مجلة الرسالة/العدد 297/حالة العرب الاجتماعية في عصر الدولة الأموية

مجلة الرسالة/العدد 297/حالة العرب الاجتماعية في عصر الدولة الأموية

مجلة الرسالة - العدد 297
حالة العرب الاجتماعية في عصر الدولة الأموية
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1939



للدكتور حسن إبراهيم حسن

أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب

كان لاختلاط العرب والروم وغيرهم من الأمم الأخرى أثر كبير في تغيير عاداتهم وحياتهم الاجتماعية وبخاصة في عهد الأمويين فقد تأثر معاوية بن أبي سفيان بنظم الحكم التي أدخلها الروم في بلاد الشام وابتكر ابتكارات لم يسبقه إليها أحد، فهو أول من أتخذ الحشم وأقام الحجاب على بابه ووضع المقصورة التي يصلي الخليفة بها الخليفة في الجامع منفرداً عن الناس وذلك لخوفه مما جرى لعلي رضا الله عنه

وكان من أقدس واجبات الخليفة أن يؤم الناس في صلاة الجمعة والصلوات الخمس. وقد سار على ذلك الخلفاء الراشدين وبعض الخلفاء بني أمية. وكان الخليفة في العهد الأموي يحضر إلى المسجد مرتدياً ثياباً بيضاء وعمامة بيضاء مرصعة بالجواهر ويرقى المنبر لإلقاء خطبة الجمعة وبيده الخاتم والعصا، وهما شارتا الملك

وقد تشبه خلفاء بني أمية بالملوك وأبهتهم، وكان الخليفة يجلس في صالة الاستقبال الكبرى وعلى يمينه أمراء البيت المالك وعلى يساره كبار رجال الدولة ورجال البلاط ثم يمثل بين يديه رسل الملوك وأعيان البلاد ورؤساء النقابات والشعراء والفقهاء وغيرهم

وكان الخلفاء الأول من بني أمية يستمعون في أوقات فراغهم إلى أخبار الحروب وسير فرسان العرب في الجاهلية، فكان معاوية يقرأ أخبار العرب وأيامها وسير ملوك العجم وسائر ملوك الأمم وحروبها وسياساتها لرعيتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، وكان يقرأ عليه ذلك غلمان مرتبون، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات

وكان الأمويون يستمعون لقصائد الشعراء ويمنحونهم الجوائز ويخلعون عليهم الخلع. ولم يلبث أن حل الغناء محل الشعر، كما كلف الناس بالموسيقى والغناء، وتدفقت على دمشق طبقات المغنين المشهورين والموسيقيين الذين كان الخلفاء يدعونهم إلى دمشق من أقاصي البلاد

وكان لعب الشطرنج و (الدومينو) والورق معروفاً عند الأمويين. ومن الألعاب التي ش في ذلك العصر قتال الديكة على الرغم من أن الوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز حرما هذا النوع من الألعاب

وكان سباق الخيل من أهم تسلية الشعب على اختلاف طبقاته. ويقال إن هاشم بن عبد الملك الأموي كان أول من أقام حلبات السباق لتحسين نتاج الخيل حتى أنه اشترك في السباق معه أربعة آلاف من خيله وخيول الأمراء.

وكانت المرأة العربية في ذلك العصر تتمتع بقسط وافر من الحرية، وكانت المرأة متحجبة على الرغم من أنها كانت تقابل الرجال وتتحدث إليهم وتقود الجيوش.

وقد أوجب الإسلام تعلم العلم على كل مسلم ومسلمة، كما أوجب على أمهات المؤمنين أي زوجات الرسول أن يعلمن الناس ويعلمن أبناءهم وبناتهم، وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى بذلك فقال في كتابه العزيز (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) ناهيك بعائشة أم المؤمنين فقد اشتهرت بالفقه ورواية الحديث والتاريخ والنسب والطب وعلم النجوم وقادت جند المسلمين يوم الجمل سنة 35هـ كما اشتهرت أختها أسماء بنت أبي بكر وأم عبد الله بن الزبير برواية الحديث والكرم والشجاعة، فقد أثر عن عبد الله بن الزبير أنه لما انظم بعض اتباعه إلى الحجاج ابن يوسف الثقفي قائد الخليفة عبد الملك بن مروان الأموي وبقي هو في عدد قليل من أنصاره وأيقن نه مقتول لا محالة دخل على أمه فقال يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا - فما رأيك؟

قالت: أنت أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية، يلعبون بها. وإن أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك. وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين. كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. فقالت: يا بني أن الشاة لا تتألم بعد ذبحها. فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقبل رأسها وقال: هذا رأيي. فطفقت أمه تدعو له وتشجعه. وخرج عبد الله بعد ذلك وقاتل أهل الشام قتالاً شديداً، وأظهر شجاعة نادرة حتى حمل عليه العدو وقتلوه. ولم يهب القتل بفضل تشجيع أمه التي ضربت المثل الأعلى في الشجاعة والتضحية في سبيل إعلاء شأن الوطن.

وليس أدل على جرأة المرأة وشجاعتها من ذلك الحوار الذي دار بين معاوية وبين الدارمية، فقد روى القلقشندي (صبح الأعشى ج1 ص259 - 260) أن معاوية حجّ فسأل عن امرأة من بني كنانة تسمى الدارمية، وكانت سوداء كثيرة اللحم فجيء بها، فقال لها: ما حالك يا ابنة حام؟ قالت: لستُ لحامٍ أُدعى، إنْ عِبْتَني أنا امرأة من بني كنانة. قال: صدقتِ أتدرين لمَ أرسلتُ إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: بَعَثتُ إليك لأسألك علامَ أحْبَبْتِ عليًّا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك. قالت: أما إذ أبيت، فإني أحببت علياً على عدْله في الرعية وقَسْمِه بالسوَّية، وأبغضتُك على قتالك مَنْ هو أوْلى بالأمر منك، وطلبك ما ليس لك بحق. وواليتُ علياً على ماُ عقد له من الولاية، وعلى حبه المساكين وإعظامه لأهل الدين؛ وعاديتك على سفك الدماء وَجوْرك في القضاء وحكمك بالهوى. قال: ولذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك. . . قالت: يا هذا، بهند كانت تضرب الأمثال لا بي. . . قال لها: فهل رأيتِ علياً؟ قالت: لقد كنت رأيته. قال: كيف كنتِ رأيته؟ قالت: رأيته لم يفتنه الملك لذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك. قال لها: فهل سمعت لكلامه؟ قالت: نعم! والله كان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الطَّست من الصدأ. قال: صدقتِ، فهل لكِ من حاجة؟ قالت: وتفعل إذا سألتك؟ قال: نعم! قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فْحَلها وراعيها. قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت: أُغَذِّي بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأصلح بها بين العشائر. قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أَحُلُّ عندك محل عليّ؟ قالت: ماء ولا كصدّاء، ومرعى ولا كالسَّعْدان، وفتى ولا كمالك. يا سبحان الله أو دُونَه. فأنشأ معاوية يقول:

إذا لم أعد بالحلم مني إليكم ... فمنْ ذا الذي بعدي يُؤَمَّل للحلم؟

خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العدواة بالسِّلْمِ

ثم قال: أما والله لو كان علياً ما أعطاك منها شيئاً. قالت: ولا وبرة واحدة من مال المسلمين

وممن اشتهر من نساء العرب في ذلك العصر أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك، وبنت عبد العزيز بن مروان، وأخت الخليفة عمر بن عبد العزيز. قال المسعودي في مروج الذهب (ج2 ص152 - 153): وفد الحجاج بن يوسف على الوليد في بعض نزهه، فاستقبله. فلما رآه ترجل له وقبّل يده، وجعل يمشي وعليه درع وكنانة وقوس عربية؛ فقال له الوليد: اركب يا أبا محمد! فقال: دعني يا أمير المؤمنين أستكثر من الجهاد، فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عنك، فعزم عليه الوليد حتى ركب، ودخل الوليد داره، وتفضَّل في غلالة، ثم أذن للحجاج، فدخل عليه الحجاج في حاله تلك وأطال الجلوس عنده. فبينما هو يحادثه إذ جاءت جارية فساررَّت الوليد ومضت، ثم عادت فساررَّته ثم انصرفت. فقال الوليد للحجاج: أتدري ما قالت هذه يا أبا محمد؟ قال: لا والله. قال: بعثتها إليّ ابنة عمي أم البنين، بنت عمر ابن عبد العزيز تقول: ما مجالستك لهذا الأعرابي المتسلح في السلاح وأنت في غلالة؟ فأرسلت إليها أنه الحجاج، فراعها ذلك وقالت: والله ما أحب أن يخلو بك وقد قتل الخلق. فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين! دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعهن على سرك ولا مكايدة عدوك، ولا تطمعهن في غير نفسك، ولا تشغلهن بأكثر من زينتهن. وإياك ومشاورتهن في الأمور، فإن رأيهن إلى أَفَنْ، وعزمهن إلى وهن؛ واكفف عليهن من أبصارهن بحجبك، ولا تُملّك الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها، ولا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها، ولا تُطل الجلوس معهن، فإن ذلك أوفر لعقلك، وأبْين لفضلك. ثم نهض الحجاج فخرج، ودخل الوليد على أم البنين فأخبرها بمقالة الحجاج، فقالت: يا أمير المؤمنين! أحب أن تأمره غداً بالتسليم عليّ، فقال: أفعل. فلما غدا الحجاج على الوليد قال له: يا أبا محمد! سر إلى أم البنين فسلم عليها. فقال: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين. فقال: لابد من ذلك. فمضى الحجاج إليها فحجبته طويلاً، ثم أذنت له فأقرته قائماً ولم تأذن له في الجلوس؛ ثم قالت: إيه يا حجاج! أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتل أبن الزبير وابن الأشعث؟ أما والله لولا أن الله جعلك أهون خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة، ولا بقتل ابن ذات النطاقين وأول مولود ولد في الإسلام (تعني عبد الله بن زبير). وأما ابن الأشعث فقد والله والى عليك الهزائم حتى لذت بأمير المؤمنين عبد الملك فأغاثك بأهل الشام، وأنت في أضيق من القرن، فأظلتك رماحهم، وأنجاك كفاحهم. ولولا ذلك لكنت أذل من النقد. وأما ما أشرت على أمير المؤمنين من ترك لذاته والامتناع من بلوغ أوطاره من نسائه، فإن كن ينفرجن عن مثل ما انفرجت به عنك أمك فما أحقّه بالأخذ عنك والقبول منك، وأن كنْ يتفرجن عن مثل أمير المؤمنين فإنه غير قابل منك ولا مصغ إلى نصيحتك. قاتل الله الشاعر وقد نظر إليك وسنان غزالة الحرورية بين كتفيك حيث يقول:

أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامَةٌ ... فتخاء تفَزَع من صفير الصَّافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر

أَخرجْنَه عني! فدخل إلى الوليد من فوره، فقال: يا أبا محمد! ما كنت فيه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما سكتَتْ حتى كان بطن الأرض أحَبَّ إليّ من ظهرها. فضحك الوليد حتى فحص برجله الأرض ثم قال: يا أبا محمد أنها بنت عبد العزيز

ومن مظاهر الترف في دمشق حاضرة الأمويين أنه كان لكل دار فناء مستطيل على جوانبه أعمدة من الرخام ومماش مرصوفة بالحجارة أو الحصباء على أشكال هندسية منتظمة. وفي الفناء نافورة يحيط بها حديقة صغيرة بها الأزهار الزكية الرائحة، وتظلها أشجار البرتقال والليمون، وأمام الباب شباك يوضع فوقه الطست والإبريق للوضوء - وكانت قصور الأغنياء مكونة من طابقين أحياناً - وفي الشتاء تكسى الحجرات بالسجاد الثمين وتدفأ بالمنهل (الموقد). أما في الصيف فكانت النافورات والنوافذ كفيلة بتلطيف حرارة الجو. وكانت سقوف الدار مزدانة بنقوش على الطراز العربي أو مطلية بالذهب. ولم تكن هناك مقاعد، فإذا كان صاحب الدار من أصحاب اليسار، وضعت السجاجيد بعضها فوق بعض لتكون بمثابة مقعد له

وكان قصر الخليفة الأموي بدمشق غاية في الأبهة. وقد ازدانت جدرانه بالفسيفساء، وأعمدته بالرخام والذهب، وسقوفه بالذهب المرصع بالجواهر. وقد لطف جوه النافورات والمياه الجارية والحدائق الغناء بأشجارها الظليلة الوارفة. وقد شيد الحر بن يوسف حفيد مروان بن الحكم الذي ولي بلاد الموصل في عهد هشام ابن عبد الملك، داراً منيفة من الرخام الخالص والمرمر، عرفت بالمنقوشة لما تمتاز به من النقش البديع، كما بنى خانات (فنادق) في الموصل. وقد رأى الحر ما يعانيه أهل الموصل من المشاق في سبيل الحصول على ماء الشرب، فشق قناة لا تزال باقية إلى اليوم؛ وغرس الأشجار على ضفتها حتى أصبحت بمثابة متنزه عام لأهل المدينة

وكانوا يرتدون العباءة فوق القباء ويصنعونها من وبر الجمل. وكانوا يرتدون في الحرب أردية خاصة فيلبسون السروال عادة ورداء قصيراً بدلاً من الثياب الفضفاضة (الواسعة) المتدلية. أما لباس الرأس فهو العمامة كما كانوا يلقون الطيلسان فوق العمامة. وهو عبارة عن منديل كبير متدل إلى الكتفين ليقي الرقبة حرارة الشمس. وكانت الملابس تختلف تبعا لثروة الناس ومركزهم الاجتماعي ونوع عملهم. فكسوة الفقيه والكاتب تختلف عن ثياب الجند. وكان رؤساء القبائل وغيرهم من علية القوم يرتدون قباء يصل إلى الركبتين يعلوه سروال ثم جلباب فضفاض يتدلى إلى العقبين ويشده من الوسط حزام من الحرير، ويلبسون فوق كل ذلك الجبة أو القباء.

وكانت ثياب المرأة تتكون من سروال فضفاض وقميص مشقوق عند الرقبة عليه رداء قصير ضيق يلبس عادة في البرد. وكانت إذا خرجت من بيتها ترتدي ملاءة طويلة تغطي جسمها وتقي ملابسها التراب والطين، كما كانت تلف رأسها بمنديل يربط فوق الجبهة.

وكان العرب يكتفون بالقليل من الطعام، فلم يتجاوز طعامهم اللون أو اللونين. وكان خير أطعمتهم الثريد وهو الخبز يفت ويبل بالمرق ويوضع فوقه اللحم. وقد تغيرت أطعمتهم وتعددت ألوانها. وفي عهد الأمويين استعمل العرب الفوط والملاعق كما كانوا يجلسون على الكراسي حول مائدة الطعام التي كانت تكسى بمفرش من القماش.

حسن إبراهيم حسن