مجلة الرسالة/العدد 297/رسالة الإسلام خالدة

مجلة الرسالة/العدد 297/رسالة الإسلام خالدة

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1939



لِلأستاذ محمد فريد وجدي

وقر في عقول أهل العلم الغربيين، وعقول من نهل من حياضهم من الشرقيين، أن الأديان التي احتضنت الجماعات البشرية منذ نشوئها إلى عهد قريب قد انتهى دورها، وانقضت رسالاتها، لعدم وجود نفع يرجى للجماعات الراهنة منها. وكثيراً ما أُسأل: هل رسالة الإسلام لا تزال قائمة؟ فأجيب: نعم، وأبد الدهر. ولست في تأكيدي هذا بواقع تحت سلطان العقائد الوراثية، ولا بمخدوع بالأوهام التقليدية، ولكني مستند فيه إلى علم، وماض فيه على بينة

ذلك أن كل مجموعة من التعاليم يحكم عليها بانقضاء دورها، حين تستنفد الحياة كل ما فيها من غذاء يناسبها، أو تتطور العقول وتظل هي جامدة لا تماشيها، فتترفع عن الأخذ بها؛ ولكن تعاليم الإسلام لا تجري عليها هذه السنة، فقد جاءت بالمثل العليا في كل ناحية من نواحي الحركة الروحية والعقلية والاجتماعية، فكيف يعقل أن تنتهي له رسالة، أو تزول له دولة؟

فأما من ناحية الحركة الروحية فإن الإسلام يصرح بأنه دين الفطرة الإنسانية، وهذه الكلمة أسمى ما يعبر به عن دين يخلد خلود البشرية. فإن الفطرة مودع فيها شريعة النوع كله بالقوة، وهي واحدة في جميع الأفراد لا تتعدد إن لم تفسد بدس تعاليم خارجية إلى النفس تحولها عن سمتها الطبيعي. وقد شدد الإسلام في النهي عن إفسادها بالتعاليم الضارة بها في كل مناسبة؛ وقد زاد فحاطها بحوافظ قوية من ضروب مختلفة، فنبه النفوس أولاً إلى ضرر التقليد الأعمى للآباء والقادة، وأمر بطلب الدليل المقنع على كل عقيدة يتقدم بها داع لنحلة، وصرح بأن الإيمان التقليدي لا يقبل، وأن الإنسان مسئول عن عمله الشخصي، وأن أحداً لا يغني عنه شيئاً، وأن أكثر من في الأرض لا يتبعون إلا الظنون والخزعبلات الموروثة، وأن الدين يهتدي إليه الإنسان على ضوء العقل الناضج والعلم الممحص، وأن الإنسان يترقى في معارج الهداية بقدر ما يخلص في طلب الحق، ويتجرد من الأهواء والأوهام، ويثابر على النظر والفكر، ويستمع لكل كلام فيتبع أحسنه، ولا يأنف أن يأخذ بحقيقة يأتيه بها من يخالفه في دينه ولغته، وألا يصر على قول إذا ظهر له وجه الصواب في تركه، وألا يتعصب لمذهب أو رأْي تعصباً يعميه عن نظر ما عسى أن يكون فيه من الثلم أو يرد عليه من الاعتراضات، وأن يكون دائماً حريصاً على استقلاله العقلي وحريته الفكرية، مستعداً لأن يصحح ما يتضح له أنه مخطئ فيه، معتقداً أن ليس بعد الحق إلا الضلال.

وبناء على هذه الكليات يرى الإسلام أن الناس ماداموا كلهم متشابهين في الخلقة، ومتساوين في الميول والعواطف، فلا يصح أن تكون لهم أديان متعددة لم بفرق بينها إلا أهواء القادة وأوهام الزعماء، فإنما هو دين واحد، دين الفطرة المؤيد بالعقل والنظر، المنزه عن الظنون والوساوس، الجامع لكل ما حصلته الإنسانية في أدوار حياتها من مذخورات أدبية، وفتوحات روحية، فقال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) وقال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)

وأما من ناحية الحركة العقلية فإن الإسلام قد رفع من شأن العقل ونوه بسلطانه، إلى حد أنه اعتبر الذين لا يقيمون له وزناً في تقدير قيمة عقائدهم دوابَّ تحقيراً لهم، فقال تعالى: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون). وعد الذين لا يستخدمون حواسهم الظاهرة في النظر والتأمل، ومشاعرهم الباطنة في الاستدلال والتعقل، أنعاماً بل أضل. قال الله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)

وشفع الإسلام كل هذا بالتحضيض على طلب العلم والتحريض على تصيد المعرفة من كل المظان التي يتخيلها العقل، من النظر في الكون والتأمل في الكائنات، والتنقيب عن مساتير الخليقة والسريان في سرائر الوجود، في السماء وأجرامها، في الأرض وعوالمها، في الحيوانات وعجائبها، في النباتات وبدائعها، كل ذلك لبناء الشخصية الإنسانية وإبلاغها إلى ذروة الكمال المقدر لها. ولقد رفع من شأن العلم في نظر الإنسان إلى حد أنه حصر فهم آيات الله وإدراك مراميها، وفهم مغازيها في أهل العلم، فقال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وقال: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) وقال: (إن في ذلك لآيات للعالمين) بكسر اللام فيهما. ولا يمكن أن يتخيل أحد أن يتجاوز التنويه بشرف العلم هذا الحد

هذا ولم يغفل الإسلام في تطلب ترقية الشخصية الإنسانية شيئاً، حتى الضرب في الأرض، وتعرف أحوال الأمم وطبائعها، ودراسة ما هي عليه من شرائعها وعاداتها، وناهيك بأثر ذلك في ترقية النفسية البشرية، فقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها. أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). وقد كرر الحض على السياحة مراراً كثيرة

وأما من ناحية الحركة الاجتماعية فإن الإسلام قد بلغ بها الأفق الأعلى، وأوجد في رابطة الاجتماع تجديداً لم تحلم به الإنسانية بعد، ولا مناص في أنها ستعول عليه في المستقبل، فقد جعلها الإسلام مؤلفة من الأصول الأدبية، والقواعد الخلقية، لا كما كانت قائمة عليه من الحاجات الجسدية، والمقومات القومية. فعل الإسلام ذلك لتشمل تلك الرابطة النوع البشري كافة، وتلاشي في طريقها الفروق الجاهلية القائمة على الجنسية، والخلافات اللغوية واللونية التي كانت ولا تزال عوامل شقاء في بنية الإنسانية، بما تثيره من الحروب والغارات بينها، وما تمحق من روح التكافل والتعاون فيها. فالإسلام لا يعترف بفرق بين عربي وعجمي وصيني وتركي، وجاوي وفرنسي الخ، فالناس كافة في نظره أولاد آدم وحواء، وقد خلقوا ليتعارفوا ويتعاونوا، لا ليتناكروا ويتناحروا، فقال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير)

فالإسلام يقرر أنه مادام النوع البشري واحداً، فيجب أن يكون له دين واحد وغرض في الحياة واحد. وأنت ترى أن العالم كله رغماً عن طغيان العاطفة القومية في هذا العصر، وازدياد عوامل الفرقة والخلاف بين الشعوب، سيضطر إلى التوحد، وستكون هذه الموجة نفسها من الخلاف والتفرق من أكبر العوامل في إيجاد تلك الوحدة المرجوة، لأنها ستتثبت بدليل محسوس أن هذه الوحدة هي العامل الوحيد لنجاة المدنية من التلاشي.

إذا اعتبرت كل ما ذكرته هنا رأيت بما لا يدع شكاً أن رسالة الإسلام لا تزال باقية، وأنها ستبقى ما بقي النوع الإنساني على الأرض. وإنما تزول التعاليم إذا كانت مقدرة على أحوال معينة، متى ارتقت أصبحت تلك التعاليم لا تسد حاجة المجتمع فتزول، أو يثبت فسادها بترقي العقول. فتتلاشى مع كل ما يتلاشى من أمثالها

ولكن ما بيناه من تعاليم الإسلام هنا لا يعقل أن يزول، لأنها أصول أدبية خالدة، ومثل عليا لا يمكن التماري في سموها، وفي تأدي العالم في المستقبل إلى محاولة تحقيقها.

محمد فريد وجدي