مجلة الرسالة/العدد 298/إنجليزي يتحدث في السياسة

مجلة الرسالة/العدد 298/إنجليزي يتحدث في السياسة

مجلة الرسالة - العدد 298
إنجليزي يتحدث في السياسة
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 03 - 1939



لأستاذ كبير

أعرف إنكليزياً داهية في السياسة وإن لم يكن له مركز سياسي، ولكنه يميل إلى المبادئ الحرة. قابلته مرة وتحدثنا وجرنا الحديث إلى السياسة فقال: إنه يدهشني أن يكون بين المصرين من يسئ الظن بالسياسة الإنكليزية. فقلت: إن كنت قد رأيت من يسئ الظن بها من المصريين فلا يدهشك أن يكون بين الملايين من الناس آحاد يفعلون ذلك إذا كنت حقيقة قد رأيت منهم سوء الظن ولم تتوهمه. قال: ومع ذلك فأن أعظم الناس سذاجة يستطيع أن يفهم أننا لو شئنا نقض سياستنا الموالية لحليفتنا لكان ذلك من أيسر الأمور. قلت: ماذا تعني؟ قال: أعني أننا لا نريد الغدر بصديق ولسنا معروفين بذلك، فهذا تاريخنا يدل على أننا لم نغدر بأحد أئمتنا، فقد كنا دائماً أمناء، وكانت استقامتنا مضرب الأمثال، وليس لنا نفع نرجوه من وراء الغدر لأننا لا نريد أن نتحمل مسؤولية الحكم فتزيد أتعابنا العالية.

ثم سكت قليلاً وعاد إلى الكلام فقال: على أننا لو أردنا لاستطعنا أن نتبع خطة تطلق يدنا من غير أن نتحمل مسؤولية الحكم وأتعابه في الظاهر. ثم التفت إلي وابتسم ثم قال: ولكنا لا نريد. قلت: إني لم أفهم كلمتك الأخيرة. فسكت كأنما يشاور نفسه ويسألها: هل يبوح بما في نفسه أم لا يبوح؟ وبعد ذلك لوح بيده إشارة عدم الاكتراث لما قد يكون من نتائج ما أزمع أن يفسره وقال:

هناك أمور ثلاثة يمكن استثمارها وهي الأمور الدينية والأمور المالية والأمور الدستورية. ولا أعني استثمارها مباشرة أو الظهور بمظهر المستثمر لها؛ بل لابد إذا اتبعنا هذه الخطة ألا يفهم أحد أننا نستثمرها. ولنجاح هذه الخطة ينبغي ألا يفطن إليها أحد، ومن أجل ذلك يمكنك أن نثق بسبب شرحها لك أننا لا نريدها لأننا لو كنا نريدها لكتمناها ولأنكرناها إذا فكر فيها أو فطن إليها غريب عنا، ولحاولنا أن نقنعه بكل الوسائل أننا لا نريدها وأننا لم نفكر فيها.

قلت: وما هي هذه الخطة؟

قال: إنك تعلم أن خطتنا التقليدية كانت عدم المساس بالشعور الديني في صدر المحافظ عليه؛ ومع ذلك كنا نستعمل وسائل كثيرة للتوفيق بين احترام الشعور الديني واحترام العرف والتقاليد، وبين مراعاة حالة مصر الدولية ووجود الأجانب بها ومراعاة ما تقتضيه التغيرات الاجتماعية والقانونية والفكرية الحديثة. وقد كان التوفيق بينهما يقتضي مرونة ولياقة إلى حد يجعل ذلك التوفيق غير مُحَسٍ به ولا مفطون له، وعلى ذلك كان يتوقف نجاحنا. ولا أقول إننا نجحنا كل النجاح، ولكني أقول إننا نجحنا نجاحاً يسهل إدارة الأمور فاكتسبنا مؤازرة العلماء والقائمين بأمر الدين فيما يهمنا من تصريف الأمور، كما تمكنا أن نمنع من حدوث ارتباك بسبب اصطدام الشعور الديني وشعور المحافظة على العرف والتقاليد بمنزلة مصر الدولية وبما تقتضيه التغيرات الاجتماعية والقانونية والفكرية الحديثة. . . وهنا ابتسم ابتسامة مكر ودهاء وقال: فلو كنا نريد بسط يدنا في إدارة شؤون البلاد مباشرة، لاستطعنا أن نمتنع عن هذا التوفيق بطريق مباشر وبطريق غير مباشر، واستطعنا أن نشجع المحافظة على التقاليد حتى يستولي على زعامتها أشد الناس تطرفاً، وأظهرنا في أول الأمر عدم ميلنا إلى التدخل. وهذه الخطة تؤدي حتما إلى تدخلنا في النهاية وإلى كسب الأنصار أولاً وأخيراً وإلى وجود الأعذار والفرص التي تبرر وتسهل ذلك التدخل وتجعله أمراً لا مناص منه حتى لدى كثيرين ممن يكرهونه.

قال ذلك وسكت قليلاً وجعل يضرب ركبته بأطراف أصابعه وكأنه مشغول بالتفكير في أمر. . . ثم التفت إلي كأنما قد أفاق من انشغاله بالفكر وقال:

أما المسائل المالية فإنكم تعلمون أنها هي التي أطلقت يدنا في مصر منذ ارتبكت المالية المصرية في عهد الخديو إسماعيل باشا وما كنا نستطيع أن نجيب طلبات المصريين الوطنية وأن نقيد يدنا في مسائل إدارة شؤون البلاد لولا أننا أصلحنا المالية؛ فلو كانت المالية لم تصلح لاضطررنا أن نضرب بمطالب المصريين عرض الحائط بحكم الضرورة ولوجدنا أنصاراً كثيرين من المصريين والأجانب يشد أزرنا في خطة التمسك بإدارة شؤون البلاد، بل لوجدنا من المصرين والأجانب ومن الدول أيضاً من يطالبنا بالتمسك بإدارة شؤون البلاد ويصر على ذلك خوفاً من كل على أمواله. لكننا لا نرى من يطالب أو يصر على ذلك لأن مالية الشعب والحكومة تحسنت كثيراً. . . وهنا عاد إلى سكوته كأنما يريد مني أن أهضم ما قاله وأن أفكر فيه، وأقتنع بصدقه قبل استئناف الحديث، ثم عاد إلى الكلام فقال: لو كنا نريد أن نطلق يدنا في إدارة شؤون البلاد لاستطعنا أن نشجع الإسراف أو على الأقل نشجع الصرف صرفاً كثيراً على أمور لا تأتي بثمرة اقتصادية ولا بربح اقتصادي مباشر، وهذا أمر ميسور لنا (أولاً) بسبب شعور مصر بمقام استقلالها بين الدول وما يقتضيه من المصروفات في الأمور السياسية، و (ثانياً) بسبب خطر الحرب وما يقتضيه من المصروفات في الأمور الحربية. وهذا الصرف تطالب به العزة القومية ولا يشك أحد في مطالبتها به. على أنه مهما حسنت مالية الدولة والشعب فإن مالية الدولة لا تتوقف على موازنة الدخل والمنصرف في الميزانية وحدها ولا على الاحتياطي من المال لديها وحده، وإنما تتوقف أيضاً (أولاً) على موارد الدولة، وتنوعها ضروري لأنها إذا لم تكن متنوعة وأصيب المحصول الرئيسي بفشل أو تدهور مستمر في الأسعار ربما ذهب حسن المالية الذي برر كف يدنا عن التدخل في إدارة الشؤون. و (ثانياً) تتوقف مالية الدولة أيضاً على دخل الأهالي، فإذا فرضنا أن ثروة قطر من الأقطار زادت لتحسن طرق الإنتاج ومقداره ولكن زاد عدد السكان زيادة كبيرة وارتفع مستوى المعيشة وزادت الديون التي على الأهالي وكثر المتعطلون عن العمل وكان أكثر أفراد الشعب لا يملكون إلا القليل وبدأ يقل محصول الفدان الواحد في مقداره إذ كان القطر زراعياً. . . أقول إذا اجتمعت كل هذه الأمور وأشباهها لا يختزن أفراد الشعب كثيراً مما كان من ازدياد مجموع ثروة الشعب، ولا يكون عند الشعب من المتانة المالية ما يسند متانة الحكومة المالية ويشجعها في المضي في الصرف بسخاء على أشياء قد تكون شبه ضرورية. فإذا اعتمدت الحكومة على متانة ماليتها الحاضرة وحدها من غير نظر إلى ما قد تؤدي إليه هذه العوامل الاقتصادية في النهاية. وإذا أردنا أن نطلق يدنا في إدارة الشؤون ونجعله أمراً محتوماً يطالب به كما كان في الماضي أمكننا أن نقلل من أثر هذه العوامل وأن نهون أمرها لدى الحكومة. . . قال ذلك ثم التفت إلي وقال: ولكن الحكومة المصرية متيقظة تمام التيقظ. . . وقال: ومع ذلك يمكننا - إذا شئنا - أن نتغلب على هذه اليقظة. ولكننا كما أوضحت لك لإنشاء تحمل مسؤولية وأعباء الحكم حتى ولو أنه من المستطاع تحميل الحكومة الوطنية التي تطلق يدنا كل الإطلاق مسؤولية وأعباء الحكم. ثم رجع إلى سكوته الطويل كي أتدبر ما قاله عن المسائل المالية والاقتصادية كما سكت طويلاً بعد كلامه عن المسائل الدينية.

وبعد ذلك التفت إلي مرة أخرى وقال:

بقيت مسألة نظام الحكم، ونحن بطبيعتنا نميل إلى الحكم الدستوري الذي كنا أول من شاده بين الأمم، ونفضل الاتزان والاعتدال في الحكم الدستوري. وكثيراً ما تحول الدستور في بعض الدول الأوربية إما إلى حكومة نفعية غير ديمقراطية من طبقة المغامرين، وإما إلى حكومة رعاع مؤقتة. ولكننا في انجلترة قد صنا الديمقراطية على الحالتين؛ وهذا هو سبب ثبات الديمقراطية عندنا. ومن أسباب ثباتها أيضاً قدم عهدنا بالنظام البرلماني الدستوري ومحافظتنا على القديم من تقاليدنا الدستورية، أما عندكم فلا يوجد تقاليد كما عندنا تتغلب على النزعة التي ذاعت في كثير من الأمم للتخلص من النظام البرلماني أملاً في إصلاح أو رقي أو تحسن سريع يأتي على يد حكومة قادرة من الأكفاء يمكن انحصار السلطة فيها في أيد قليلة ويمكن عدم تقيدها بدورات المشاريع وعدم تأخرها؛ بسبب الشورى وبسبب قيود نظم الحكومات الدستورية. وقد بدأ الكتاب يكتبون في هذه النزعة في مصر وبدأ بعضهم يحبذها. فلو أننا كنا نريد إطلاق يدنا كل الإطلاق في إدارة شؤون البلاد لاستطعنا أن نشجع هذه النزعة بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر وكان يمكننا أن نتخذها وسيلة لخلق حالة في البلاد تتطلب أن نتدخل بسبب نزاع أنصار الديمقراطية وأنصار الدكتاتورية وما يؤدي إليه. بل يمكننا أن نخلق حالة تدعو كثيرين إلى مطالبتنا بالتدخل سواء أكان ذلك بسبب هذه الحالة التي يخلقها النزاع بين الدكتاتورية والديمقراطية أو بسبب المسائل المالية أو بسبب المسائل الدينية لو شئنا أن نتبع الخطة التي أوضحت لك إننا يمكننا أن نتبعها في المسائل الدينية أو المالية أو الدستورية؛ ولكنا كما قلت لا نشاء اتباع هذه الخطة حتى ولو أدت إلى إطلاق يدنا إطلاق تاماً في إدارة شؤون البلاد من غير تحمل مسؤولية وأعباء الحكم، إذ نستطيع أن نجعل من نشاء يتحملها عنا إذا جاءت نتائجها أحياناً عكس ما توقنا. ولو أننا كنا نشاء اتباع هذه الخطة لما كنا نتحدث فيها بصراحة إلى كل من نقابل من الناس.

وهنا غلبه الضحك فضحك ثم قال: والمأمول أن لا يفعل المصريون من تلقاء أنفسهم بدون دافع منا ما يؤدي إلى إحدى الحالات الثلاث التي تحتم تدخلنا ونحن آسفون على التدخل.

قارئ