فناء الروح:

وجسمي شمعة والروح نار ... إذا حان الردى خمدت بأفِّ

أقول بعد هذه الأقوال وأشباهها التي يتخللها أقوال أخرى تختلف عنها: إذا كان شيخ المعرة جديراً بإحياء المسلمين ذكراه، وطبع أقواله فمن الظلم أن يعد الأستاذ الغمراوي دراسة فولتير جريرة وحركة التفاف.

إن للدكتور طه آراء نخالفها كل المخالفة، ولكنها ليست حركة التفاف؛ إنما هي نتيجة التفكير الذي قد يخطئ وقد يصيب. وكذلك ليست القصص التي نقلتها السياسة الأسبوعية حركة التفاف وإنما يصح أن ينتقد الناقد نشر بعضها، وما دامت مكتبات مدارس البنين والبنات الدينية وغير الدينية مملوءة بمثل المجون وأشد من الفحش والمجون الذي سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سحيم عبد بني الحسحاس ينشده في بنت سيده ويقول:

ولقد تحدَّر من كريمة بعضهم ... عرق على جنب الفراش وطيب

فمن العبث لوم السياسة الأسبوعية على تلك القصص

(قارئ)