مجلة الرسالة/العدد 296/منطق الغنى
مجلة الرسالة/العدد 296/منطق الغنى
لقيت أول أمس على مقهى (أتينيوس) بالإسكندرية رجلاً من نابهي
النواب أعرفه معرفة لا تقرّب ولا تبعّد. هذا الرجل ينزع بطبعه منزع
الأرستقراطيين في نمط العيش وأسلوب التفكير ورونق المنظهر؛ فهو
يتجمل بالزينة، ويتنبَّل في الكلام، ولا ينفك يعلك ألفاظ المثرين
المترفين كالبنك والبرصة والسيارة والخيل والسباق والسهرات
والحفلات والملاهي حتى لتظنه المرجع الحجة في أولئك جميعاً.
ونباهة هذا النائب لم تأته عن طريق الفطنة أو الخبرة أو الكياسة،
وإنما أتته عن طريق التهويش والتهريج والسياسة؛ فهو في مجلس
النواب جزء من كرسيّه لا يتحرك ولا ينبس؛ ولكنه في الأمور الحزبية
والانتخابية ولاّج خرّاج يجذب الزعماء بالمآدب الصاخبة، ويخلب
الناخبين بالوعود الكاذبة، ويدرج بالدعوى والدعاية من قهوة إلى قهوة
قال لي بعد أن تبجح طويلا بقوة أثره في توجيه المجلس، وتسفيه المعارضة، وتنظيم النادي، وتقويم الحكومة:
- مالك وللأغنياء توغر عليهم صدور الصناع والزراع والخدم؟
- عجيب! وهل تقرأ الرسالة؟
- إنما يقرأها ابني وابنتي؛ وهما متأثران بها ومشايعان لها، ولا يزالان يجادلانني فيما تكتب وتطلب حتى أترك لهما الدار! فهل تريد أن يكون الناس كلهم سواء في الثروة، وليسوا كما تعلم سواء في الذكاء والقوة؟
- يا سيدي ما اعتقدنا ذلك ولا كتبناه. فإنا نؤمن بالغنى والفقر كما نؤمن بالقضاء والقدر. والتفاوت في الطبع والكفاية والحيلة والوسيلة مبدأ مقرر في الطبيعة، ونظام مسلّم في الدين؛ ولكنا نحاول أن نُذَكر الأغنياء، أن الّله الذي خلقهم وخلق الفقراء، قد جعل جُمعةَ ما بينهم وبينهم قائمة على أساس من المودة والرحمة يكفل المخالصة ويضمن السلامة. فإذ تعهدوا هذه الصلة الإلهية بالبر، فمنح القادر العاجز روحاً من قواه، ونفح الواجد الفاقد قليلاً من جدواه، سارت القافلة الإنسانية في طريقها إلى الكمال الممكن غير ظلعاء ولا وانية. وإذا أردنا المساواة فإنما نريدها في الحق والواجب، وإذا ذكرنا المشاركة فإنما نذكرها في حدود الإحسان والزكاة
- الإحسان يغري بالكسل ويعين على بقاء الفاسد. والفقير في أكثر أمره عليل الجسم أو العقل؛ فلم لا يكون من الخير أن يترك للحرمان حتى يذبل ويسقط؟
- إذا استطعت أن تنفذ هذا الرأي في أسرتك الخاصة، استطعنا أن ننفذه في أسرتنا العامة. فهل في مقدورك أن تترك ابنك المعلول الذي لا يبرأ، وأخاك المخبول الذي لا يعي، حتى تعصف بهما المنون كما تعصف ريح الخريف بالورق الجفيف؟
- ما أظن القلب يطيع العقل في ذلك
- ومن قال لك أن العقل يخولك حق الله على خلقه؟ إن للفقير حق الحياة، وليس لك عليه حق الموت. والله الذي خلق الكون خلق الفساد وجعل لكل منهما قوانين يجري عليها في الطبيعة. وستنالك أنت على الرغم من قوتك وغناك عوامل الذُّوىِّ والبلى، فهل تقبل من ذوي رحمك ووارثي مالك أن يدعوك فريسة الهرم والمرض، كما يدع القطيع الحمار المحموم في الفقر الجديب؟
رأى صاحبي أن هناك مدارك من فهم الحياة استعجمت على ذهنه الشارد، فغمغم بعض الجواب وبيّن بعضه الآخر حين قال:
-. . . ولكنني أعلم أن الزكاة في أوربا ليست مشروعة ولا مجموعة، ومع ذلك تجد الفقر محمولاً والحياة آمنة. فكل إنسان يعمل، وكل حي يعيش
- لا يغرنك يا سيدي ما تعلم من ظواهر الحياة الأوربية، فإن مدنيتها طلاء على صدوع، وكبرياء على خضوع. ولولا قيام الأديرة بجمع الصدقة وتنظيم الإحسان، ونهوض الحكومات لحماية العجز وتوفير العمل، لرأيت البؤس كرمز الموت هيكلاً بادي العظام لا تستره أثواب ولا تحجبه أبواب
- وما قولك في أمريكا؟ أليست المسافة فيها بين الفقراء والأغنياء، كالمسافة بين الأرض والسماء؟ ومع ذلك لا تجد بين هؤلاء وهؤلاء حسداً ولا ضغينة - عفواً يا صاحب العزة! لقد عرفت القياس وأنكرت الفارق. إن أكثر المنافع في أمريكا من فضل الغنى؛ فكيف يبطن الفقير له الغل وهو يتعلم في مدرسته طفلاً، ويعمل في مصنعه رجلاً، ويتداوى في مستشفاه مريضاً، ويأوي إلى ملجئه شيخاً؟ إن صاحب الملايين في الدنيا الجديدة مثل الإنسان الأعلى: أثرى بالكد والإيمان والكفاية، ودبر ثراءه على قواعد الوطنية والإنسانية والدين، فكان حرباً على الجهل والبؤس والشر، وعاملاً للسلام والوئام والمحبة. أما أغنياؤنا فمثال الطمع الجريء والشح الدنيء والصلف العاتي: أثروا بالإرث أو بالحرص أو بالحظ أو بالحيلة؛ ثم كدروا صفو الحياة على الفقير، فهم يزاحمونه على المجانية في المدارس، ويغلبونه على الوظائف في الدواوين، ويدوسونه بسياراتهم في الشوارع، ويسلبونه بطماعتهم في المزارع، ويصدونه عن البرلمان حتى لا يكون لغير أقوالهم سميع، ولا يصدر بغير إرادتهم تشريع
ونظر صاحبي في ساعته ذات السوار، ونظرت أنا إلى البحر فإذا هو يمور ويفور، والصيادون المساكين يكافحون العاصفة ليصيدوا لهذا الغنى المبطان لوناً من الطعام تكمل به مائدته الموقرة الحافلة!
ثم افترقنا وكل منا على رأيه!
احمد حسين الزيات