مجلة الرسالة/العدد 297/المعاهدة السرية
مجلة الرسالة/العدد 297/المعاهدة السرية
لِلأستاذ محمد عَرفة
قبل هجرة محمد ﷺ في الليلة الثانية عشرة من ليالي ذي الحجة بعد أن قضى الناس حجهم خرج جماعة من رحالهم المضروبة في وديان منى وضواحيها بعد أن مضى الثلث الأول من الليل، خرجوا يتسللون تسلل القطا يمشون الهوينا، فلا يسمع وقع خطاهم على الأرض أحد كأنما يخافون أن يشعر بهم الناس. خرجوا فرادى وجماعات، وكلهم يقصد جهة معينة هي العقبة، وكلما وصل إليها فوج منهم نزل بها حتى كملوا سبعين رجلاً
جلسوا يتناجون في صوت خفي، لا يسمع إلا همسهم وتتابع أنفاسهم. جلسوا كأنما ينتظرون قادماً يقدم عليهم كانوا معه على ميعاد. . .
وبينما هم كذلك إذا برجلين قد أقبلا يؤمانهم، ويريدان مكانهم، فلما تبينوهما خفوا إليهما، ونهضوا فسلموا عليهما. وكانت هذه الجماعة من سكان يثرب من الأوس والخزرج، وكان هذان القادمان عليهم محمد بن عبد الله وعمه العباس بن عبد المطلب
وكانا معهم على ميعاد
ليت شعري ما الذي حفز هذه الجماعة على أن تخرج من رحالها وتقصد هذا المكان القصي؟ وما الذي حفز محمداً وعمه العباس أن يتركا منزليهما بمكة ويسيرا تحت ستار الليل والناس نيام ويوافياهم عند العقبة؟ كان محمد يريد الهجرة إلى المدينة وكان يريد أن يعقد مع أهلها معاهدة سرية على أن يحموه ويعززوه وينصروه.
فلما جلسا وجلس الناس حولهما، تكلم العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له فقال: (يا معشر الأوس والخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، وما نعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده)
فلما انتهى العباس من كلامه قالوا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك وربك ما أحببت. فتكلم رسول الله، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فتقدم إليه البراء بن معرور وأخذ بيده وقال: والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أنفسنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر
فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان وقال: يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود حبالاً، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنتم مني، وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. فصرخ فيهم العباس ابن عبادة الأنصاري وقال: يا معشر الخزرج، هل تدرون على م تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال، إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتل، أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم؛ وإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة. قالوا: أبسط يدك. فبسط يده فبايعوه
وبعد أن تمت المعاهدة قال لهم رسول الله: ارفضوا إلي رحالكم. فقال له العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول الله: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعوا إلى مضاجعهم. فلما أصبحوا غدت عليهم أكابر قريش، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنا قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا، تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. وكان مع المسلمين الذين عقدوا المعاهدة قوم مشركون من المدينة لم يعلموا بما كان منها فانبعثوا إلى قريش يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه. ثم تفرق القوم، ورجع الأنصار إلى المدينة، وأقام رسول الله بقية شهر ذي الحجة من تلك السنة والمحرم وصفر وهاجر إلى المدينة في ربيع الأول
وكانت هذه المعاهدة السرية التي عقدها رسول الله بينه وبين أهل المدينة هي أول حادث أعز الإسلام وقواه ومكن له في الأرض وكتب له البقاء والخلود، في هذا الوجود لم يكن أهل المدينة حين عقدوا هذه المعاهدة مع رسول الله يجهلون ما وراءها، فقد كانوا يعلمون أن وراءها حرب العرب جميعاً لأن العرب جميعاً على خلاف هذا الدين الجديد، وهم لا محالة معارضوه ومحاربوه، وقد ذكرهم بذلك العباس بن عبادة فلم يشفقوا من ذلك وأقدموا عليه وهم يعلمون ما يفعلون، ويعنون ما يقولون
علموا ذلك كله فلم يهلهم ولم يفزعهم، وأقدموا عليه طيبة به قلوبهم، راضية به نفوسهم. لقد عرض رسول الله (ص) نفسه قبل ذلك على القبائل، فأشفقوا منه ولم يقو أحد على حمل هذا العبء الثقيل.
لقد ذهب إلى ثقيف بالطائف وعرض عليهم الإسلام، فامتنعوا وقال له أحدهم: ما وجد الله أحداً يرسله غيرك. وقال آخر منهم: لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، ثم نجاه الله منهم. وكان ينتظر أيام الحج فيذهب إلى الحجاج من العرب في منازلهم ويعرض عليهم الإسلام فيأبون عليه، ذهب إلى كندة في منازلهم فامتنعوا عليه، وأتى كلباً فامتنعوا عليه، وأتى بني حنيفة فردوه أقبح رد.
لم يقدروا على حمل هذه الأمانة، وادخرها الله لهذا الحي من أهل المدينة فقد جاء نفر منهم إلى موسم الحج، فلقيهم رسول الله فقال لهم: من أنتم؟ قالوا نفر من الخزرج. قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم. قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فآمنوا به وصدقوه وقالوا له: قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله على يديك، فلا رجل أعز منك. ثم رجعوا إلى المدينة ودعوا قومهم إلى الإسلام فأجاب منهم خلق كثير، ثم جاء منهم قوم إلى مكة وقابلوا رسول الله، وكانت المعاهدة التي ذكرناها.
إن هذه المعاهدة لتدل على ما للأنصار من جلد وقوة وشجاعة وبسالة وكرم وتضحية وإيثار
أباحوا أرضهم وديارهم وأرزاقهم لمن هاجر إليهم من المسلمين فقاسموهم ما عندهم، وآثروهم على أنفسهم فتحوا بها صدورهم لحراب العرب ورماحهم، وقطعوا بها حبالهم التي كانت بينهم وبين العرب، فما أعظم هذه التضحية، وما أجل هذا الإيثار
وبحسبهم أن الله سجل لهم مفاخرهم ومكارمهم في قوله:
(والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)
محمد عرفة