مجلة الرسالة/العدد 296/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 296/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1939



التصوير الإغريقي في مرحلته الثانية

للدكتور أحمد موسى

وكان لإبراز الصور بهيئة مجسمة على يد أبولودور الأثيني أثر عظيم في الاتجاه الفني، فلم ينته القرن الخامس ويبدأ القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت المدرسة اليونانية قد تأسست واشتغلت بإكمال الحلقة التي بدأها أبولودور، فتقدم تصوير اللوحات؛ وظهر زوبكس في الميدان وكذلك الذي اشتغل في أثينا وإيفيزوس. وكان كل منهما قادراً على التأثير في المشاهد بالنظر إلى ما بدا على رسومهما من تجسيم خادع

أما التلوين فقد ظل عندهما بسيطاً كما كان. وأما الموضوع الإنشائي فقد اتجه نحو تسجيل الجمال الهادئ، فضلاً عن بحثهما عن الموضوعات الجديدة اللافتة، فكان هذا سبباً لأن تصبح رسوماتهما ذات تأثير خاص، وحاولا إيضاح المعالم النفسية في تصوير الأشخاص.

وصورة زويكس لهيلينا وصورته لزويس محاطاً بالآلهة جديران بالذكر والاعتبار

ومن ضمن ما تخيره بارازيوس موضوعاً للرسم تصويره بروميتيوس في الأغلال، وبروميتيوس هذا هو الذي سرق - كنص القصة الإغريقية - النار من زويس لإعطائها للناس وعوقب بضغطه في الصخر حتى جاء هرقلس وخلّصه من محنته. وله صورة أخرى لا تقل عن هذه تمثل فيلوكتيت الصارخ الذي ورث نشاب هرقلس وقتل باريس في تروادة وغير ذلك للأشخاص ولأوديسيوس وثالث مصوري هذه المرحلة تيمانتيس الذي تفوَّق على بارازيوس، وكان مولعاً بتصوير المنظر المعبرة عن خوالج النفس المتصلة بالعقل. فصور (تضحية إيفيجاني) ابنة أغاممنون وكلينيمنسترا ? التي قُدمت قرباناً لأرتميس ابنة الإله زويس، والتي تقابل ديانا عند الرومان. وقد وجدت صورة حائطية في بمباي على نفس النمط، وهي من أروع الصور بالنظر إلى أهمية القصة.

ولم يصل إلى أيدينا من آثار تلك المرحلة إلا بضعة مصورات حائطية من باستوم (بمتحف نابولي الآن). وهي ترجع إلى آخر القرن الخامس. وصرة المحاربين العائدين تحت لواء النصر وصور الراقصات التي رسمت على أرضية بيضاء وتمتعت بقسط وافر من دقة الإخراج والحياة.

أما في القرن الرابع فقد وصل التصوير الإغريقي إلى أزهى أيامه لا من حيث الناحية الفنية والدقة فحسب، بل كذلك من حيث العمل الصناعي. وتُعد مدرسة سيكيون التي رأسها بامفيلوس من أبرز المدارس وأهمها.

وكان بامفيلوس نفسه عالماً وكاتباً في فن التصوير، وقد صور لوحات صغيرة لتمثيل المناظر الاجتماعية في دائرة محدودة، ولكنه تخصص في تصوير الزهر والأغصان، وله لمعشوقته جليكيرا صور عديدة، كما أن له صورة مشهورة أسماها محاربة الثيران

وقد وجدت مدرسة هامة من مدارس التصوير لها تاريخ مجيد، ألا وهي المدرسة الطيبية الأتيكية التي برز بعض العاملين فيها مثل نكوماخوس الذي اشتهر بسرعة العمل والإنتاج المبسط، وابنه وتلميذه أرستيدس الذي كان مولعاً بالمواقف الممثلة للحالات النفسية العنيفة وله فيها صورة فذة تمثل أماً تنظر إلى ابنها الرضيع يحتضر. وله تلميذ هو أويفرانور الذي اشتغل حينا في أثينا، وكان نحاتاً إلى جانب كونه مصوراً، كما كان كاتباً وعالماً، وله طابع مميز هو تصويره الرجولة في أكمل معانيها. وله قطعة معروفة أسماها (عراك الفرسان في مانتينا الواقعة في أركاديا الشرقية والتي تم النصر لايباميثنداس على الاسبرطيين فيها سنة 362 ق. م وغير ذلك في أثينا.

ولعل تلميذه وقريبه نيكياس من أحسن مصوري تلك المرحلة، فقد كان معاصراً لبركسيتلس ولون له بعض تماثيله، واشتهر بالتصوير بالشمع ووصل إلى دوجة عليا في صناعة الألوان، وكانت له عناية خاصة باختيار الموضوعات الجديرة بالتصوير، فصور مناظر القصة الإغريقية وأبدع في تصوير أبطالها من الرجال والنساء.

أما أعظم مصوري الإغريق إطلاقاً فهو أبيلليس الكلوفوني الذي عاش في إفيزوس والذي تمتع بأكبر قسط من التقدير والشهرة؛ فأسموه بحق (بوكسيتلس التصوير) أو (رفائيل العصر القديم). عاش في النصف الثاني من القرن الرابع، ودعاه الملك فيليب إلى قصره، ثم عمل كمصور في بلاط اسكندر الأكبر، وقد قدره أحسن تقدير ورعاه أجمل رعاية. ومما هو معروف عنه أنه كان على غاية التواضع ولين العشر، وكانت له كلمات خالدة ذهبت مثلاً بين الناس.

وينحصر طابعه المميز في أنه وحّد بين الاتجاه الهادئ للمدرسة اليونية وبين الميل العنيف الذي غلب على إنتاج المدرسة السيكيونية فضلاً عن أنه كان مصوراً تخطيطياً من الطراز الأول. ولا يزال معدوداً من الطبقة الأولى، بل ولم يكن لغيره في العصر القديم أن يصل إلى مرتبته في العمل الصناعي والتكوين الإنشائي والجمع بين الظل والنور وحسن استخدام اللون.

هذا إلى جانب القدرة الهائلة في تمثيل الطبيعة أصدق تمثيل؛ فدل بذلك على دقة الملاحظة في أكمل معانيها؛ فيرى الناظر إلى مجموع إنتاجه مما وصل إلى أيدينا أنه كان مَثلياً في اختيار الجمال وتكييفه وعرضه في ثوب الأناقة والمباهاة التي أصبحت له وللوحاته دون غيره من مصوري عصره مع توافر البساطة في الإخراج.

وقد اقتصر على تصوير اللوحات فلم تكن له صور على أواني الزهر أو على الحوائط. وأهم ما تركه من العمل الفذ حقاً صورة لأفروديت أناديومين في معبد أسكليبيوس بقوص والتي أخذت إلى روما في وقت ما. صور أفروديت تظهر خلال أمواج البحر، فبدا نصفها الأعلى وأخذت تنثر شعرها بيديها. وكانت لهذه الصورة منزلة عظيمة عند معاصريه، وأثر كبير على الفنانين إلى حد أن بعض النحاتين مثّلها في الرخام بنفس طريقته وعلى نمط إنشائه.

وله غير ذلك صورة (لأرتميس وعرائس البحر) وصورة لهرقليس وخاريس، ولوحات لاسكندر الأكبر في صورة الإله زويس بمعبد أرتميس في إفيزوس؛ وصورته له كفارس محاط بأوضاع رمزية لحاشيته. وكانت له معشوقة هي بانكَسَبا التي كان لها حظ التخليد على يديه.

ووجد غيره من الفنانين، منهم من كان على اتصال به مثل بروتوجينيس الذي عمل صوراً فردية ولكنها كانت على أعظم جانب من صدق المحاكاة وأبرع قسط من جمال الإخراج. وأهم ما نذكره له صورتان إحداهما لياليزوس هيروس وأخرى لسانير متعب

وللمصور آتيون صورة مشهورة لزواج الإسكندر من روكسانا. ولا بد لنا من ذكر المصور ساموس والمصور أنتيفيلوس الذي عاش وانتج في مدينة الإسكندرية

وفي هذه المرحلة تطور فن التصوير من حيث الرغبة في إخراج اللوحات الصغيرة التي يمكن لأكثر الناس اقتناؤها. وأول من اتجه هذا الاتجاه الفنان بايريكس الذي صور مناظر دكاكين الحلاقين وصانعي النعال وبائعي الخضروات والمأكولات فأظهرها إظهاراً بديعاً

وإذا بدا الجفاف على هذا المقال فذلك لأنه مقال علمي خال من حشو القول، ولا غاية لنا منه سوى توجيه القارئ إلى نواحي الفن العريق؛ فيحصل على قسط من المعرفة يكسبه شيئاً من الميزة والدراية والتثقيف الواجب، فيكبح من جماح إعجابه السريع بكل ما يراه لصغار الفنانين الذين يدعون لمجرد عرض بعض لوحاتهم وإطناب الصحافة التي ليس لها في قياس الإنتاج الفني معيار، أنهم وصلوا إلى القمة. أما أولئك الذين يشتغلون بالفن ويعتبرون أنفسهم من تلاميذه، فإليهم أيضاً أكتب آملاً أن يكون فيه بعض التوجيه لما يفيد وبعض التهيئة لإنتاج جدير بالاعتبار والتقدير

أحمد موسى