مجلة الرسالة/العدد 297/روح الإسلام في العبادة

مجلة الرسالة/العدد 297/روح الإسلام في العبادة

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1939



لِلأستاذ عُمر الدسوقي

من ذياك المخلوق المتجبر الذي تعنو له جباه الضواري في أدغالها، وتفرق من طلعته الوعول في معاقلها، ويمعن السمك في مساربه هلعاً لدنوه، وتهابه الطيور في أوكارها، والصّلال في أجحارها؟! هو الإنسان! درج على الأرض فكان سيدها المطاع، ولم تعجزه إلا تلك القوى السماوية، من ريح زفوف عاتية، أو رعود قاصفة مدوية، أو زلازل تميد لها الأرض تحت قدميه، أو براكين تثور محنقة غاضبة أمام عينيه. كيف يدرأ شرها، أو يحوز رضاها؟ سجد لها وتضرع، وتزلف بالقربى والابتهال. ولكنه خلق وفي نفسه عنجهية وكبرياء، فأخذ على مر القرون يتنكر لها، ويشمر عن ساعده لتسخيرها وصرعها، وكلما ذاق لذة الظفر مرة، قوى إيمانه بقدرته، وجلال عقله، وكفر بها، ولج في كفرانه؛ بيد أنه أحس من أعماق فؤاده نداء خفياً أن ثمة إله آخر، أنت والدنيا والطبيعة صنع يده القادرة! ما بالك كلما حز بك مر، أو تكأكأت عليك المصائب، أو خطف الموت فلذة كبدك وأحباءك، تنادي في ذلة وضراعة ذلك الإله الذي لا تراه، أنْ رفقاً يا رباه، فليس لي حول ولا طول أمام جبروتك وعظم ملكوتك. قرت في جنانه تلك العقيدة فهدأ بلباله، وطفق يلهج بما يكنه فؤاده من حب ومعرفة بالجميل، وندم وتوسل، لذلك الإله الدائم اليقظة، الذي ينشر رحمته على الدنيا جمعاء. وهل الصلاة والعبادة سوى مظهر من مظاهر ذلك الشعور الذي يفيض به قلب الإنسان؟

فكر في كنه ذلك الإله، ثم فكر حتى أجهده الفكر، وكبا عقله في الميدان صريعاً، وزين له الشيطان أن يصور ذلك الإله ويرمز له، ويعبد الرمز تقرباً إلى الله وزلفى؛ ثم أتى عليه حين من الدهر نسى مغزى هذه الرموز والأصنام، فخالها آلهة قادرة، يتحكم كل منها في شأن من شئون العالم؛ وتوهم أن لها ما للإنسان من شهوة ورغبات، وإحساس وشعور؛ ومادام الإنسان لا يَقر عيناً ويطيب نفساً إلا إذا عَلَّ من معين المادة حتى روى، فكذلك الآلهة لابد له من القرابين والضحايا. شاد المعابد والهياكل وأخذ يتعبد كما زخرف له الشيطان؛ ولهذا كانت العبادة عند قدماء الهند تتألف من الطهارة والقرابين، وظلت هكذا ردحاً من الزمن غير قصير، حتى آب الإنسان لرشده وارتقت الفكرة الدينية عن الهند الأقدمين، ففهموا للطهارة والقربى مغزى غير ما أدرك أسلافهم؛ بيد أن البرهمية لم تحد قيد شعرة عن إيمانها بالقربان؛ ولاسيما بعد أن قويت عقيدة الدهماء بالكهنة، وما حبتهم الآلهة من فضائل خفية هي حَبْس عليهم وعلى ذرياتهم من بعدهم

اعتقد طغام الناس أن الآلهة لن تتقبل القربان، إلا إذا باركه الكاهن، وقدمه بيده، وبطريقة معينة لا تغيير فيها ولا تبديل، مرتلاً خلال ذلك أناشيد وأدعية، يرددها لسانه، ولا يحس بها جنانه، بينما يقف المتقرب مكتوف اليدين يسمع ويرى دون أن يضرب بسهم، أو يفوه بكلمة، في هذه العبادة التي أقيمت من أجله. لم تكن العبادة تقدر بسيرة المتقرب الخلقية، وفضائله ومزاياه، أو رذائله ونقائصه، ولكن بحذق الكاهن وبراعته في تأدية المراسيم الدينية غير متلعثم اللسان، أو جامح اليد، وإلا بطل ثوابها وحبط عملها؛ وما على المتعبد إلا أن يعتقد بأن الآلهة سوف تسبغ عليه أبراد الرحمة ضافية، جذلاً بما قدمت يداه

أما الزرادشتيون، والصابئون من الفرس، فقد عاشوا في دنيا من الصلوات والدعاء؛ فكان الزرادشتي يتمتم بالدعاء، إذا عطس، أو قلم أظفاره، أو قص شعره، أو حاك ثيابه، أو طهى طعامه، أو أشعل مصباحه، ليلاً ونهاراً، لا يكل ولا يمل

دانوا بالعبادة بادئ ذي بدء لإلههم (أورمزد)، ثم ما لبثوا أن قدسوا السماء وبروجها، والأرض وجبالها، والوحوش الكاسرة، والأشجار المتباينة، وكان لنبات القمر منزلة في نفوسهم لا تسامى

وما كانت عبادتهم سوى تكرار صيغة من الدعاء، فقدت ما بها من حرارة، وذهب ما لها من طلاوة وتأثير بكر الزمان ومر العشي. أجل! أن المثل الخلقية كانت جلية عند بعض مفكريهم، ولكن الشعب لم يدرك لها رسماً. أضف إلى ذلك أن الكهنة خصوا أنفسهم بالحياة الروحية، وحرموها على سواهم من الناس؛ كما شيدوا حصوناً من القداسة كانت لهم معقلاً يباعد بينهم وبين غيرهم، ويحول بين الناس وبين المتعة الروحية السامية؛ لأن الكهنة ابتدعوا نوعين من العبادة، أولهما حِكر عليهم وعلى طائفتهم، وثانيهما مباح للناس أن يساهموا فيه

أما اليهودية فجاءت خلواً من الأوامر التي تحث على الصلاة، اللهم إلا صيغة واحدة من الدعاء يلفظ بها رب الأسرة، حين يدفع جُعل الكاهن، أو يتقرب بباكورة ماشيته وزرعه، مثنياً فيها على الله أن مكنه من القيام بامتثال أوامره، ومتوسلاً إليه أن يسبغ بركاته على بني إسرائيل

ثم سمت الفكرة الروحية حول الذات العلية، عند عامة اليهود، ووعاظهم، واختفت عقيدة التجسيم من أفئدتهم، وأدرك الناس أن العبادة شرعة يصل بها العبد إلى مولاه؛ ومن ثم أصبح اليهود بالعرف والعادة أمة ذات صلاة، على الرغم من فقدان النص الصريح في شريعتهم. ولكن الصلاة عادت آلية في كثير من الأحيان؛ لأن الشعب لم يجد مناصاً عن طلب الكاهن ليؤمهم، إذ لم يكن بين أيديهم تشريع خاص من الله يرجعون إليه؛ ونفقت سوق الكهنة وأخذوا يبيعون كلمات الله بثمن بخس دراهم معدودات. ألم يعنفهم القرآن على ذلك الجرم في سورة البقرة مخاطباً بني إسرائيل: (ولا تَشْتُروا بآياتي ثمناً قليلاً، وإيَّايَ فاتَّقُون)؟؟

ثم مثلت تعاليم المسيح تطوراً جديداً في شعور الإنسان الديني وقدرت الصلاة حق قدرها، واقتفى الحواريون خطى إمامهم فعكفوا على عبادة الله وحمده؛ ولكن المسيحية، جاءت كاليهودية، خِلوا من قواعد معينة، ونظم محدودة، يسترشد بها الدهماء في صلاتهم، فتركوا على مر الزمن ألعوبة في يد القسيسين الذين أخذوا على عاتقهم، تنظيم العبادة، وبيان أوقاتها ومراسيمها؛ ومن ثم ألفت كتب الصلاة والأنظمة الدينية، والمجالس الكنسية؛ لتبين للناس ما يعتقدون وكيف يتعبدون؛ ومن ثم برزت للوجود عبادة الرهبان الآلية، وأناشيدهم وترتيلاتهم التي لا روح فيها؛ واخذ الناس يهرعون إلى الكنائس يوماً من كل أسبوع، ليأخذوا ما فاتهم من الغذاء الروحي خلال الأيام الستة الأخرى.

كانت هذه حال الديانات في القرن السابع الميلادي، حين سطع نور الرسالة المحمدية في أفق صحراء العرب، يهدي الناس إلى دين جديد، يشبع نهم نفوسهم، ويسمو بأرواحهم إلى الدرجات العلى. دع جانباً ما كانت تهيم فيه الأمة العربية ذاتها، من ضلال، وفساد في العقيدة، وإسفاف في الفكرة الدينية، وعجز عن إدراك عظمة الإله وقدسيته، وطوافها بأصنام من الحجر الصلد، لا تحير جواباً إذا نوديت، أو تنفع إذا دعيت، أو تشع في الفؤاد نوراً أو تبعث في الروح يقظة إذا عبدت وقدست.

نفذ الإسلام إلى قرارة الروح الإنسانية، ورأى تحرقها للإفصاح عن حبها وشكرها لله، ففرض صلاة، تسعد بها النفوس، وتنبل الأخلاق، وتسمو العقول؛ وجعلها على أوقات، حتى لا يسبح الفكر الإنساني في عالم الماديات، وينسى غذاءه الروحي. وقد أوضح صاحب الرسالة عليه السلام كيفية أدائها قولاً وفعلاً، لئلا يترك الناس فوضى في عباداتهم.

وغدا المجال فسيح المدى أمام كل فرد، ليعبد الله بقلب يفيض حباً وضراعة وإخلاصاً.

إن الصلاة التي تؤدى، والنفس تعمرها الخشية والخشوع، لجديرة أن تجعل من الإنسان مَلَكاً يغمر الناس حباً وحناناً وخيراً وإحسانا، وفي ذلك يقول الله سبحانه: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر)

وهاك ما قاله أحد كتاب الإنجليز مرة: تتجلى عظمة الإسلام في أن معابده ليست مما تشيدها الأيدي، وأن المسلم يستطيع تأدية صلاته في أي مكان شاء، تحت القبة الزرقاء، أو على ظهر البسيطة) أي بقعة يصلي فيها المسلم مخلصاً لله حنيفاً فهي له مسجد (جعلت لي الأرض كلها مسجداً، وتربتها طهوراً)

لم يقدر المسيحيون ما في صلاتنا من قوة روحية ومعنوية، ونبي الإسلام يقول: (جعلت قرة عيني في الصلاة) لأنه يناجي ربه ويجرد روحه أمام بارئه دون وساطة أو شفيع. وقد ثبت عن الثقاة أنه كان يبكي، وينتحب في صلاته، ويتململ تملل السليم تضرعاً إلى الله، وإنابة له.

لا رهبانية في الإسلام؛ لأنه دين سمح، سهل، يكفل خيري الدنيا والآخرة، ولم يدع أي شيء يحول بين العبد وربه: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيبُ دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا لعلهم يرشدون) وهذا ما جعل الإسلام يهزم البوذية والزرادشتية في عقر دارهما، ويدخل الناس فيه أفواجاً من كل أمة ونحلة؛ هرباً من عتو الكهنة واغتصابهم لحريتهم، وتحكمهم في أرواحهم.

كل مسلم مكلف بمعرفة دينه، والتفقه فيه، فلا طوائف دينية في الإسلام، ولا كهنة حباهم الله القداسة والقربى، بل الناس أمام الله سواسية كأسنان المشط، أكرمهم عنده أتقاهم. والتشفع بالأولياء، في شرعة الدين الحقة، ضرب من البدع وانحراف عن جادة الصواب، وروح الإسلام.

ربما توهم بعض الناس أن التقرب إلى الله بإراقة دماء الأضحية من تعاليم الإسلام، ولكن هذا باطل لأن نحر الأضاحي في عيدنا الأكبر تذكرة بما قام به سيدنا إبراهيم لا غير، فضلاً عما فيه من إطعام البائس والفقير؛ ولذلك يُهدى ثلثها ويُتصدق بثلثها، ويؤكل ثلثها الباقي.

جعل الإسلام طهارة البدن شرطاً في صحة الصلاة، وفي الوقت ذاته نص على أن مجرد الطهارة البدنية لا يغني أمام الله فتيلاً، إذا لم تصحبها طهارة في الروح، وإخلاص في القلب، وخلوه من الكبر والرياء، والحسد والبغضاء.

يستقبل المسلمون جميعاً مكة في صلاتهم؛ حتى يظل مهد الإسلام الذي انبثق منه هذا النور الفياض، والذي شاهد أشعته الأولى تبدد دياجير الجهل، ملء سمع المسلمين وأبصارهم؛ وحتى يتمثلوا موطن ذياك الصراع العنيف بين الحق وصولته، والباطل ودولته، وكيف حطمت الأصنام وطهرت الأرض من أدران البغي والعدوان، والعشق والدعارة؛ وحتى يتذكروا أن إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها يشاطرونهم شعورهم، ويولون وجوههم صوب هذه البقعة المباركة كما يتوجهون، وأن المسلم عضو في جماعة عظيمة تملأ فجاج الأرض، يربطها دين واحد، ويحفزها رجاء واحد، وتؤمن بإله واحد.

تلك هي روح الإسلام في فرع واحد من فروع العبادة، ولولا خشية الإطالة لبينت ما في الصوم والزكاة والحج من فكرة سامية وروح عالية.

عمر الدسوقي