مجلة الرسالة/العدد 297/درس للزعماء في سيرة زعيم

مجلة الرسالة/العدد 297/درس للزعماء في سيرة زعيم

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1939



لَلأستاذ سعيد الأفغاني

في حياة خالد بن الوليد الحافلة بالبطولة والرجولة، درس للصغير والكبير؛ غير أن ما يحيط بنهضة العرب اليوم من تناحر على الغنائم، والمعركة لم تنته بعد، يحتم أن نعرض لعبرتين في سيرة الفاتح العظيم، فيهما درس بليغ، ينتفع به من في قلبه حبة خردل من إخلاص. وكذلك التاريخ أيها القارئ يسعفك كلما كلب الزمان وحرب العدو، ولن تعدم منه أبداً سراجاً يضيء حاضرك ويبصرك بالسبل وينجح لك المساعي، ويريك بم كان تقدم المتقدمين وفوز الفائزين، وبم كان التأخر والذلة والخسران

أما الأولى من العبرتين، فهي أن خالداً من أبطال قريش وصناديدهم، بل هو البطل فيهم لا يعدله غيره. أظفر الله المسلمين بالمشركين يوم بدر، فكان عليهم عار الأبد، وأصبحوا بهزيمتهم سبة بين العرب؛ فما قر لهم قرار، حتى تألبت جموعهم في أحد، متعطشة إلى الثأر، ثم تقع الواقعة فينهزمون أيضاً. ويريد ربك أن يصاب المسلمون بعد نصرهم، لتكون لهم الهزيمة بعد الظفر درس الأبد، فلا يخالفون رئيساً بعدها أبداً. ثم لا يفطن إلى خلو الجبل من الرماة إلا خالد اليقظ، فيحيط بالمسلمين - وهم لاهون بالغنائم - من خلفهم، وينتعش المشركون حينئذ، وتكون المصيبة في المسلمين بالغة؛ فكانت هزيمتهم، وكانت الفرحة الكبرى لقريش أن ثأروا لقتلاهم يوم بدر، ورفعوا عن أنفسهم العار، وكان أن ذهب بفخر هذا اليوم كله خالد.

هذا القائد الباسل الذي طارت شهرته في أهل الشرك والتوحيد على السواء، وقع في قلبه أن الإسلام حق، فرمى بالقيادة والشهرة جانباً، ووطن نفسه على الأذى يناله من قريش، الذين سيحنقون أشد الحنق، وقصد إلى النبي ليقبله مسلماً في المسلمين، وقد سأله في طريقه عمرو بن العاص: (إلى أين يا أبا سلمان؟) فقال: (والله قد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم؛ فحتى متى؟!)

ألا يجد رؤساء الناس وزعماؤهم في هذه عبرة ودرساً، ألا يدعون نصرة أهوائهم وإرضاء نفوسهم، ليقبلوا على أمر تبين رشده فيتبعونه؟ إن الناس لينظرون إليهم، وإن الله لسائلهم عن الوطن والدين يتجرون بهما، وعن العامة يلعبون بعقولهم، وقد أعطوا الله موثقاً: ليكونن مع الحق حيث كان، وليقومُن بنصرته وحده لا نصرة نفوسهم ونزغاتهم. جمعهم وطن واحد فراموه أجزاء وأشلاء، واستعدوا الأجنبي المتربص بهم ليحفظ عليهم رياساتهم الواهية، فنال هذا فريسته بسلاحها، وكانت هذه الأثرة الدنيئة أفتك بالبلد من كل غارة. ثم انتظم أمورهم دين واحد فأبوه إلا شيعاً وفرقاً وطرقاً، فبادر الأجنبي يعلن حمايته لكل فرقة على حدة ويعترف باستقلالها عن أختها، ويبالغ في تشجيعه على التفرق، وفي تفكيكه عرى الطائفة الواحدة حتى عم البلاء وطم. وهانحن أولاء نرى في قطر عربي صغير كسورية، ثبتاً حافلاً بأسماء طوائف لو وزعت على أهل الأرض ما نجت من شر فتنتها بقعة، وفي كل يوم فرقة جديدة وحماية سريعة

إن خالد بن الوليد طوح بالقيادة والفخر والظفر والمجد وأقبل على النبي واحداً من المسلمين، ونحن لا نكلف هؤلاء السادة طرح شيء فستبقى عليهم زعاماتهم، وسيرجعون أعز ما كانوا إن جندوا أنفسهم في خدمة الحق والخير

وأما العبرة الثانية التي يجدها الزعماء في سيرة خالد، فغاية في إنكار النفس وبذل الروح وإماتة الهوى

أسلم خالد وأبلى البلاء الحسن في كل غزواته مع النبي، ثم في حربه المرتدين، وتوطيده دعائم الوحدة في الجزيرة، ثم في سيره إلى العراق، وانتصاره على الفرس الانتصارات الآخذ بعضها بحجز بعض؛ فمن قهر جيوش، إلى دك عروش، إلى فتح حصون، إلى خطف قواد، إلى قتل أبطال. . . مآثر لو طلب بهن الخلافة لما ساغ في العقل أن يختلف عليه فيها اثنان. ثم يبعثه أبو بكر مدداً إلى الشام ثم يكون يوم اليرموك، وقد بلغ الروم في التعبئة غاية كيدهم وفنهم: عدد كثير، وشجاعة فائقة، واستبسال واستماتة، حتى لقد سلسل رجال منهم أنفسهم للموت بسلاسل من حديد، وقيد آخرون أنفسهم لئلا يفروا، ثم يكون رأى خالد توحيد العمل معلناً في خطبته البليغة المشهورة، ثم جولات منه صادقات، فإذا بالعدد الضخم من الروم يهوى إلى الواقوصة كالبناء المتداعي، ثم يتصل الظفر حتى يكون يوم دمشق، وقد ولي الخلافة عمر، ووصل بريده يعهد إلى أبي عبيدة بالقيادة، ويجعل خالداً جندياً من الجنود؛ وهنا العبرة، وهنا يبدأ الدرس:

في هذا الموقف يختلف خالد وزعماء اليوم، أما زعماء اليوم - من أمتنا طبعاً - فدستورهم الكلمة المشهورة التي نجمت في مصر على ألسنة بعض الناس: (الحماية على يد فلان، ولا الاستقلال على يد فلان)، فلو كانوا مكان خالد لانشقوا بجند عظيم وحاربوا أبا عبيدة ومن معه، ثم ظفر الروم بالفريقين معاً وارتدت الدعوة العربية إلى الحجاز، ثم لا يُدرى أيكتفون أم ينبتون الجزيرة كلها خلافاً وتناحراً. وأما خالد داء الجيوش وقاهر الروم والفرس معاً، فقد كان رجلاً فوق هذا: انضوى إلى لواء أبي عبيدة وأخلص النصح والعمل، ولم يُر أحد أكثر جهداً وانكماشاً وبلاءً منه يومئذ أمام أسوار دمشق. لم ينم عن العدو ساعة قط، ولا فاته من حركاته صغيرة ولا كبيرة، فهو أبداً مقدم منطلق، وهو إلى ذلك يقلب وجوه الحيلة، ويعمل الفكرة كأنه لم يزل هو القائد، حتى هداه النظر إلى نصب السلالم على السور، فالتمس غفلة الحامية في يوم عيد فصعد عليها وطائفة من خيرة الشجعان فواثبوا الحراس ونزلوا إلى الباب فقطعوا إغلاقه بسيوفهم. وقد فتح المسلمون دمشق بحنكته ويقظته واقتحامه وحده لا شريك له في ذلك، ولم يبال أن يكون فخر هذا الفتح لأبي عبيدة أو لغيره، فما عمل خالد لزعامة ولا شهرة، عمل لله وحده وقد رضي الله عنه وأرضى الناس. وأولئك قوم نزع الله ما في صدورهم من غل إخواناً

هذا بدء تاريخنا، أم النهاية التي ختمناه بها نحن: فسلسلة من التفريط وتضييع الفرص، وعبادة النفس والاندفاع مع الأهواء. في سبيل ذلك ضحى المتزعمون بخير البلاد خيراً بعد خير. لنرجع عشرين عاماً إلى الوراء فلننظر: كم مرة خسرنا مراحل في تقدم القضية لأن الحلول لم تكن على يدنا ولا باسمنا؟ وكم مرة غششنا الناس وجهدنا أن نريهم كل حسنة ظفر بها غيرنا سيئة شنعاء؛ وكل شر لبسناه عليهم سعادة الأبد؟

فنجحنا - لأمر يريده الله - وقال الناس لصاحب الخير: (أنت شرير لا يصدر عنك خير، الخير كله في حزب كذا، وقف عليه دون خلق الله أجمعين. . .)

كان هذا في الشام وكان مثله في كل قطر عربي، وهو ما نرى أشباهه في جميع مرافقنا، حيث كان تناحرنا، وتكالبنا وبالاً علينا جميعاً. نعم، هذا ما بلينا به في كل النواحي، في السياسة والإدارة، والحكم والدين و. . . الخ

حصرنا في أنفسنا الإخلاص وخدمة البلاد، لنتمتع بعرض زائل، وكتب الله علينا إثم كل مصيبة نزلت بالأمة من جراء أثرتنا وتدجيلنا، ونحن وأولئك جميعاً، لا نبلغ بعد ذلك كله، أن نكون غباراً على قدم أصغر جندي من جنود خالد.

(طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتها وأنا متترس، والسماء تنهل عليّ، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد. . .

لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. . .

إذ أنا مت فانظروا في سلاحي وفرسي، فاجعلوه في سبيل الله)

هذه حسرة الفاتح الكبير، الذي لم يفارق النصر موكبه ساعة قط. هذه كلمات الذي ساق السعادة إلى بلدين كبيرين: العراق والشام، تفيض باللوعة والأسى، فتثير الإجلال والحزن من أقصى مكامنهما في النفوس.

يتلهف أبو سليمان وهو يحتضر - وكل جسده إما مطعون أو مضروب أو مرمي - على أن لم يقض بين الصفين، أو أمام الحصون، أو في الثغور، جندياً يتخبط بدمه الشاخب، في سبيل إعلاء كلمة الله، ظامئاً مُجهداً مُشعثاً، يرسل من فيه شهادة الحق مع آخر نفس يخرج من صدره الحنون:

رحمك الله يا أبا سليمان! وليس بيدك ما تمنيت، فالله وحده يتوفى ويختار، وما عليك ألا تموت في الساحة بين الصفين، فما كنت لحظة من اللحاظ لتفتر عن جهاد، أو تعبئة لجهاد، أو حديث نفسي بجهاد. ما كنت يا ابن الوليد إلا جهاداً متلاحقاً في سبيل الواجب. لقد أرضيت ربك فجعلك سيفه في الأرض، وأرضيت رسوله فحمد أمرك ورضي عنك، وأرضيت خليفته حتى قال: (ما على نساء قريش أن ينشئن مثل خالد)! وعمر نفسه حين لامك لم يترك إكبارك، ولما نزل الشام ورأى معجزاتك في الفتوح لم يملك أن قال: (أمَّر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر، هو كان أعلم مني بالرجال).

لقد كنت أمة في رجل، فعليك الرحمة من هؤلاء جميعاً، من كل من حارب تحت لوائك. وعليك الرحمة من النساء والصبيان والرهبان والفلاحين والمستضعفين الذين لم تكن تفتأ توصي جندك المنصور برعايتهم، والكف عنهم، والرأفة بهم. وعليك الرحمة من كل نسمة خلصتها من قسوة الفرس، أو ظلم الرومان.

وليس لنا أن نقول بعد تزكية الله ورسوله وخليفته، فما رأت جيوش الرحمة والهداية قائداً أيمن نقيبة منك. ولئن تصرمت حياتك التي كانت نفعاً كلها، وعوضت حياة خيراً منها، فإن خير أعمالك متصل عميم إلى الأبد. ولا يعلم إلا الله كم نفعت سيرتك بعد مماتك، وكم حفزت همماً خامدة وعزائم خائرة

ولقد جاء بعدك أناس كثيرون فبذلوا أرواحهم ودماءهم محامين عن الحق، فخلفوك في إرخاص الروح. ولا نزال نتلو متمثلين ولله الحمد: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) ولا تزال الأرض من المغرب الأقصى إلى طرابلس إلى فلسطين إلى الهند، تنبت الشهداء، ولا يفتأ الدم الطاهر يجري أنهاراً في سبيل الحق. . .

ولكن أحداً من الزعماء لم يخلفك في إنكار الذات وإهانة الهوى وقهر النفس، ولم يذكر التاريخ بعدك قائداً فعل فعلك يوم اليرموك أو يوم دمشق.

(دمشق)

سعيد الأفغاني